النظام الاقتصادي في الإسلام

مسألة ـ23ـ لقد ألمحنا في بعض الفصول السابقة إلى شيء من الاقتصاد الإسلامي، ونعود لنقول: إنّه ليس مثل الاقتصاد الرأسمالي، ولا مثل الاقتصاد الشيوعي، ولا مثل الاقتصاد الاشتراكي.

فإنّ الأول يطلق يد رأس المال في عمل ما شاء من أنواع الاستثمار، ولو كان بالربا والاحتكار والاتجار بالمضار كالخمر والأفيون، إلى غير ذلك.

والثاني يكبت حريات الإنسان في اقتناء الملك، حتى إنه لا يحق له أنْ تكون له دار مملوكة، بل وأحياناً حتى دجاجة، بل الكل ملك الدولة، والناس عمال الدولة، فلكل أنْ يعمل حسب طاقته، وأنْ يستفيد من أملاك الدولة حسب حاجته، ولهذا الاقتصاد أضرار كبيرة منها: تقليل الإنتاج، فإنّ الإنسان ليس له شوق أنْ ينتج ليأكل غيره ثمره، فيقل الإنتاج كماً ونوعاً، ومنها جبرية العمل، مما يسبب بالإضافة إلى قلة الإنتاج، الكآبة الدائمة، وعدم الثقة، وإخراج الإنسان من إنسانيته إلى بهيمة مربوطة، ليس له من الاختيار، الذي هو أفضل شيء خلق في الإنسان، ومنها انعدام العدالة الاجتماعية، حيث تجمع الأقلية في يدها كل المال والقوة، بينما تحرم الأكثرية المطلقة من أي قدر من المال والقدرة، مما بدوره يهدم طاقات الأكثرية، ومنها تفويت الفرصة على المظلوم لرد ظلامته، لأنّ طرفه التي هي الدولة هي التي تملك القوة، (وويل لمن شفعاؤه خصماؤه) إلى غير ذلك من المفاسد.

والثالث: يجمع بين سيئات النظام الرأسمالي حيث يعربد المال بقدر، وبين سيئات النظام الشيوعي حيث ينقل قسماً من ما للناس حق التصرف فيه إلى الدولة.

بل للإسلام نظام اقتصادي مستقل، يمنع من كل أنواع الكبت، وكل أنواع الاستغلال، وكل أنواع عربدة المال، وفيه يبقى الأغنياء أغنياء، ولا يبقى حتى فقير واحد، على ما فصلّنا خطوطه العريضة في بعض كتبنا الإسلامية، وهنا سؤال يفرض نفسه، وهو: هل أنّ للدولة المنع عن استثمار الموارد العامة الطبيعية والصناعية أم لا؟ مثل أنّه هل للدولة أنْ تمنع الأفراد والجماعات من استخراج المعادن وإحياء الأراضي واستملاك الغابات وما أشبه ذلك؟ وهل للدولة المنع عن انتقال الصناعات الثقيلة مثل القطارات والمطارات والمعامل الكبيرة وما أشبه، إلى يد فرد أو جماعة، ليكون ثمرها له أو لهم؟ قد يقال بذلك لأمرين:

أولاً: للحديث الوارد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي يفيد اشتراكية الماء والكلاء والنار[1] (يراد بها نيران الأحجار والأشجار القادحة للنار) مما يفهم منه اشتراكية بقية الثروات العامة، طبيعية كانت أو غير طبيعية.

وثانياً: لأنّ في إطلاق الحريات لاستثمار هذه الأمور لفرد أو جماعة أضراراً بالآخرين وقد ورد: (لا ضرر ولا ضرار)[2] لكن الظاهر عدم صحة هذا القول، إذ الحديث الأول على تقدير سلامة سنده لا يشمل بنفسه حيازة المباحات، التي الناس فيها شرع سواء، ودليل لا ضرر لا يمنع ما لا ضرر فيه، بل يمكن أنْ يقال: إنّ أدلة حيازة المباحات لا تشمل ما فيه ضرر على عامة الناس، لا أن دليل الانصراف، ما ورد من أنّ فقر الفقراء إنّما هو لسبب منع الأغنياء.

ففي رواية محمد بن مسلم، عن الصادق (عليه السلام)، وأنهم: (الفقراء) لم يؤتوا من قبل فريضة الله عزّ وجلّ ولكن أوتوا من منع من منعهم حقهم لا ممّا فرض الله لهم[3] ـ الحديث ـ.

وفي رواية معتب، عن الصادق (عليه السلام): وإنّ الناس ما افتقروا ولا احتاجوا ولا جاعوا ولا عروا إلاّ بذنوب الأغنياء، وحقيق على الله تعالى أنْ يمنع رحمته ممن منع حق الله في ماله[4] ـ الحديث ـ.

إلى سائر الروايات، وهي وإنْ وردت في باب الزكاة، إلا أنَّ عموم العلة فيها يشمل المقام، وبناءً على ما ذكرناه فإن لكل أحد:

1.         أنْ يستثمر ويحوز المباحات المطلقة كما يشاء.

2.         عليه أنْ يؤدي حقوقه الواجبة من خمس وزكاة وما أشبه.

3.         لا يحق لأحد أن يأخذ المال من غير حله، كالربا والاحتكار والغش ونحوها.

4.         ليس لأحد أن يضع المال في غير حله، من السرف والتبذير والفساد.

5.         ليس لأحد أن يستثمر المباحات بما يضرّ سائر الناس، ولو أراد ذلك.

فإنْ أمكن الدولة أنْ تمنعه بالوسائل المنافسية فعلت، وإلاّ تدخلت لمنعه، مثلاً إنسان اشترى كل حنطة البلد، ثم أراد أنْ يبيعها بما يضرّ الفقراء، فإنْ أمكنت الدولة أنْ تستورد الحنطة وتبيعها بقيمة رخيصة فعلت، وذلك يوجب رخص السعر لحنطة التاجر تلقائياً، وإنْ لم تتمكن الدولة من ذلك منعت من احتكارها، ودليل لا ضرر وإنْ كان بناؤهم أنّه لا يتكفل الأحكام الإيجابية، لكنه يمكن أنْ يستدل به للمقام على نحو ما استدلوا به لخيار الغبن فراجع.

ثم لا يخفى أنّ الإسلام حيث ينفي الجور، بإشاعة العدل، وينظف النفوس بحب الخير والإيمان، قلما نجد غنياً يفكر في إضرار الناس بالاحتكار الحيازي، أو التجاري، أو الصناعي، أو ما أشبه، فليس المجتمع الإسلامي كالمجتمع الرأسمالي، الذي لا يضبط إلاّ بفرض القوانين، ولا تراحم فيه بين الناس، قال سبحانه: ((مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ))[5].

أما ما ورد من أن (الأسعار بيد الله) وأنه (لا تسعير) فالمراد بالأول مثل الآيات والأحاديث التي تقول: ((وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ))[6] ((فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ)) ((أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ))[7] إلى غيرها من الآيات التي تنسب كل شيء إلى الله باعتبار أنّ منه سبحانه الآلة والمراد بالثاني عدم جواز التسعير في نفسه، لأنّه خلاف (الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم)[8] ولا ينافي ذلك جواز التسعير لأمر طارئ؛ لدليل (لا ضرر) ونحوه.


[1] ـ كما في الدعائم: ج2 ص20ح33.

[2] ـ من لا يحضره الفقيه: ج3 ص147 الباب 70 ح18.

[3] ـ وسائل الشيعة: ج 6 ص3 الباب 1 ح2.

[4] ـ وسائل الشيعة: ج 6 ص4 الباب1 ح6.

[5] ـ سورة الفتح: الآية 29.

[6] ـ سورة الأنفال: الآية17.

[7] ـ سورة الواقعة: الآية64.

[8] ـ البحار : ج2 ص 272.