الفهرس

التفسير وعلوم القرآن

الصفحة الرئيسية

 

(36)

۞ سور يس (ص) ۞

مكية وهي ثلاث وثمانون آية

الصراع بين الزمان والموجود


((ومن نعمره، ننكسه في الخلق أ فلا يعقلون؟!)).

[(سورة يس: الآية 68).


كل شيء خاضع لنظام الزمان، يبقى في صراع دائب مع الزمان. فالزمان يغالبه ليقهره، وهو يقاوم الزمان لئلا يقهر.

وحيث أن الزمان في تصاعد دائم، فإنه لا يشل عن التأثير، ولا يلغى مفعوله – مهما اشتدت مقاومة الموجودات – فالزمان يستهلك، ويفت فيها، حتى يعجزها عن المقاومة. فيستهلكها، ويحولها إل عناصرها الأولية، لتأخذ صيغة وجودية أخرى.

ومقاومة الموجودات للزمان، ليست بانغلاقها عن الزمان، بحيث يعجز الزمان عن استهلاك شيء منها، وإنما بتصعيد طاقة التغذي فيها. فالصراع، ينقلب بين الزمان الذي يستهلك منها، وطاقة التغذي التي تمدها ببدل ما يستهلك منها الزمان، وتنقلب الموجودات إلى مسارح لهذا الصراع.

وكل موجود – منذ أن يتقمص صيغة وجودية إلى أن يخلعها – يمر الصراع فيه بأربع مراحل:

الأولى: مرحلة غلبة طاقة التغذي في الموجود على طاقة الاستهلاك في الزمان، فيستهلك الموجود من العناصر الحية أكثر مما يستهلك منه الزمان. وهذه: (مرحلة الفتوة) التي ينمو فيها الموجود.

الثانية: مرحلة تساوي طاقة التغذي في الموجود مع طاقة الاستهلاك في الزمان، فيستهلك الموجود من العناصر الحية بمقدار ما يستهلك منه الزمان. وهذه: (مرحلة الكهولة) التي يتوقف فيها الموجود عن النمو.

الثالثة: مرحلة قصور طاقة التغذي في الموجود عن طاقة الاستهلاك في الزمان، فيستهلك الموجود من العناصر الحية أقل مما يستهلك منه الزمان. وهذه: (مرحلة الشيخوخة) التي ينتكس فيها الموجود، فيتضاءل ويتقلص.

الرابعة: مرحلة توقف طاقة التغذي في الموجود، فيستهلك منه الزمان بدون أن يستهلك هو شيئاً من العناصر الحية. وهذه: (مرحلة الموت) التي يخلع فيها الموجود صيغته الوجودية، ليتقمص صيغة وجودية أخرى، أو يستهلك في موجودات أخرى.

فكل من يعمره الله، ينكسه في خلقته.

وليست هذه المراحل الأربع، مسار الإنسان – وحده – في الوجود. وإنما هي مسار كل شيء خاضع لنظام الزمان: فالحيوان، والنبات، والجماد، كلها... تمر بهذه المراحل، مع الفارق في قدراتها على الصمود. فبينما لا يلبث الإنسان – في كل مرحلة – أكثر من (ثلاثين سنة) عادة؛ قد يلبث الحيوان، والنبات... – في كل مرحلة – قروناً، أو أياماً، أو ساعات...

وكما أن هذه المراحل الأربع، مسار الموجودات الحية: هكذا... تكون مسار المعاني الحية، التي تعتمد على الموجودات الحية: كالأنظمة، والأعمال... وكالأحزاب، والشعوب، والأمم...

فكل ما يعتمد – في وجوده – على الإنسان؛ يتصاعد، ثم يتوقف، ثم يتراجع، ثم يتلاشى ليستهلك في غيره.

فالنظام الملكي – مثلاً – أخذ في التصاعد في أوائل التاريخ، حتى شمل أكثر القطاعات البشرية. ثم: توقف قروناً. ثم: بدأ في التراجع ليستهلك في النظامين: الديني، والجمهوري. وثم: يأتي اليوم الذي يتلاشى فيه تماماً، ويغدو من الأنظمة التاريخية.

والعمل التجاري – مثلاً –، سواء أ كان بصفة تجارة فردية أو شركة، فإنه يتصاعد بتصاعد نشاط القيمين عليه. ثم: يتوقف بتوقف نشاطهم. ثم: يتراجع بتراجع نشاطهم. ثم: يموت بموت نشاطهم – في مجاله –.

والحزب النازي – مثلاً – مر بنفس المراحل، حتى لم يبق منه إلا عناصر أشبه بعناصر الميت، التي لا تحمل أكثر من الدلالة على أصلها.

وشعب الهنود الحمر – مثلاً – مر بنفس المراحل، حتى أصبح من الذكريات البشرية، التي تعرضها الأفلام للتسلية.

والأمة الإسلامية – مثلاً – عاشت المرحلة الأولى في عهود النبي والوصي عليهما وآلهما السلام، ومرت بالمرحلة الثانية في عهود السلاطين الذين جعلوا الحكم ملكا عضوضاً، وهي – اليوم – في مرحلتها الثالثة، مرحلة الشيخوخة. ولكن الله – تعالى – وعد بأن يظهر من يعيدها إلى المرحلة الأولى.

فكل شيء له وجود حسي أو ذهني: إذا كان يأخذ من الحياة أكثر مما يعطيها، فهو في المرحلة الأولى، وإذا كان يأخذ منها ويعطيها بقدر سواء، فهو في المرحلة الثانية. وإذا كان يأخذ منها أقل مما يعطيها، فهو في المرحلة الثالثة. وإذا كان لا يأخذ منها ويعطيها، فهو في المرحلة الرابعة.

الإنسان بين الإنشاء والإحياء


((وضرب – لنا – مثلاً؛ ونسي خلقه.

قال: من يحيي العظام وهي رميم؟! *

قل: يحييها الذي أنشأها – أول مرة – وهو بكل خلق عليم)).

[(سورة يس: الآيتان 78 – 79).


يتساءل: إذا فتحنا قبر إنسان – بعد سنوات من موته – نجد عضلاته، وأعصابه، وكل مواده الجسدية... فقدت صيغتها، وتحولت إلى مادة شبيهة بالتراب، ولا نجد منه إلا هيكله العظمي، وهو في طريقه إلى الانسلاخ من صورة العظام، فهي: رميم: عظام نخرة، تتفتت بمجرد أن تلمسها اليد.

وقد يمضي التساؤل – معقداً – فيقول: لو فتحنا قبر إنسان ـ مضى على موته ألف سنة أو أكثر – لا نجد حتى هيكله العظمي، لأنه قد تحول بكله إلى تراب. وذلك التراب، لا يبقى – في لحده – إلى الأبد: فقد تخرجه الحفريات. وتذروه الرياح في البحار والفلوات، أو تتصاعد به إلى القمم، أو تهوي به إلى الحفر. والمطر والشمس والهواء، قد تحوله إلى نبات يأكله الحيوان أو الإنسان، فيجري في عرقه دماً، وفي جسمه خلايا حية... فكيف يجمعها الله – سبحانه وتعالى – ويعيده: ذلك الإنسان السوي – بكل نبضه، وفكره، وأعصابه... ـ حتى يمثل للحساب؟!

وحتى لو اقتصرنا على العظام الرميم؛ فـ (من يحيي العظام وهي رميم؟!)) والإنسان إذا مات فبمجرد موته، لا يستطيع إنسان أن يحييه، فكيف به إذا صار رميماً؟!

وأجاب القرآن – عن هذا التساؤل – بجوابين: جواب مختصر، وجواب مفصل. فالجواب المختصر:

((نسي خلقه)) فهو خلق، كما يحيي التراب المنتشر في كل مكان.

والجواب المفصل: ((قل: يحييها الذي أنشأها أول مرة)).

فالإنسان خلق من أتربة متلملمة من شتى أصقاع الأرض. إن طريقة الله في خلق الإنسان من شتى أصقاع الأرض، هي طريقة الله في إعادة الإنسان.

ذلك: أن كل فرد، يؤلف كيانه الجسماني:

من غبار ينقله الهواء إلى الماء، فيشربه الإنسان ويصبح جزءاً من جسمه.

ومن تراب كان في مزارع السكر النائية، فامتصتها جذور قصب السكر، وتحولت – في معامل الله الدقيقة البسيطة التي تسمى بالنبات – إلى مادة، تحولت بعدها إلى سكر، أرسله الله – بألف وسيلة ووسيلة – ليأكله الإنسان، فيصبح جزءاً من جسمه.

ومن تراب تحول إلى قمح، ومن تراب تحول إلى فاكهة، ومن تراب ملح... يأكلها الإنسان، فتغدو أجزاء في جسمه.

ومن تراب تحول إلى نبات، أكله الحيوان، فتحول – في معامل الله المعجزة، الداخلة في جسم الحيوان – إلى لحم يأكله الإنسان، ليكون جزءاً من جسمه.

وهكذا...

فلو حللنا جسم الإنسان الذي يقول:

((من يحيي العظام وهي رميم؟!))، لوجدنا جسمه مؤلفاً من عشرات الملايين من الخلايا الترابية، المنقولة من بقاع الأرض، ابتداء بقاعات البحار وانتهاء إلى قمم الجبال.

فكما أن الله ألَّفك من الأتربة المجموعة من شتى أقطار الأرض، هكذا... يجمعك إذا انتشرت في شتى بقاع الأرض بالموت.

فمن يقول: ((من يحيي العظام وهي رميم؟!))، نسي أنه كان رميماً في بطن أمه، فخلقه الله إنساناً.

ومن يقول: (كيف يعاد تأليف الإنسان إذا انتشر؟!)، نسي أنه كان تراباً منتشراً ألفه الله إنساناً. ولو فكر في مبدئه – هو – لعلم: أن الله كما أنشأه يعيده.

لأن الإنشاء أصعب من الإعادة، وحيث أن الله قادر على الإنشاء – بدليله هو – فهو أقدر على الإعادة والإحياء.