الفهرس

التفسير وعلوم القرآن

الصفحة الرئيسية

 

(23)

۞ سورة المؤمنون ۞

مكية وهي مئة وثماني عشرة آية

اللغو = الغناء


بسم الله الرحمن الرحيم

((قد أفلح المؤمنون * الذين – هم – في صلاتهم خاشعون * والذين – هم – عن اللغو معرضون)).

[(سورة المؤمنون: الآيات 1 – 3).


هل (الغناء) مضر حتى يحرمه الإسلام؟

وإذا كان مضراً، فهل ضرره أكثر من ترويحه عن الأعصاب؟

وماذا عن الأغاني الأخلاقية... والموسيقى الروحية... التي تنمي الفضيلة في المستمع؟

قد لا نحتاج إلى الحوار حول كل ذلك، في القناعة بحرمة (الغناء)، وإنما يكفي أن ندرس: (فلسفة وجود الإنسان) في الدنيا، فإذا عرفنا أن الله أتى بالإنسان إلى هذه الحياة، للقيام بتمارين معينة، تبلور جوهره وتنميه، فكل عمل يندمج في تلك التمارين، فهو واجب أو مستحب، وكل عمل يناقض – ولو قليلاً – تلك التمارين، فهو حرام أو مكروه.

كما أن الموظف، يؤتى به إلى مكتبه، لأداء أعمال معينة، واستقبال الضيوف عمل اجتماعي مستحب، ولكن: استقبال الموظف للضيوف في مكتبه، عمل ينافي مسلكية الوظيفة، فيعتبر إهمالاً يعاقب عليه.

فعلينا: أن لا نقيم العمل بمفرده، وكأنه عينة نحللها بموضوعية، وإنما يلزم أن نقيمه في وضع الإنسان، الذي جيء به إلى هذه الحياة، لأداء وظيفة معينة: فكل ما يخدم تلك الوظيفة، فهو حسن. وكل ما يلفي تلك الوظيفة، فهو قبيح.

ولذلك: عندما يعرض القرآن الخمر والميسر، يعترف بأن فيهما منافع للناس، ولكنه يضيف بأن إثمهما أكبر من نفعهما، فيقول:

((يسألونك عن الخمر والميسر، قل: فيهما إثم كبير، ومنافع للناس، وإثمهما أكبر من نفعهما...))(1)، فمجرد المنافع لا يصلح دليلاً للحكم عليها إيجابياً. كما أن القرآن يعترف – في معرض الحديث عن بعض الامتحانات – بأن فيها نقصاً في: الأموال، والأنفس، والثمرات، ولكنه يضيف: وبشر الصابرين، لأنها مضرات يلزم تحملها، لأداء وظيفة الإنسان في الحياة، فيقول:

((ولنبلونكم بـ: شيء من الخوف، والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات. وبشر الصابرين * الذين – إذا أصابتهم مصيبة – قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك: عليهم صلوات – من ربهم - ورحمة. وأولئك: هم المهتدون))(2)، فمجرد المضرات لا يصلح للحكم عليها.

إذن: إنما يلزم دراسة كل شيء من جميع جوانبه، وأهمها: علاقته بهدف الإنسان في الحياة، وذلك: من أجل تقييمه، ثم: الحكم عليه.

ضرورة المنطق المتنوع


((- قل:

لمن الأرض؟ ومن فيها؟ إن كنتم تعلمون *

- سيقولون:

لله. قل: أ فلا تذكرون؟! *

- قل:

من رب السماوات السبع؟ ورب العرش العظيم؟ *

- سيقولون:

لله. قل: أ فلا تتقون؟! *

- قل:

مَن بيده ملكوت كل شيء؟ وهو: يجير، ولا يجار عليه؟ إن كنتم تعلمون *

- سيقولون:

لله. قل: فأنى تُسحرون؟! *)).

[(سورة المؤمنون: الآيات 84 – 89).


1- الحياة: ماديات وطاقيات.

والماديات، هي التي تدرك بإحدى الحواس الخمس: الباصرة، والسامعة، والشامة، والذائقة، واللامسة.

والطاقيات، هي القوى التي تتفاعل مع الماديات، ولكن: لا تدرك بالحواس الخمس، أو: لا تدرك إلا بآثارها، كـ: الروح، والعقل، والجاذبية...

2- الماديات وليدة من الطاقيات، فالطاقيات هي المخلوقات الأولية، والماديات هي المخلوقات الثانوية.

وإذا استعرضنا أكثر الماديات في عالمنا، وجدناها مخلوقات من: آكام من موجات النور، أو من موجات الظلمة. لأن موجات النور وموجات الظلمة، تسير بسرعة هائلة مدة طويلة، ثم: تقل فاعليتها فتبطئ، وأخيراً: تتوقف. وبفعل التجانس، تتحيز موجات النور إلى مثيلاتها، وموجات الظلمة إلى مثيلاتها، وتتراكم. وباختلاف موجات النور يحدث بينها تفاعل جديد، وباختلاف موجات الظلمة يحدث بينها تفاعل جديد، فتتولد عناصر كثيفة، متناهية الصغر، ومختلفة باختلاف الموجات التي تولدت منها.

ثم: تحدث تفاعلات بالغة الدقة والتعقيد، فتتولد منها: (العناصر الست والتسعون) المعروفة، التي تتركب منا الأشياء، من: النجوم، والكواكب، وما عليها...

3- الطاقيات هي المسيطرة على الماديات: فالروح مسيطرة على الجسم، والجاذبية تتحكم في الموجودات الأرضية، والنسبية العامة تشد الأجرام الفضائية بأبعاد متناسبة. وقد نتوسع إلى القول: إن جميع الماديات خاضعة لمقاييس غير مادية، لضبطها، وتوجيهها إلى مسيرتها التكاملية.

4- الطاقيات المسيطرة على الماديات، ملكوتها: فالروح ملكوت الجسد، والجاذبية ملكوت الموجودات الأرضية. وملكوت المتحركات الآلية، هو: الطاقة التي تحركها، من: بخار، أو كهرباء، أو ذرة... وملكوت السماء: سر ملك الله للسماء، ويقال: في الملكوت، أي: في سر الملك.

فملكوت الملك: سر الملك ووسيلة الاستيلاء. مثل: (الرهبوت) الذي هو: الشيء الذي تتولد منه الرهبة، و (الجبروت) الذي هو: السر الذي يتم به جبر الأشياء.

ولذلك، قيل: الجبروت فوق الملكوت، والملكوت فوق الملك.

ويدل على ذلك، قولهم: الملك والملكوت، فالملك – بضم الميم – ج: أملاك وملوك: ما يملكه الإنسان، ويتصرف به. بينما الملكوت، فهو: الرمز الذي به يتحقق الملك.

* * *

ثم، إن الناس ثلاثة أصناف:

1- الناس العاديون، الذي تدور اهتماماتهم على معائشهم.

2- الملوك والرؤساء، الذين ترتكز جهودهم على: الفتوحات، والقضايا الدولية.

3- المرتاضون والسحرة، الذين تتصرف توجهاتهم إلى: التعامل مع الروحانيات، والقوى الخفية، كـ: الملائكة، والجن، والأرواح، والشياطين.

* * *

وأنت يا محمد!، حاور كل صنف – من هذه الأصناف – بالمنطق الذي يقنعه، ولا تنطلق من موقعك الرفيع إليهم – جميعاً – بمنطق واحد، لأن الذوق الفكري – كالذوق المادي – يرشح من روحية خاصة، لا تتفاعل إلا مع ما يلائمها.

فـ ((قل)) أنت – ومن وراءك من المؤمنين – للصنف الأول، أي: للناس العاديين، الذين يرهقون أنفسهم – ليل نهار – لتأمين حاجاتهم الخاصة، ثم: يعودون من معترك الحياة – في ساعات الراحة – إلى أنفسهم ليواسوا آلامها، ويهدئوا نقمتها على النواقص والأخطاء، فتبقى ثائرة عليهم، ويشعرون بالعجز والقصور عن تأمين أنفسهم.

ضع هؤلاء، أمام ما لا يطمحون إليه، وتساءل:

((لمن الأرض؟ ومن فيها؟)).

فالأرض ومن فيها – بالنسبة إلى مستوياتهم – أمر فوقي، بعيد جداً، لا يحلمون به، وربما لا يفكرون فيه. ولكن: اعطف أفكارهم إليه، واستفززهم، حتى يحاولوا التفكير حوله – على الأقل –:

((إن كنتم تعلمون)).

وكل إنسان يحب التظاهر بالعلم ورد الجهل، فيضطرون إلى التفكير والإجابة، ولا يجدون حرجاً من الاعتراف بالحق فيما هو خارج عن مداراتهم.

فـ: ((سيقولون: لله)). وعندئذ: تجد الاعتراف الذي تستطيع الاعتماد عليه، لتشديد النكير عليهم.

فـ: ((قل: أ فلا تذكرون؟!)).

وأما الصنف الثاني من الناس، أي: الملوك والرؤساء: فلا تكون حجتك بالغة إذا قلت لهم:

((لمن الأرض؟ ومن فيها؟))، لأنهم قد تأخذهم العزة بالإثم، فيقولون: (لنا: الأرض، ومن فيها)، وقد يتواضعون، فيقولون: (لله). ولكن: (الأرض، ومن فيها ظاهراً، والله يملك الأرضومن فيها) واقعاً في مدى مطامحهم، ولا يتصاغرون إذا عرفوا أن (الأرض، ومن فيها) لله، لأنهم يملكون (الأرض، ومن فيها) واقعاً، ولعلهم لا يشعرون بذلك الفاصل البعيد بين من يملك الأرض ظاهراً وبين من يملكها واقعاً، فلا يبهرهم هذا المنطق وأنت تجد – لهم – منطقاً آخر، أقوى وأعلى، يضعهم أمام ما لا يطمحون إليه، فـ ((قل:)) – لهم – ((من رب السماوات السبع؟ ورب العرش العظيم؟))، فالسماوات والعرش – بالنسبة إلى مستوياتهم – أمر فوقي، بعيد جداً، لا يحلمون به، وربما لا يفكرون فيه. وخاصة: عندما تسألهم : (رب السماوات والعرش)، لا عن: (ملك السماوات والعرش)، لأنهم يعتبرون الملك من نوعهم – وإن كان أعلى منهم بكثير – فإذا طرحته عليهم بهذه الصيغة، فإنك تفاجئهم بما لا يستطيعون حتى ادعاءه استعلاء أو مغالطة، فسيضطرون إلى الاعتراف بالحق، و ((سيقولون: لله)). وإذا انتزعت منهم هذا الاعتراف فأحكم عليهم حجتك و((قل: أ فلا تتقون)) الله الذي هو رب السماوات والعرش؟!

وأما الصنف الثالث من الناس، وهم: الذين يتعاملون مع الروحانيات، والقوى الخفية: فإنهم – على أثر الرياضات القاسية – يتحلون بشيء من الشموخ الفكري، وتتسامى مطامحهم عن الماديات – حتى ولو كان طريقهم باطلاً – فإذا قلت لهم: ((لمن الأرض؟ ومن فيها؟)، أو: ((من رب السماوات؟ والعرش؟)، فإنك لا تهزهم بمقدار ما لو طرحت عليهم سؤالاً عن القوى الخفية، التي استهلكوا أعصابهم... وأعمارهم... في تسخير شيء منها، ففشلوا، أو نجحوا نجاحاً ضئيلاً. فـ ((قل:)) – لهم – ((من بيده ملكوت كل شيء؟))، لأنك تصدمهم عندما تذكرهم بـ: ((ملكوت كل شيء))، فيتضاءلون، ولا يجدون حرجاً في الاعتراف بـ: أنه ليس بأيديهم، ولا يمكن أن يكون بأيدي البشر.

ثم: إنهم يعملون لإنقاذ مسحور، أو مغالبة ساحر. فواصل سؤالك عنهم، ((و)) قل لهم: من ((هو)) الذي له القدرة المطلقة في مجال القوى الخفية، فـ ((يجير، ولا يجار عليه)) أبداً؟ واستفززهم بقولك: ((إن كنتم تعلمون)) شيئاً عن قضايا الروحانيات.

وعندئذ: لا يجدون بداً من الاعتراف بالحق، و ((سيقولون: لله)). فإذا أخذتهم إلى هذا الاعتراف، تستطيع أن تشدد الوطأة عليهم، وأن تؤنبهم بأنكم – أنتم الذين – تسحرون الناس بما تدَّعون من تعاملكم مع القوى الخفية، فكيف استحوذ عليكم المشعوذون؟! و ((أنى تسحرون)) عما هو من مجالات اخصاصكم؟!

(1) سورة البقرة: الآية 219.

(2) سورة البقرة: الآيات 155 – 157.