عفو المجرمين وعقابهم

مسألةـ32ـ إذا قامت ثورة إسلامية أطاحت بحكم الطغاة، جاز للحاكم الإسلامي الأعلى العفو عن المجرمين، الذين أجرموا بحق الأمة، إذا رأى ذلك صلاحاً، كما عفا رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن أهل مكة وعفا علي (عليه السلام) عن أهل البصرة، فلا يقتل مستحق القتل منهم ولا يأخذ أموالهم ويتركهم وشأنهم، كما يحق له إنْ رأى ذلك صلاحاً أنْ يأخذ منهم الفدية، كما أخذ الرسول (صلى الله عليه وآله) من كفار بدر الفدية، وكذلك يحق له قتل من يستحق القتل، ومصادرة أموالهم واستحقاق القتل، إما بأنْ قتلوا أو ما أشبه، مما نص في الإسلام، بأنّه يُقتل، وأما بأنْ يكونوا من مصاديق المفسدين في الأرض، كما قال سبحانه: ((إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ))[1] ، والمفسد ليس خاصاً بقاطع الطريق فإنّه من مصاديقه، وإلاّ فالقائد الظالم الذي أمر بقتل الأبرياء من مصاديق المفسدين إلى غير ذلك، ومثله معذب الأبرياء في السجون، وهل للحاكم تعذيبه بما عذب به، احتمالان لا يبعد ذلك لقوله سبحانه: ((فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ))[2] ، كما لا يبعد أنْ يكون للحاكم الإسلامي حق السجن لما تقدم المناط المستفاد من عدة مواضع في باب السجن، وقد سجن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أسارى بدر، ولا فرق في المدة القليلة والكثيرة، وسجن علي (عليه السلام) بعض المنحرفين حتى شفع فيهم سيد شباب أهل الجنة (عليه السلام) فأطلق (عليه السلام) سراحهم، هذا بالنسبة إلى خياره في سجنهم أو قتلهم أو أخذ الفدية منهم، بالإضافة إلى حقه بالنسبة إلى صلبهم، وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ونفيهم من الأرض، كما في الآية الكريمة ـ ولسنا الآن بصدد التفصيل، بل هو موكول إلى محله ـ أما بالنسبة إلى أموالهم، فالظاهر أنّ له مصادرتها لأمرين:

الأول: إنّ علياً مَنَّ على أهل البصرة، لا لأنّهم كانوا مستحقين لأموالهم، ولذا لم يَمُنَ على بني ناجية، في قصة مذكورة في نهج البلاغة وشروحها، وكذلك مَنّ الرسول (صلى الله عليه وآله) على أهل مكة، كما يظهر من كلام الإمام (عليه السلام) .

الثاني: إنّه مقابلة بالمثل، قال سبحانه: ((فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ))[3] ، فإذا كانت السلطة الجائرة تصادر أموال الأبرياء (كما هو شأنهم) كانت للدولة الإسلامية مصادرة أموالهم، ولا يلزم أنْ يكون الذي تريد الدولة الإسلامية مصادرة أمواله قد صادر أموال الأبرياء، بل يكفي أنْ كان جزء نظام جائر، فإنّ من كان جزء نظام يكون محكوماً بأحكام ذلك النظام، كما ورد في قوله سبحانه ـ في قصة صالح (عليه السلام) ـ (فعقروها) أنّه تعالى نسب العقر إلى جميعهم لرضاهم بذلك ولذا عمهم الله بالعقاب، هذا ولكن اللازم ملاحظة أمرين:

الأول: ملاحظة ألا يوجب عمل الحاكم الإسلامي ما يسيء إلى سمعة الإسلام، حيث إنّ كل ما يسيء إلى سمعة الإسلام يجب تركه، من باب قاعدة الأهم والمهم.

الثاني: ملاحظة ألا يسبب عمله التفكك في الدولة، مما يكون ضرُّه أقرب من نفعه، فإنّه يلزم تركه أيضاً من باب الأهم والمهم، وقد ورد أنّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ترك بعض الأحكام خوفاً من انهدام عسكره فراجع، ولعل ترك الرسول (صلى الله عليه وآله) لبعض الأحكام كان بسبب ذلك، وإلاّ فكل راد على الرسول (صلى الله عليه وآله) يجب تعزيره، وكل فار عن الحرب وجب تعزيره، وكذلك بالنسبة إلى من تجسس للمشركين في قصة حاطب، ومن أراد قتل الرسول (صلى الله عليه وآله) في ليلة العقبة، إلى غيرها من القصص الكثيرة المذكورة في الروايات والتواريخ والآيات، والحاصل أنّ الأحكام الإسلامية ـ في باب الحكم ـ ليست جامدة حرفية ـ بل يلزم جمع الأحكام الأولية بالأحكام الثانوية مثل قاعدة الأهم والمهم، وقاعدة لا ضرر[4] وقاعدة الإسلام يعلو[5]، وقاعدة تقوية المسلمين وعدم جواز تضعيفهم أمام الأعداء، المستفادة من قوله تعالى: ((وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ))[6] ، بل يظهر من أحوال الرسول (صلى الله عليه وآله) أنّه كان يهتم لتأليف القلوب، ولذا جمع الطعام لبعض محاربيه حيث فقدوا الطعام، وأرسل ببعض غنائم خيبر إلى مكة تأليفاً لقلوبهم، وكذلك فتح الماء علي (عليه السلام) لجيش معاوية، وكان يعطي الخوارج جوائز، وسقى الحسين (عليه السلام) الماء لأصحاب الحر، إلى غيرها من القصص المبثوثة في التاريخ الإسلامي، مما يجب على الدولة الإسلامية مراعاة بقاء وحدة الصف والألفة وتوحيد الكلمة، فإنّ قيام الدولة لا بدّ وأنْ يصادفها ردود فعل عنيفة في كثير من الأحيان توجب تشتّت الكلمة، الموجب لضعف الدولة ويؤدي أحياناً إلى سقوطها، ولا يمكن وحدة الصف إلاّ بالاستشارة وأخذ آراء الأكثرية دائماً، وجعل العفو والصفح والتواضع وملاحظة الأهم والمهم شعاراً عن كل صدق وإخلاص، وما ذلك على الله سبحانه بعزيز.


[1] ـ سورة المائدة: الآية33.

[2] ـ سورة البقرة: الآية 194.

[3] ـ سورة هود: الآية 65، وانظر البحار قصة صالح (عليه السلام): ج11 ص370.

[4] ـ العوالي: ج1 ص220 ح93.

[5] ـ العوالي: ج1 ص226 ح118.

[6] ـ سورة الأنفال: الآية60.