الفهرس

فهرس الفصل الرابع

المؤلفات

 العلوم الاخرى

الصفحة الرئيسية

 

العصر التركي الأول

من خلافة المتوكل سنة 232 إلى تسلط الديلم سنة 334هـ

نريد بهذا العصر المدة التي استبدّ فيها الأتراك بالدولة العباسية وهم الأجناد تمييزاً له عن العصر العباسي الفارسي الذي استبد فيه الفرس وهم الوزراء، ليس بين العصرين حد فاصل ينتهي إليه الواحد ويبتدئ منه الآخر بل هما تعاصرا مدة من الزمن والترك أمة قديمة جداً. ولما ظهر الإسلام وانتشر العرب في أنحاء العالم وطأت حوافر خيولهم بلاد الترك وهم يعبرون عنها بما وراء النهر ففتحوا بخارى وسمرقند وفرغانة واشروسنة وغيرها من تركستان. ولما تولى العباسيون كانت تلك المدن خاضعة للمسلمين يؤدون عنها الجزية والخراج وكانوا يحملون في جملة الجزية أولاداً من أهل بادية تركستان يبيعونهم بيع الرقيق وهم في الغالب من السبي أو الأسرى على جاري العادة في تلك العصور، فضلاً عمن كان يقع منهم في أيدي المسلمين في أثناء الحروب بالأسر أو السبي ويعبرون عنهم بالمماليك ويفرقونهم في بلاط الخلفاء ومنازل الأمراء، فأخذوا يدينون بالإسلام.

المعتصم والأتراك

أول من استخدم الأتراك في الجندية من الخلفاء المنصور العباسي ولكنهم كانوا شرذمة صغيرة لا شأن لها في الدولة وإنما كان الشأن الأكبر يومئذ للخراسانيين (الفرس) والعرب. ولما اشتد التنافس بين العرب والفرس في أيام الرشيد وذهبت سطوة العرب بذهاب دولة الأمين وتسلط الفرس أنصار المأمون وأخواله واستبدوا في الدولة كانت الحضارة قد أضرت بالمسلمين وأذهبت منهم قوة التغلّب والفتح، ففكّر المعتصم أخو المأمون في ذلك قبل أن تفضي الخلافة إليه وكانت أمه تركية وفيه كثير من طبائع الأتراك مع الميل إليهم لأنهم أخواله كما كان يميل المأمون إلى الفرس. وشاهد المعتصم من جرأة الفرس وتطاولهم بعد قتل الأمين حتى أصبح يخافهم على نفسه، ولم يكن له ثقة بالعرب وقد ذهبت عصبيتهم وأخلدوا إلى الحضارة والترف وانكسرت شوكتهم فرأى أن يتقوى بالأتراك وهم لا يزالون إلى ذلك العهد أهل بداوة وبطش مع الجرأة على الحرب والصبر على شظف العيش، فجعل يتخيّر منهم الأشداء. فلما أفضت الخلافة إليه كان الأتراك عوناً له وتكاثروا حتى ضاقت بغداد بهم وصاروا يؤذون العوام في الأسواق فينال الضعفاء والصبيان من ذلك أذىً كثيراً وربما رأوا الواحد بعد الواحد قتيلاً في قارعة الطريق، فاتفق أن المعتصم خرج بموكبه يوم عيد فقام إليه شيخ فقال له: (يا أبا إسحاق) فأراد الجند ضربه فمنعهم وقال: (يا شيخ ما لك؟) قال: (لا جزاك الله عن الجوار خيراً جاورتنا وجئت بهؤلاء العلوج من غلمانك الأتراك فأسكنتهم بيننا فأيتمت بهم صبياننا وأرملت نساءنا وقتلت رجالنا) والمعتصم يسمع ذلك فدخل منزله ولم يُرَ راكباً إلى مثل ذلك اليوم فخرج فصلّى بالناس العيد ولم يدخل بغداد بل سار يلتمس معسكراً لأجناده حتى أتى سامرّاء فاتخذها معسكراً فأعجبته وسماها (سرَ من رأى) واختط فيها الخطط وأقطع أتراكه القطائع على حسب القبائل ومجاورتهم في بلادهم وأفرد أهل كل صنعة بسوق وكذلك التجار، فبنى الناس وارتفع البنيان وشيدت القصور وكثرت العمارات واستنبطت المياه وتسامع الناس أن دار الملك قد انتقلت إلى هناك فقصدوها وجهّزوا إليها من أنواع الأمتعة وسائر ما ينتفع به الناس فكثر العيش واتسع الرزق. وما زالت سامرّاء قاعدة الدولة العباسية من سنة 221هـ إلى أيام المعتمد فعاد إلى بغداد سنة 279هـ. وهو أول من عاد إليها منذ بنيت سامراء.

الجند التركي ومصالح الدولة

فاشتد ساعد الأتراك بذلك وقويت شوكتهم وغلبوا على أمور الدولة وخصوصاً بعد أن أنقذوا المملكة من بابك الحزمي وفتحوا عمورية ونصروا الإسلام فتحوّل النفوذ إليهم، وبعد أن كانت أمور الدولة في قبضة الوزراء الفرس أصبحت في أيدي القواد الأتراك أو صار النفوذ فوضى بين الوزراء والقوّاد.

أما استبدادهم في بلاط الخلفاء فابتدأ في أيام المتوكل لأنه لما تولى الخلافة سنة 232هـ وكان ما كان من كره الشيعة واستبداده فيهم زاد في تقديم الأتراك ورعايتهم فزاد طمعهم في الدولة، ثم أغراهم ابنه المنتصر (أو هم أغروه) على قتله فقتلوه وكان ذلك أول جرأتهم على الخلفاء، وولوا المنتصر بعده ولم تطل مدة حكمه أكثر من بضعة أشهر فمات وضميره يوخزه، وتولى بعده المستعين بالله سنة 248هـ. ثم المعتز بالله سنة 251هـ وقد استفحل أمر الأتراك استفحالاً عظيماً، ومما يحكى عن استبدادهم في الخلفاء أنه لما تولى المعتز قعد خواصه وأحضروا المنجّمين وقالوا لهم: (انظروا كم يعيش الخليفة وكم يبقى في الخلافة؟) وكان في المجلس بعض الظرفاء فقال: (أنا أعرف من هؤلاء بمقدار عمره وخلافته) فقالوا له: (فكم تقول إنه يعيش وكم يملك؟) قال: (مهما أراد الأتراك) فلم يبق في المجلس إلا من ضحك.

وقد قتلوا المعتز هذا شر قتلة فإنهم جروه برجله إلى باب الحجرة وضربوه بالدبابيس وخرقوا قميصه وأقاموه في الشمس بالدار فكان يرفع رجلاً ويضع أخرى لشدة الحر وبعضهم يلطمه بيده، والمستكفي سملوا عينيه ثم حبسوه حتى مات في الحبس، وبلغ من فقر القاهر بالله أنهم حبسوه وهو ملتف بجبة قطن وفي رجله قبقاب خشب، فلا غرو إذا أصبح الخلفاء آلة في أيدي الأتراك إذا تنازعوا على السلطة كان الخليفة مع الحزب الغالب، وبعد أن كان القواد يحلفون للخليفة بالطاعة صار الخليفة يحلف لهم فلما تقدم الأتراك في الدولة العباسية وعلم إخوانهم في بلادهم بذلك تقاطروا مئاتٍ وألوفاً يطلبون الارتزاق بالجندية ورغبوا في الإسلام وجعلوا يدخلون فيه بالألوف وعشرات الألوف، فقد أسلم منهم سنة 350هـ 200.000 خركاه دفعة واحدة و(الخركاه) الخيمة، ولا يقل أهل الخيمة الواحدة عن خمسة أنفس فعدد الذين أسلموا في هذه الدفعة نحو مليون نفس، وأسلم سنة 435هـ 10.000 خركاه من أهل بلاساغون وكاشغر دفعة واحدة وضحّوا عشرين ألف رأس غنم. ولما استولى الديلم على بغداد في أيام بني بويه توالت الحروب بين الترك والديلم وغلمان الخلفاء أو الموالي، وما من دولة قامت في ذلك العصر إلا استخدمت الأتراك في جندها سواء كانت شيعية أو سنية. فكانوا يحملون إلى بغداد أو غيرها من المدائن الإسلامية تباعاً وقلما يتوالدون فيها ولذلك كانوا يتفاهمون بالتركية وقد يتعلمون العربية ولا يتكلمونها تكبراً.

الخدم ونفوذهم في الدولة العباسية

أقدم من سمعنا به من الخدم النابغين في الدولة العباسية مسرور خادم الرشيد ولم يكن له شأن كبير، وأول من قرّب الخدم واستكثر منهم الأمين بن الرشيد فلما تولى الخلافة طلب الخصيان وابتاعهم وغالى فيهم فصيّرهم لخلوته ليله ونهاره وقوام طعامه وشرابه وأمره ونهيه وعيّن منهم جماعة سمّاهم الجرادية وجماعة من الحبشان سماهم الغرابية. ولم يقرّب الأمين الخدم لحمايته أو سياسة دولته ولكنه فعل ذلك انهماكاً في الترف والقصف، فازداد الخدم نفوذاً وسطوة حتى أصبح الأتراك يخافونهم وقد ارتقى كثيرون منهم في العصر التركي من الخدمة في المنازل إلى قيادة الجند أو الإمارة على الأقاليم.

ولما تكاثر الخدم في دور الخلفاء جعلوهم طبقات وفرقاً تُعرف بأسماء خاصة وفيهم الرومي والتركي والحبشي والأرمني والسندي والبربري والصقلبي في فرق أشبه بفرق الجند ولهم الرواتب والجواري. وربما بلغ عدد الخدم عند بعض الأمراء إلى خمسمائة غلام أو ألف أو أكثر فغلمان بغا الشرابي أحد قواد الأتراك بلغ عددهم 500 وزاد عدد غلمان يعقوب بن كلس وزير الفاطميين بمصر على 4000.

القواد والوزراء من الخدم

وأول من استكثر من الخدم وقرّبهم ورفع منزلتهم المقتدر بالله فقد تولى سنة 295هـ وعنده من الخدم والخصيان 11.000 خادم من الروم والسودان وكثير من المال والجوهر فتمكّن من الحكم 25 سنة ردّ فيها رسوم الخلافة إلى ما كانت عليه، وكان يقدم الخدم ويستعين بهم وقد ولاهم قيادة الجند وغيرها. فالخلفاء إنما لجأوا إلى تحكيم الخدم والخصيان استبقاءً لحياتهم أو إحياءً لنفوذهم ودفع استبداد جند الأتراك، ولم يكن ذلك خاصاً بالدولة العباسية بل شمل معظم الدول الإسلامية المعاصرة.

تأثير النساء في سياسة الدولة

للمرأة تأثير كبير في أعمال الرجل مهما يكن نوعها وفي أي عصر كان وأي أمةٍ كانت وإن اختلف مقدار ذلك التأثير باختلاف عادات الأمم وآدابها. أما الدولة إذا كانت ملكية مطلقة فللمرأة شأن كبير في سياستها حتى في الإسلام مع شيوع الطعن في آرائهن وقولهم: (إن مشاورتهن في الأمور مجلبة للعجز ومدعاة إلى الفساد) ويعظم أثره على الخصوص في تأثير أمهات الخلفاء على أولادهن ولاسيما في أواسط الدولة عند احتجاب الخلفاء واستسلامهم إلى الخدم.

على أن العباسيين حتى في صدر الدولة كانوا يصغون إلى النساء فأحرزت المرأة نفوذاً كبيراً وخصوصاً أمهات الخلفاء وأول من استبد منهنّ الخيزران أم الهادي والرشيد وهي قرشية وكانت ذات نفوذ وقوة يخافها أولادها ومن خالفها منهم أو اعترضها قتلته. وكانت في أيام زوجها المهدي صاحبة الأمر والنهي وهو يطاوعها، فلما تولى ابنها الهادي أرادت الاستبداد بالأمور دونه وأن تسلك به مسلك أبيه فلم يمض أربعة أشهر حتى توجه الناس إليها وكانت المراكب تغدو وتروح إلى بابها فساءه ذلك وكلمته يوماً في أمر فلم يجد إلى إجابتها فيه سبيلاً فقالت: (لابد من إجابتي إليه فإني قد ضمنت هذه الحاجة لعبد الله بن مالك) فغضب الهادي وقال: (ويلي على ابن الفاعلة قد علمت أنه صاحبها والله لا أقضيها لك) قالت: (إذاً والله لا أسألك حاجة) قال: (لا أبالي) وقامت مغضبة فصاح بها: (مكانك.. والله أنا نفي من قرابتي من رسول الله لئن بلغني أنه وقف ببابك أحد من قوادي أو خاصتي لأضربن عنقه ولأقبضنَّ ماله. ما هذه المواكب التي تغدو وتروح إلى بابك أما لك مغزل يشغلك أو مصحف يذكّرك أو بيت يصونك؟ إياك وإياك لا تفتحي بابك لمسلم ولا ذمي) فانصرفت وهي لا تعقل ولم تنطق عنده بعدها ثم إنه قال لأصحابه: (أيما خيرٌ أنا أم أنتم وأمي أم أمهاتكم؟) قالوا: (لا بل أنت وأمك خير) قال: (فأيكم يحب أن يتحدث الرجال بخبر أمه فيقال فعلت أم فلان وصنعت؟) قالوا: (لا نحب ذلك) قال: (فما بالكم تأتون أمي فتتحدثون بحديثها؟) فلما سمعوا ذلك انقطعوا عنها فحقدت عليه حتى إذا علمت أنه يريد خلع أخيه الرشيد ويأخذ البيعة لابنه جعفر أمرت بعض جواريها بقتله بالسم والجلوس على وجهه فقتلوه.

فلما كانت أيام الرشيد استبدت الخيزران في الأحكام واحتشدت الأموال فبلغت غلتها في العام 160 مليون درهم أي نحو نصف خراج المملكة العباسية في ذلك العهد ولما ماتت توسّع الرشيد بأموالها. وقس على ذلك ثروة سائر أمهات الخلفاء، أما من حيث النفوذ فقد كان للسيدة أم المقتدر وهي تركية سطوة غريبة على رجال الدولة في خلافة ابنها وكانت تتصرف في الأحكام دونه بالاشتراك مع الحجّاب والخدم وكان الوزراء يهابونها ويرتعدون خوفاً من ذكرها، ويقال نحو ذلك في أم المستعين بالله المتوفى سنة 251هـ وكانت صقلبية الأصل فأطلق المستعين يدها في أمور الدولة ويد اثنين من قواد الأتراك اتامش وشاهك الخادم فكانت الأموال التي ترد إلى بيت المال من النواحي يصير معظمها إلى هؤلاء الثلاثة.

فساد الأحكام في الدولة العباسية

التنازع على النفوذ

بلغت الدولة العباسية عصرها الذهبي في أيام خلفائها الأولين وخصوصاً الرشيد والمأمون بتدبير الوزراء الفرس ولاسيما البرامكة، فاتسع سلطانها في أيامهم وامتدت سطوتها على معظم العالم المعمور في ذلك العهد فبلغت الهند شرقاً والبحر الأطلسي غرباً وبلاد سيبيريا وبحر قزوين شمالاً وبحر فارس وبلاد النوبة جنوباً. فلما نكب البرامكة ثم استبد الجند التركي في الحكومة أصبحت الأحكام فوضى وخصوصاً بعد المتوكل لأنهم أقدموا على قتله وكان ذلك فاتحة جرأتهم على الخلفاء بعده من عزل وتولية وقتل وسمل، فعجز الخلفاء عن القيام بشؤون الدولة وهم أصحابها المسؤولون عنها والأحكام تصدر بأسمائهم وإن كانوا مدفوعين إلى إجراءاتهم ببعض أرباب النفوذ في بلاطهم من الوزراء أو القواد أو الخدم أو الموالي أو النساء أو غيرهم، فالوزير الذي يتولى أمور الدولة ولا يدري ما يكون مصيره بعد عام أو عامين من عزل أو قتل أو حبس لا يهمه غير الكسب من أي طريق كان ولا يبالي بما قد يترتب على ذلك فيما بعد عملاً بالقاعدة التي وضعها ابن الفرات كبير وزراء ذلك العصر وهي قوله: (إن تمشية أمور السلطان على الخطأ خير من وقوفها على الصواب) وانتبه الخلفاء إلى مطامعهم فأصبحوا إذا عزلوا وزيراً صادروه وأخذوا أمواله، فالوزير يتولى الوزارة عاماً أو عامين ثم يعزل أو يستقيل وله عدة ملايين من الدنانير فضلاً عن الضياع والمباني وقد اكتسب هذه الثروة بالرشوة ونحوها من أسباب المظالم. وكان الوزير لا يولي عاملاً على ولاية ما لم يقبض منه مالاً على سبيل الرشوة يسمونه (مرافق الوزراء). ومن أغرب حوادث التولية بالرشوة أن الخاقاني وزير المقتدر بالله ولى في يوم واحد تسعة عشر ناظراً للكوفة وأخذ من كل واحد رشوة، ومن أغرب طرق الاغتصاب أن يغتصب العامل أو الوزير أو غيرهما من رجال الدولة صنيعة لبعض الناس فيأخذها بغير ثمن ويستغلها لنفسه وإذا استحقَّ عليها الخراج أداه صاحبها الأول مخافة أن يثبت الملك لمغتصبها إذ يدوّن خراجها باسمه في الديوان فيبطل حق مالكها في ملكها فيضطر المالك إلى دفع الخراج أعواماً ريثما يتوفق إلى من ينصفه ممن يفضي النفوذ إليهم من أهل العدالة أو يهتدي إلى وساطة أو حيلة. ناهيك عما كانوا يغتصبونه من أموال الرعية باقتضاء خراج الأرض مضاعفاً أو مكرراً.

الجاسوسية.. اللصوصية

ومن وسائل ابتزاز الأموال أن يقسّط الوزير أو من يقوم مقامه على أرباب الدواوين والقضاة أو غيرهم مالاً على وجه القرض على أن يسبب لهم عوضه من أهل النواحي فتقع الخسارة على الرعية، فتضايق أهل الأسواق في المدن والفلاحون في القرى والرساتيق وضاقت أبواب الرزق على الناس وأصبحت الحقوق فوضى ومن وجد حيلة في اختلاس المال سراً أو جهراً استخدمها وكثر العيارون والشطار في المدن وتعدد اللصوص في القرى وفيهم جماعة أصلهم من جنود الدولة طمع الوزراء أو القواد بأرزاقهم فخرجوا يتعرضون للمارة ويسلبونهم أموالهم وأمتعتهم وإذا عوتبوا أو حوكموا احتجوا بذلك. وكان قطاع الطرق يسطون على قوافل التجار ويأخذون أموالها باعتبار أنها حق لهم. وزد على ذلك ما نجم عن فساد الأحكام من الضيق المالي وغلاء الأسعار في المدن وما نشب من الفتن بين الأحزاب ولاسيما السنة والشيعة وراجت الدسائس وتكاثرت السعايات برجال الدولة وانتشرت الجاسوسية في قصور الخلفاء ودواوين الوزراء والكتّاب. وأصبح لكل منهم جواسيس على الآخرين ينقلون إليه أخبارهم فتسابق أسافل الناس إلى السعاية بأفاضلهم يرفعون إلى الخليفة أو إلى صاحب النفوذ في دولته كتباً يختلقون بها المطاعن على الأبرياء للانتفاع بأذاهم. فلما فسدت الأحكام في دار الخلافة واستبد الوزراء والقوّاد في شؤون الدولة رأى العمال في الولايات أن يجتزئوا من ذلك الاستبداد في ولاياتهم فأخذوا يستقلون فتشعّبت المملكة العباسية إلى ممالك يحكمها الأمراء من الفرس والأتراك والأكراد والعرب وغيرهم.

تشعّب المملكة العباسية

وأما استقلال العمال بذهاب هيبة الخلفاء أو اختلال شؤون الدولة فالأسبق إليه الفرس ثم الأتراك فالأكراد مثل تواليهم في التغلب على الخلفاء. وتدرج كل من هذه الأمم من العمالة إلى الإمارة إلى الملك أو السلطنة.

الدول الفارسية في ظل العباسيين

لما أعاد الفرس مقاليد الخلافة إلى المأمون ازدادوا دالة عليه واستخفافاً بالسلطة العباسية ثم استبد الأتراك في الخلفاء بعد المعتصم وغلّوا أيديهم وكسروا شوكتهم فكان للفرس على الإجمال حظ كبير من ذلك، فلما رأوا ذهاب نفوذهم في دار الخلافة استعاضوا عنه بالاستقلال بإماراتهم.

على أن الذين استقلوا من القواد أو الأمراء مازالوا يعترفون للعباسيين بالسلطة الدينية فيطلبون الاستقلال تحت رعايتهم، فتفرّعت المملكة العباسية إلى إمارات مستقلة هي خمسة دامت من 305 إلى 434هـ. فانظر كيف تفرّعت بلاد فارس إلى إمارات فارسية. فانتعشت الشيعة ونالوا بعض ما كانوا يأملون من مساعيهم في نصرة العلويين. حتى قامت دولة آل بويه وهي أكبر دولة فارسية شيعية ظهرت في الشرق في عهد ذلك التمدن بظل الدولة العباسية.

دولة آل بويه

رجال هذه الدولة وأنصارها الديلم من الجيلان وراء خراسان ولكن ملوكها آل بويه من الفرس ويرتفع نسبهم إلى ملوك الفرس القدماء وإنما سموا ديلم لأنهم سكنوا بلاد الديلم. وكان العلويون يسعون في نشر دعوتهم هناك من أيام الرشيد، وآخر من نجح في ذلك الحسن بن علي الأطروش من نسل الحسين (عليه السلام) فدعا الديلم إلى مذهبه في أواخر القرن الثالث فأجابوه.

وجدُّ آل بويه الأقرب الذي أسس هذه الدولة اسمه بويه ولقبه أبو شجاع كان له ثلاثة أولاد: علي ويلقّب عماد الدولة، وحسن ويلقّب ركن الدولة، وأحمد ويلقّب معز الدولة، وكان بويه رقيق الحال فانتظم أولاده بالجندية لأنها كانت يومئذ باباً من أبواب الرزق الواسعة وكان عماد الدولة في خدمة مرداويج مؤسس الدولة الزيادية فارتقى عنده حتى ولاه الكرج ثم اتسعت أحواله فكتب إلى الخليفة العباسي وهو يومئذ الراضي بالله المتوفى سنة 329هـ أن يقاطعه على أعمال فارس بمال يحمله إلى دار الخلافة على جاري عادتهم مع الدولة العباسية في ذلك العهد فأجابه الراضي وبعث إليه بالخلعة. وأخوه حسن ركن الدولة تملّك خوارزم وجاء الأخوان واتحدوا مع أخيهما الثالث معز الدولة في شيراز وساروا غرباً حتى أتوا بغداد في أيام المستكفي سنة 334هـ فرحب بهم وخلع عليهم ولقّبهم الألقاب المذكورة وجعل معز الدولة أمير الأمراء واستبدوا في المملكة واستولوا على الخلافة وعزلوا الخلفاء وولوهم فرفعوا منار الشيعة وأحيوا معالمها وأضعفوا نفوذ الأتراك والخلافة العباسية لا تزال في بغداد، ولما أفضت إمارة الأمراء إلى عضد الدولة لقب بالملك وهو أول من خوطب بهذا اللقب في الإسلام، وحكم آل بويه من سنة 320 ـ 447هـ.

الدولة التركية في ظل العباسيين

لما قويت شوكة الأتراك في الدولة العباسية وهابهم الخلفاء كما تقدم طمع بعضهم في الولايات كما طمع الفرس فاستقلوا بها فنبت للدولة العباسية فروع تركية خارج بلاد فارس كما نبتت الفروع الفارسية في بلاد الفرس وهما أربعة فروع دامت من (254) إلى (582هـ).

الدولة السلجوقية وفروعها

على أن هذه الإمارات نشأت فروعاً للمملكة العباسية أي كان أُمراؤها أو سلاطينها من عمال الدولة العباسية أو قوادها أو قواد بعض الإمارات الأخرى واستقلوا كما نشأت الإمارات الفارسية قبلها والأُمّتان تتنافسان في النفوذ لاختلاف العصبية واختلاف المذهب بين السنة والشيعة.

ومؤسس الدولة السلجوقية سلجوق بن يكاك أمير تركي كان في خدمة بعض خانات تركستان فعلم باختلال المملكة العباسية فطمع فيها، وعلم أنه لا يبلغ ذلك وهو على غير دين الإسلام فأسلم هو وقبيلته وسائر جنده ورجال عصبيته دفعة واحدة ونهض بجميع هؤلاء من تركستان وساروا غرباً فقطعوا نهر جيحون وتدرّجوا في الفتح ونشر السلطة حتى اكتسحوا المملكة العباسية وامتد سلطانهم من أفغانستان إلى البحر الأبيض. وأصبح العالم الإسلامي تتنازعه ثلاث دول إسلامية أكبرها دولة السلاجقة في المشرق ثم الدولة الفاطمية في مصر والمغرب والثالثة دولة بني أمية في الأندلس.

والسلاجقة دول تفرعت من أصل واحد وهم أصل سائر الفروع وأقوى منها جميعاً وهم خمسة حكموا من 429 ـ 700هـ. وكان السلاجقة في أيام سلطتهم يولون الأعمال أو الولايات قوّاداً من مماليكهم يسمونهم الأتابكة، وأخذ الأتابكة يستقلون بولاياتهم شيئاً فشيئاً حتى اقتسموا المملكة السلجوقية فيما بينهم وهم عشرة وحكموا من سنة 497 ـ 703هـ.

الدولة الكردية في ظل العباسيين

الأكراد قوم أشداء وأكثرهم أهل بادية وخشونة يقيمون في الخيام وينقسمون إلى قبائل وعشائر وبطون وهم أقل قبولاً للحضارة من الفرس والترك وغيرهما من الأمم الشرقية التي دانت للإسلام إبان التمدن الإسلامي. وقد ظلوا أهل ظعن ورحلة في معظم ذلك التمدن. وكانت الدول تستعين بهم في الحروب البدوية الشبيهة بالغزو كما كانت تستعين بالأعراب، ومقامهم على الأكثر في كردستان وأرمينيا وجزيرة العراق كالموصل وديار بكر ولا يزال سوادهم هناك إلى الآن. وأول من أنشأ دولة كردية مستقلة في الإسلام حسنويه بن الحسين البرزكاني زعيم بعض قبائل الأكراد في كردستان في أواسط القرن الرابع للهجرة وامتدت سلطته على معظم تلك المملكة وفيها ديناور وهمذان ونهاوند وسرماج وغيرها. وقد اعترف خليفة بغداد بسلطانه ولقب ابنه بعده بناصر الدولة، ولم يطل عمرها كثيراً فحكمت من سنة 348 ـ 406هـ ثم استقل من الأكراد أبو علي بن مروان في ديار بكر سنة 380هـ وامتدت سلطته على آمد وآرزان وميافرقين، وبايع خلفه للفاطميين حيناً من الزمن وذهبت دولته سنة 489هـ.

والأكراد لم يكن لهم شأن يذكر في الإسلام إلا على عهد الدولة الأيوبية من سنة 564 ـ 648هـ ومؤسسها صلاح الدين الأيوبي، وارتفع شأن الأكراد في أيام دولته وتولوا الإمارات والولايات في مصر والشام وكردستان واليمن وخراسان ولما مات اقتسم مملكته أخوته وأولاده وأولاد أخوته ولذلك لم يطل حكمها، فغلبهم على معظمها مماليكهم الأتراك.