الفهرس

التفسير وعلوم القرآن

الصفحة الرئيسية

 

(19)

۞ سورة مريم (عليها السلام) ۞

مكية وهي ثمان وتسعون آية

أهداف سورة مريم

سورة مريم: إنها سورة أنبياء، سورة عدد من الأنبياء الكبار: زكريا ويحيى، عيسى وأمه، موسى وهارون، إسماعيل... ولكنها حملت اسم مريم، لأن قصتها قمة القصص، بالنسبة إلى أهداف السورة.

هذه السورة، تسعى نحو الأهداف التالية:

1- إرهاصات النبوة: فالأنبياء يختلفون عن غيرهم، فحياتهم – منذ بدايتها وحتى نهايتها – محفوفة بخوارق معجزية، تشدُّ بهم الأنظار والأفكار، وتهيئ الرأي العام لاستقبال ظاهرة جديدة:

فيحيى ولد بطريقة غير عادية، من أم عاجزة عن الإنجاب – عادة – فهي عاقر، وأب عاجز عن الإنجاب – عادة – فهو أكبر من سن الإنجاب.

وعيسى ولد بطريقة غير طبيعية، بدون أب.

وإبراهيم ولد – روحياً – بطريقة غير مألوفة، فقد نشأ قمة إيمان في مناخ الشرك، فأسرته تنحت وتبيع الأصنام، حتى تمثل جبهة الشرك.

وموسى تكوَّن وترعرع وعاش بين أنياب المخاطر: فقد انعقد تحت عرض (فرعون) الذي فصل الرجال عن النساء حتى لا ينعقد موسى، ونشأ في أحضانه وهو يذبح المواليد عسى أن يكون بينها موسى، وجهز الجيوش ليقتل موسى، ففاته الطلب، وهو الذي لم يفته طلب. وهكذا... بقية الأنبياء.

2- الله قريب من أنبيائه:

فيحيى وعيسى معرضان للتهمة، فدافع عنهما الله حيث زودهما بالمعجزات منذ الصبا، فجعلهما نبيين، آتاهما الحكم والحكمة صبيين، ليدل على أن طريقة ميلادهما إرهاص، لا أي شيء آخر، مما قد يعرض له سائر الناس.

وإبراهيم معرض: للتصفية الفكرية، بتأثير أسرته عليه، عن طريق غسل الدماغ. وللتصفية الجسدية، عن طريق إحراقه بالنار. فزوده الله بالحجة الدامغة، والفكر المنتصر، وجعل النار عليه برداً وسلاماً.

وموسى معرض – كل يوم – للموت بسيف (فرعون)، فأخفى الله انعقاده وميلاده ونشأته، حتى إذا وضح كل شيء وسار (فرعون) بجيوشه للقضاء الكامل على موسى وأتباعه، فإذا بموسى يعبر البحر، وتبتلع أمواجه (فرعون) وجيوشه.

3- مواهب الله لأنبيائه: فالله وهب... ووهب... ووهب...، وأعطى... وأعطى... وأعطى...

وهناك أهداف تأتي جانبياً:

1- الإنسان سريع الطلب، حتى لما لا يصدَّق تحققه، ولكن الله الرؤوف بالإنسان، يحقق له حتى ما لا يصدَّق:

فزكريا طلب من الله ولداً، فلما بشِّر به، جعل يحاور في إمكان تحقق ما طلب:

((قال: ربِّ! أنى يكون لي غلام، وكانت: امرأتي عاقراً، وقد بلغت من الكبر عتياً؟!))(1).

2- يحيى ولد بطريقة غير مألوفة، فتعرَّض للتهمة. وعيسى ولد بطريقة غير طبيعية، فتعرض للتهمة.

3- اضطر زكريا إلى رفض التهمة بالإضراب عن الكلام مع الناس:

((... قال: آيتك، أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سوياً))(2).

ومريم اضطرت إلى رفض التهمة بالإضراب عن الكلام مع الناس:

((... فإما ترينَّ – من البشر – أحداً، فقولي: إني نذرت – للرحمن – صوماً، فلن أكلم – اليوم – إنسياً))(3).

4- استغلال (آزر) لقوته المعنوية على إبراهيم – كعم يعتبر بمثابة أب – في الحوار، وأدب إبراهيم مع عمه، مع أن الحجة لإبراهيم على عمه. فرغم أن (آزر) ينطلق من موقع القوي المتعنت، يتحرك إبراهيم – تجاهه – من قاعدة الطبيب النفساني، الذي يتواضع، عساه يفلح في علاج من يراه فوقه، بمقاييس القدرة العاطفية أو الزمنية.

البرَّان


((وبراً بوالديه، ولم يكن جباراً عصياً)).

[(سورة مريم: الآية 14).


كلمة: (البر) وردت في القرآن، بالنسبة إلى اثنين من أنبياء الله العظام، هما: يحيى في هذه، وعيسى بن مريم في قوله تعالى – نقلاً عنه (ع) –: ((وبراً بوالدتي...))(4).

والبر ليس هو البار، وإنما هو أعمق محتوى من البار.

فالبار: كل من عمل البِرَّ ولم يعمل الشر، حتى طبع البر حياته، فأصبح البر منه مستمراً في الماضي والحاضر والمستقبل.

وأما البرُّ: فهو الذي تمحض في البِر، حتى كان قطعة من البِر.

فللبر صيغتان: صيغة فكرية تسمى بـ (البِرّ)، وصيغة بشرية تسمى بـ (البَرّ).

ود المؤمنين


((إن آمنوا وعملوا الصالحات، سيجعل لهم الرحمن وداً)).

[(سورة مريم: الآية 96).


الكفار يتعاملون بقيم الكفر، والمؤمنون يتعاملون بقيم الإيمان. والكفر يعتمد على إنكار الحقيقة، فيؤدي إلى التناقض المستمر. والإيمان يعتمد على الاعتراف بالحقيقة، فيؤدي إلى الانسجام المستمر. فالرؤساء ثلاثة:

1- فالرئيس الكافر: يحكم مرؤوسيه بمنطق الجبابرة والطواغيت، فيعاملهم باعتبارهم مجرد أدوات بسائط، فينزع الأنفاس من صدورهم، والنبض من عيونهم، فيرونه جلادهم المباشر، وجلاد الشعب من خلالهم، فيكرهونه كرهاً مطلقاً يرفض الحدود.

2- والرئيس المؤمن الفاسق: وإن كان إيمانه يجعل له منطلقات تختلف عن منطلقات الكفار، إلا أن عدم التزامه الإيماني، يجعله على المنزلق إلى خط الرئيس الكافر، فيعمل بازدواجية.

3- وأما الرئيس المؤمن الملتزم: فيحكم مرؤوسيه بمنطق التقوى والتواضع، ويعاملهم باعتبارهم أمثاله في الخلق وإخوانه في الدين، ولعلهم أكرم على الله منه إذا كانوا أتقى منه. فيحكمهم ولا يتحكم فيهم، ويأمرهم بما يؤمنون به، وينهاهم عما يكفرون به، وربما يعاقبهم، أو يقتص منهم، ولكنه لا يتخذ سوى التدابير الإيمانية، التي يشتركون معه في الالتزام بها، وقعرفونها حقاً. فيحبونه حب عمل مطلق يرفض الحدود وعلى العموم، جوُّ الكفار: جو تربص، لفقدان عناصر التواضع، ومحاولة كل تسلق الآخر، أو إبعاده عن طريقه. والتربص يؤدي إلى الترقب والحذر، وأجواء التوتر والتوجس مرهقة تثير الكراهية والاشمئزاز.

وأما جو المؤمنين: فيسوده عنصر التواضع في المقابلات، وعنصر خدمة الغير في المعاملات. فيغيب عنه التزاحم والتكايد، ويشيع فيه روح الاستباق إلى الخير. ومثل هذا الجو، مريح ينمي المحبة والألفة.

وفوق ذلك، يتدخل مصدر الغيب: ((سيجعل لهم الرحمن وداً)).

(1) سورة مريم: الآية 8.

(2) سورة مريم: الآية 10.

(3) سورة مريم: الآية 26.

(4) سورة مريم: الآية 32.