فصل

في أنّ جوائز الظالم وطعامه حلال وإنْ لم يكن له مكسب إلاّ من الولاية

إلاّ أنْ يعلم حراماً بعينه، وكذا ما يأخذه زكاة أو خراجاً.

عن الحسن بن محبوب، عن أبي ولاّد قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما ترى في رجل يلي أعمال السلطان ليس له مكسب إلاّ من أعمالهم وأنا أمر به فأنزل عليه فيضيفني ويحسن إليّ، وربما أمر لي بالدراهم والكسوة وقد ضاق صدري من ذلك، فقال لي: كل وخذ منه، فلك المهنا وعليه الوزر[1].

وعن أبي المعزا قال: سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا عنده فقال: أصلحك الله، أمر بالعامل فيجيزني بالدراهم آخذها؟ قال: نعم، قلت: وأحج بها؟ قال: نعم[2].

وعن محمد بن هشام أو غيره قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أمر بالعامل فيصلني بالصلة أقبلها؟ قال: نعم، قلت: وأحج منها؟ قال: نعم وحج منها[3].

وعن يحيى بن أبي العلاء، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، عن أبيه، إنّ الحسن والحسين (عليهما السلام) كانا يقبلان جوائز معاوية[4].

وعن محمد بن مسلم وزرارة، قالا: سمعناه يقول: جوائز العمال ليس بها بأس[5].

وعن أبي بكر الحضرمي قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) وعنده إسماعيل ابنه، فقال: ما يمنع ابن أبي السمال (السماك خ. ل. الشمال) أنْ يخرج شباب الشيعة فيكفونه ما يكفيه الناس، ويعطيهم ما يعطي الناس؟ ثم قال لي: لم تركت عطاءك؟ قال: مخافة على ديني؟ قال: ما منع ابن أبي السمال (السماك. الشمال خ. ل) أنْ يبعث إليك بعطائك؟ أما علم أنّ لك في بيت المال نصيباً[6].

وعن داود بن رزين قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): إني أخالط السلطان فتكون عندي الجارية فيأخذونها، أو الدابة الفارهة فيبعثون فيأخذونها، ثم يقع لهم عندي المال، فلي أن آخذه؟ قال: خذ مثل ذلك ولا تزد عليه[7].

وعن عمر أخي عذافر: قال: دفع إليَّ إنسان ستمائة درهم أو سبعمائة درهم لأبي عبد الله (عليه السلام)، فكانت في جوالقي، فلما انتهيت إلى الحفيرة، شق جوالقي وذهب بجميع ما فيه، ورافقت عامل المدينة بها فقال: أنت الذي شق جوالقك فذهب بمتاعك؟ فقلت: نعم، قال: إذا قدمنا المدينة فأتنا حتى نعوضك قال: فلما انتهينا إلى المدينة، دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: يا عمر، شقت زاملتك وذهب بمتاعك،؟ فقلت: نعم، فقال: ما أعطاك خير مما أخذ منك... (إلى أن قال) فأت عامل المدينة فتنجز منه ما وعدك، فإنّما هو شيء دعاك الله إليه لم تطلبه منه[8].

وعن محمد بن قيس بن رمانة قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فذكرت له بعض حالي، فقال: يا جارية، هاتي ذلك الكيس، هذه أربعمائة دينار، وصلني بها أبو جعفر، فخذها وتفرح بها ـ الحديث[9].

وعن الفضل بن الربيع، عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) في حديث أنّ الرشيد بعث إليه بخلع وحملان ومال، فقال: لا حاجة لي بالخلع والحملان والمال إذا كان فيه حقوق الأمة، فقلت: ناشدتك بالله أنْ لا ترده فيغتاظ، قال: اعمل به ما أحببت[10].

وعن عبد الله بن الفضل، عن أبيه في حديث أن الرشيد أمر بإحضار موسى بن جعفر (عليه السلام) يوماً فأكرمه وأتى بها بحُقة الغالية، ففتحها بيده فغلفه بيده، ثم أمر أنْ يحمل بين يديه خلع وبدرتان ودنانير، فقال موسى بن جعفر (عليه السلام): والله، لولا أنى أرى من أزوّجه بها من عزّاب بني أبي طالب لئلا ينقطع نسله ما قبلتها أبداً[11].

عن سفيان بن نزار في حديث أن المأمون حكى عن الرشيد أن موسى بن جعفر (عليه السلام) دخل عليه يوماً فأكرمه، ثم ذكر أنه أرسل إليه مائتي دينار[12].

وعن الحسين بن علوان، عن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليهما السلام) أن الحسن والحسين (عليهما السلام) كانا يغمزان معاوية ويقعان فيه ويقبلان جوائزه[13].

وعن أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي في (الاحتجاج) عن الحسين (عليه السلام)، أنّه كتب كتاباً إلى معاوية، وذكر الكتاب وفيه تقريع عظيم وتوبيخ بليغ، فما كتب إليه معاوية بشيء يسوؤه، وكان يبعث إليه في كل سنة ألف ألف درهم سوى عروض وهدايا من كل ضرب[14].

وعن أحمد بن محمد بن عيسى في (نوادره) عن أبيه،عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لا بأس بجوائز السلطان[15].

وعن ابن أبي عمير،عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: قال لي أبو الحسن موسى (عليه السلام): ما لك لا تدخل مع علي في شراء الطعام إني أظنك ضيقاً، قال: قلت: نعم، فإنْ شئت وسعت علي، قال: اشتره[16].

وعن علي بن عطية، عن زرارة قال: اشترى ضريس بن عبد الملك وأخوه من هبيرة أرُزَّاً بثلاثمائة ألف، قال: فقلت له: ويلك أو ويحك انظر إلى خمس هذا المال، فابعث به إليه، واحتبس الباقي فأبى عليَّ، قال: فأدى المال وقدم هؤلاء، فذهب أمر بني أمية قال: فقلت ذلك لأبي عبد الله (عليه السلام) فقال مبادراً للجواب: هو له، هو له، فقلت له: إنّه قد أدّاها فعضَّ على إصبعه[17].

وعن محمد بن أبي حمزة، عن رجل، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أشتري الطعام فيجيئني من يتظلم ويقول: ظلمني، فقال: اشتره[18].

وعن معاوية بن وهب، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أشتري من العامل الشيء وأنا أعلم أنّه يظلم؟ فقال: اشترِ منه[19].

وعن أبي عبيدة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل منّا يشتري من السلطان من إبل الصدقة وغنم الصدقة وهو يعلم أنّهم يأخذون منهم أكثر من الحق الذي يجب عليهم، قال: فقال: ما الإبل إلاّ مثل الحنطة والشعير وغير ذلك لا بأس به حتى تعرف الحرام بعينه، قيل له: فما ترى في مصدق يجيئنا فيأخذ منا صدقات أغنامنا فنقول: بعناها فيبيعناها، فما تقول في شرائها منه؟ فقال: إنْ كان قد أخذها وعزلها فلا بأس، قيل له: فما ترى في الحنطة والشعير يجيئنا القاسم فيقسم لنا حظنا، ويأخذ حظه فيعزله بكيل فما ترى في شراء ذلك الطعام منه؟ فقال: إنْ كان قبضه بكيل وأنتم حضور ذلك، فلا بأس بشرائه منه من غير كيل[20].

وعن جميل بن صالح قال: أرادوا بيع تمر عين أبي زياد فأردت أنْ أشتريه فقلت: حتى أستأذن أبا عبد الله (عليه السلام) فأمرت مصادفاً فسأله، فقال له: قل له: فليشتره، فإنّه إنْ لم يشتره اشتراه غيره[21].

وعن إسحاق بن عمار قال: سألته عن الرجل يشتري من العامل وهو يظلم، قال: يشتري منه ما لم يعلم أنه ظلم فيه أحداً[22].

وعن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: سألته عن الرجل أيشتري من العامل وهو يظلم؟ فقال: يشتري منه[23].

وعن مسعدة بن زياد، عن جعفر، عن أبيه (عليهما السلام): إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أمر بالنزول على أهل الذمة ثلاثة أيام، وقال: إذا قام قائمنا اضمحلت القطائع، فلا قطائع، وقال: إنّ لي أرض خراج وقد ضقت بها[24].

 خطبة للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بصفين[25]

أمّا بعد، فقد جعل الله لي عليكم حقاً بولاية أمركم، ولكم عليّ من الحق مثل الذي لي عليكم، فالحق أوسع الأشياء في التواصف، وأضيقها في التناصف. لا يجري لأحد إلاّ جرى عليه ولايجري عليه إلاّ جرى له، ولو كان لأحد أن يجري له ولا يجري عليه لكان ذلك خالصاً لله سبحانه دون خلقه لقدرته على عباده ولعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه، ولكنه جعل حقه على العباد أن يطيعوه، وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضلاً منه وتوسعاً بما هو من المزيد أهله.

ثم جعل سبحانه من حقوقه حقوقاً افترضها لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافأ في وجوهها ويوجب بعضها بعضاً، ولا يستوجب بعضها إلاّ ببعض، وأعظم ما افترض الله سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي، فريضة فرضها الله سبحانه لكل على كل، فجعلها نظاماً لألفتهم وعزاً لدينهم.

فليست تصلح الرعية إلاّ بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلاّ باستقامة الرعية.

فإذا أدّت الرعية إلى الوالي حقه، وأدّى الوالي إليها حقها، عز الحق بينهم، وقامت مناهج الدين،واعتدلت معالم العدل، وجرت على إذلالها السنن فصلح بذلك الزمان، وطمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الأعداء.

وإذا غلبت الرعية واليها، وأجحف الوالي برعيته، اختلفت هنالك الكلمة وظهرت معالم الجور، وكثر الإدغال في الدين وتركت محاج السنن، فعمل بالهوى، وعطلت الأحكام، وكثرت علل النفوس، فلا يستوحش لعظيم حق عطل، ولا لعظيم باطل فعل، فهنالك تذل الأبرار وتعز الأشرار، وتعظم تبعات الله عند العباد، فعليكم بالتناصح في ذلك وحسن التعاون عليه، فليس أحد وإنْ اشتد على رضاء الله حرصه وطال في العمل اجتهاده ببالغ حقيقة ما الله أهله من الطاعة له.

ولكن من واجب حقوق الله على العباد النصيحة بمبلغ جهدهم، والتعاون على إقامة الحق بينهم، وليس امرؤٌ وإن عظمت في الحق منزلته، وتقدمت في الدين فضيلته بفوق أنْ يعاون على ما حمله الله من حقه، ولا امرؤٌ وإنْ صغرته النفوس واقتحمته العيون بدون أنْ يعين على ذلك أو يعان عليه.

(فأجابه (عليه السلام) رجل من أصحابه بكلام طويل يكثر فيه الثناء عليه ويذكر سمعه وطاعته له) فقال (عليه السلام):

إنّ من عظم جلال الله في نفسه، وجل موضعه من قلبه أنْ يصغر عنده لعظم ذلك كل ما سواه، وإنّ أحق من كان كذلك لمن عظمت نعمة الله عليه ولطف إحسانه إليه، فإنّه لم تعظم نعمة الله على أحد إلاّ ازداد حق الله عليه عظماً وإنّ من أسخف حالات الولاة عند صالح الناس أنْ يظن بهم حب الفخر ويوضع أمرهم على الكبر، وقد كرهت أن يكون جال في ظنكم أنّي أحب الإطراء واستماع الثناء، ولست بحمد الله كذلك.

ولو كنت أحب أن يقال ذلك لتركته انحطاطاً لله سبحانه عن تناول ما هو أحق به من العظمة والكبرياء. وبما استحلى الناس الثناء بعد البلاء، فلا تثنوا عليّ بجميل ثناء لإخراجي نفسي إلى الله وإليكم من التقية في حقوق لم أفرغ من أدائها، وفرائض لابد من إمضائها، فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة، ولا تتحفظوا منى بما يتحفظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي لا التماس إعظام لنفسي، فإنّه من استثقل الحق أنْ يقال له أو العدل أنْ يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق أنْ أخطئ، ولا آمن ذلك من فعلي إلاّ أنْ يكفيني الله من نفسي ما هو أملك به مني.

فإنما أنا وأنتم عبيد مملوكون لرب لا ربّ غيره نملك منا ما لا تملك من أنفسنا، وأخرجنا ممّا كنا فيه إلى ما صلحنا عليه، فأبدلنا بعد الضلالة بالهدى وأعطانا البصيرة بعد العمى.

 

عهد للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)[26]

كتبه لمالك الأشتر النخعي (ره) لمّا ولاه على مصر وأعمالها، وهو أطول عهد وأجمع كتبه للمحاسن كما قاله السيد الرضي (ره).

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولاّه مصر: جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها.

أمره بتقوى الله وإيثار طاعته، واتباع ما أمر به في كتابه: من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلاّ باتباعها، ولا يشقى إلاّ مع جحودها وإضاعتها، وأن ينصر الله سبحانه، فإنه جل اسمه قد تكفل بنصر من نصره وإعزاز من أعزه.

وأمره أنْ يكسر نفسه من الشهوات ويزعها عند الجمحات، فإنّ النفس أمارة بالسوء إلاّ ما رحم الله.

ثم اعلم يا مالك، أنّي قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور، وأنّ الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم، وإنّما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده، فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح.

فاملك هواك، وشح بنفسك عما لا يحل لك، فإنّ الشح بالنفس الإنصاف منها فيما أحبّت أو كرهت.

وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان إمّا أخ لك في الدين وإمّا نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ فاعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أنْ يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاّك، وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم.

ولا تنصبن نفسك لحرب الله فإنّه لا يد لك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته، ولا تندمن على عفو، ولا تبجحن بعقوبة، ولا تسرعن إلى بادرة وجدت منها مندوحة، ولا تقولن إني مؤمر آمر فأطاع، فإنّ ذلك إدغال في القلب ومنهكة للدين، وتقربٌ من الغِيَرِ، وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة أو مخيلة فانظر إلى عظم ملك الله فوقك وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك، فإنّ ذلك يطامن إليك طماحك، ويكف عنك من غربك، ويفيء إليك بما عزب عنك من عقلك.

إياك ومساماة الله في عظمته والتشبه به في جبروته، فإنّ الله يذل كل جبار ويهين كل مختال.

أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوى من رعيتك، فإنّك إلاّ تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله، أدحض حجته وكان لله حرباً حتى ينزع ويتوب، وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإنّ الله سميع دعوة المضطهدين وهو للظالمين بالمرصاد.

وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل وأجمعها لرضى الرعية، فإنّ سخط العامة يجحف برضى الخاصة، وإنّ سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة، وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء وأقل معونة له في البلاء، وأكره للإنصاف، وأسأل للإلحاف، وأقل شكراً عند الإعطاء، وأبطأ عذراً عند المنع، وأضعف صبراً عند ملمات الدهر من أهل الخاصة إنما عماد الدين وجماع المسلمين والعدة وللأعداء العامة من الأمة، وفليكن صغوك لهم وميلك معهم.

ليكن أبعد رعيتك منك وأشنأهم عندك أطلبهم لمعايب الناس، فإنّ في الناس عيوباً الوالي أحق من سترها، فلا تكشفن عما غاب عنك منها فإنما عليك تطهير ما ظهر لك، والله يحكم على ما غاب عنك، فاستر العورة ما استطعت، يستر الله منك ما تحب ستره من رعيتك، أطلق عن الناس عقدة كل حقد، واقطع عنك سبب كل وتر، وتغاب عن كل ما لا يصح لك، ولا تعجلن إلى تصديق ساع فإن الساعي غاش وإن تشبه بالناصحين.

ولا تدخلن في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر، ولا جباناً يضعفك عن الأمور، ولا حريصاً يزين لك الشهرة بالجور، فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله، إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً ومن شركهم في الآثام فلا يكونن لك بطانة فإنهم أعوان الآثمة وإخوان الظلمة، وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم ممن لم يعاون ظالماً على ظلمه ولا آثماً على إثمه، أولئك أخف عليك مؤونة، وأحسن لك معونة، وأحنى عليك عطفاً، وأقل لغيرك ألفاً فاتخذ أولئك خاصة لخلواتك وحفلاتك، ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمر الحق لك، وأقلهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله لأوليائه واقعاً ذلك من هواك حيث وقع، والصق بأهل الورع والصدق، ثم رِضْهُم على أنْ لا يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله، فإن كثرة الإطراء تحدث الزهو وتدني من العزة.

ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإنّ في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة، وألزم كلا منهم ما ألزم نفسه، واعلم أنه ليس شيء بأدعى إلى حسن ظن راع برعيته من إحسانه إليهم، وتخفيفه المؤونات عليهم، وترك استكراهه إياهم على ما ليس قبلهم فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك، فإنّ حسن الظن يقطع عنك نصباً طويلاً، وإنّ أحق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده.

وإنّ أحق من أساء ظنك به لمن ساء بلاؤك عنده.

ولا تنقُصْ سُنّةً صالحة عمل بها صدور هذه الأمة، واجتمعت بها الألفة، وصلحت عليها الرعية، ولا تحدثن سنة تضر بشيء من ماضي تلك السنن فيكون الأجر لمن سنها، والوزر عليك بما نقضت منها.

وأكثر مدارسة العلماء ومنافثة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك وإقامة ما استقام به الناس قبلك.

واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلاّ ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض، فمنها جنود الله، ومنها كتاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة وكلا قد سمى الله سهمه، ووضع على حده فريضته في كتابه أو سنة نبيه (صلى الله عليه وآله) عهداً منه عندنا محفوظاً.

فالجنود بإذن الله حصون الرعية، وزين الولاة، وعز الدين، وسبل الأمن وليس تقوم الرعية إلاّ بهم، ثم لا قوام للجنود إلاّ بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به في جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما يصلحهم، ويكون من وراء حاجاتهم.

ثم لا قوام لهذين الصنفين إلاّ بالنصف الثالث من القضاة والعمال والكتاب لما يحكمون من المعاقد، ويجمعون من المنافع، ويؤتمنون عليه من خواص الأمور وعوامها، ولا قوام لهم جميعاً إلاّ بالتجار وذوي الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم، ويقيمونه من أسواقهم، ويكفونهم من الترفق بأيديهم ما لا يبلغه رفق غيرهم، ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم.

وفي الله لكل سعة، ولكل على الوالي حق بقدر ما يصلحه، وليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه الله من ذلك إلاّ بالاهتمام والاستعانة بالله، وتوطين نفسه على لزوم الحق، والصبر عليه فيما خف عليه أو ثقل، فولِّ من جنودك أنصحهم في نفسك لله ورسوله ولإمامك، وأنقاهم جيباً، وأفضلهم حلماً ممن يبطئ عن الغضب، ويستريح إلى العذر ويرأف بالضعفاء وينبو على الأقوياء.

وممن لا يثيره العنف ولا يقعد به الضعف، ثم الصق بذوي الأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة، ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة، فإنّهم جماع من الكرم، وشعب من العرف، ثم تفقد من أمورهم ما يتفقده الوالدان من ولدهما، ولا يتفاقمن في نفسك شيء قويتهم به، ولا تحقرن لطفاً تعاهدتهم به وإن قل فإنه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك وحسن الظن بك، ولا تدع تفقد لطيف أمورهم اتكالاً على جسيمها فإن لليسير من لطفك موضعاً ينتفعون به، وللجسيم موقعاً لا يستغنون عنه.

وليكن آثر رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته وأفضل عليهم من جدته بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم حتى يكون همهم هماً واحداً في جهاد العدو، فإن عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك، وإنّ أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، وظهور مودة الرعية، وأنه لا تظهر مودتهم إلاّ بسلامة صدورهم، ولا تصح نصيحتهم إلاّ بحيطتهم على ولاة أمورهم، وقلة استثقال دولتهم، وترك استبطاء انقطاع مدتهم، فافسح في آمالهم، وواصل في حسن الثناء عليهم، وتعديد ما أبلى ذوو البلاء منهم.

فإنّ كثرة الذكر لحسن أفعالهم تهز الشجاع وتحرض الناكل إن شاء الله، ثم اعرف لكل امرئ منهم ما أبلى، ولا تضيفن بلاء امرئ إلى غيره، ولا تقصرن به دون غاية بلائه، ولا يدعوك شرف امرئ إلى أن تعظم من بلائه ما كان صغيراً، ولا ضعة أمرئ إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيماً.

واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب ويستبه عليك من الأمور فقد قال الله لقوم أحب إرشادهم: ((يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‏ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسولِ))[27] فالرد إلى الله الأخذ بمحكم كتابه، والرد إلى الرسول الأخذ بسنته الجامعة غير المتفرقة.

ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر الفيء إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأصرهم عند اتضاح الحكم، ممن لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء، وأولئك قليل، ثم أكثر تعاهد قضائه، وافسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك، فانظر في ذلك نظراً بليغاً، فإنّ هذا الدين قد كان أسيراً في أيدي الأشرار، يعمل فيه بالهوى، وتطلب به الدنيا.

ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختباراً، ولا تولهم محاباة وإثرة، فإنهما جماع من شعب الجور والخيانة، وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام المتقدمة، فإنهم أكرم أخلاقاً، وأصح أعراضاً، وأقل في المطامع إشرافاً، وأبلغ في عواقب الأمور نظراً، ثم أسبغ عليهم الأرزاق فإنّ ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجة عليهم إنْ خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك، ثم تفقد أعمالهم، وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم، فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية، وتحفظ من الأعوان، فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهداً، فبسطت عليه العقوبة في بدنه وأخذته بما أصاب من عمله، ثم تصبه بمقام المذلة ووسمته بالخيانة، وقلدته عار التهمة.

وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله فإنّ صلاحهم صلاحاً لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلاّ بهم لأنّ الناس كلهم عيال على الخراج لأنّ ذلك لا يدرك إلاّ بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلاّ قليلاً، فإنْ شكوا ثقلاً أو علة أو انقطاع شرب أو بالة أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش خففت عنهم بما ترجو أنْ تصلح به أمرهم.

ولا يثقلن عليك شيء خففت به المؤونة عنهم، فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك، مع استجلابك حسن ثنائهم وتبجحك باستفاضة العدل فيهم معتمداً فضل قوتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك لهم والثمة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم في رفقك بهم، فربما حدث من الأمور ما إذا عولت فيه عليهم من بعد احتملوه طيبة أنفسهم به، فإن العمران محتمل ما حملته، وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع، وسوء ظنهم بالبقاء، وقلة انتفاعهم بالعبر.

ثم انظر في حال كتابك فول على أمورك خيرهم، واخصص رسائلك التي تدخل فيها مكائدك وأسرارك بأجمعهم لوجود صالح الأخلاق، ممن لا تبطره الكرامة فيجترى بها عليك في خلاف لك بحضرة ملا، ولا تقصر به الغفلة عن إيراد مكاتبات عمالك عليك، وإصدار جواباتها على الصواب عنك وفيما يأخذ لك ويعطي منك.

ولا يضعف عقد اعتقده لك، ولا يعجز عن إطلاق ما عقد عليك، ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور، فإن الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك استنامتك وحسن الظن منك، فإن الرجال يتعرفون لفراسات الوالاة بتصنعهم وحسن خدمتهم، وليس وراء ذلك من النصيحة والأمانة شيء، ولكن اختبرهم بما ولوا للصالحين قبلك على نصيحتك لله ولمن وليت أمره، واجعل لرأس كل امرئ من أمورك رأساً منهم لا يقهره كبيرها، ولا يتشتت عليه كثيرها ومهما كان في كتابك من عيب فتغابيت عنه الزمته.

ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيراً: المقيم منهم، والمضطرب بماله، والمترفق ببدنه، فإنهم مواد المنافع وأسباب المرافق، وجلابها من المباعد والمطارح، في برك وبحرك، وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتثم الناس لمواضعها، ولا يجترئون عليها، فإنهم سلم لا تخاف بائقته، وصلح لا تخشى غائلته، وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك، واعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحاً قبيحاً، واحتكاراً للمنافع، وتحكماً في البياعات، وذلك باب مضرة للعامة وعيب على الولاة، فامنع من الاحتكار فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) منع منه، وليكن البيع بيعاً سمحاً، بموازين عدل وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع.

فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكل به، وعاقب في غير إسراف، ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم والمساكين والمحتاجين وأهل البؤسى والزمنى، فإن في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً.

واحفظ الله ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسماً من بيت مالك وقسماً من غلات صوافي الإسلام في كل بلد، فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى.

وكل قد استرعيت حقه فلا يشغلنك عنهم بطر، فإنك لا تعذر تضييعك التافه لأحكامك الكثير المهم، فلا تشخص همك عنهم، ولا تصعّر خدك لهم، وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم ممن تقتحمه العيون وتحقره الرجال، ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم، ثم اعمل فيهم الإعذار إلى الله يوم تلقاه، فإنّ هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم، وكل فأعذر إلى الله في تأدية حقه إليه، وتعهد أهل اليتم وذوي الرقة في السن ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه، وذلك على الولاة ثقيل والحق كله ثقيل، وقد يخففه الله على أقوام طلبوا العاقبة فصبروا أنفسهم ووثقوا بصدق موعود الله لهم.

واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلساً عاماً فتتواضع فيه لله الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك، حتى يكلمك متكلمهم غير متعتع، فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول في غير موطن: (لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متعتع)، ثم احتمل منهم الخرق منهم والعي، ونح عنك الضيق والأنف يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمته، ويوجب لك ثواب طاعته، واعط ما أعطيت هنيئاً، وامنع في إجمال وإعذار، ثم أمور من أمورك لا بد لك من مباشرتها، منها إجابة عمالك بما يعي عنه كتابك.

ومنها إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك مما تحرج به صدور أعوانك، وامض لكل يوم عمله فإن لكل يوم ما فيه، واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله أفضل تلك المواقيت واجزل تلك الأقسام وإن كانت كلها لله إذا صلحت فيها النية وسلمت منها الرعية.

وليكن في خاصة ما تخلص به لله دينك إقامة فرائضه التي هي له خاصة، فاعط الله من بدنك في ليلك ونهارك، ووف ما تقربت به إلى الله من ذلك كاملاً غير مثلوم ولا منقوص بالغاً من بدنك ما بلغ، وإذا أقمت صلاتك للناس فلا تكونن منفراً ولا مضيعاً، فإن في الناس من به العلة وله الحاجة، وقد سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين وجهني إلى اليمن كيف أصلي بهم فقال: (صلّ بهم كصلاة أضعفهم وكن بالمؤمنين رحيماً).

وأما بعد فلا تطولن احتجابك عن رعيتك، فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق،وقلة علم بالأمور، والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه، فيصغر عندهم الكبير، ويعظم الصغير،ويقبح الحسن ويحسن القبيح ويشاب الحق بالباطل، وإنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور، وليست على الحق سمات تعرف بها ضروب الصدق من الكذب، وإنما أنت أحد رجلين: أما امرؤ سخت نفسك بالبذل في الحق ففيم احتجابك من واجب حق تعطيه، أو فعل كريم تسديه، أو مبتلى بالمنع، فما أسرع كف الناس عن مسألتك إذا يئسوا من بذلك، مع أن أكثر حاجات الناس إليك مما لا مؤونة فيه عليك، من شكاة مظلمة، أو طلب إنصاف في معاملة.

ثم إنّ للوالي خاصة وبطانة فيهم استئثار وتطاول، وقلة إنصاف في معاملة فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال.

ولا تقطعن لأحد من حاشيتك وحامتك قطيعة، ولا يطمعن منك في اعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك يحملون مؤونته على غيرهم، فيكون مهنأ ذلك لهم دونك، وعيبه عليك في الدنيا والآخرة.

والزم الحق من لزمه من القريب والبعيد، وكن في ذلك صابراً محتسباًَ، واقعاً ذلك من قرابتك و خاصتك حيث وقع، وابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه فإن مغبة ذلك محمودة.

وإنْ ظنت بك الرعية حيفاً فأصحر لهم بعذرك، واعدل عنك ظنونهم بأصحارك فإن في ذلك رياضة منك لنفسك، ورفقاً برعيتك، وإعذاراً تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق.

ولا تدفعن صلحاً دعاك إليه عدوك ولله فيه رضى، فإن في الصلح دعة لجنودك وراحة من همومك وأمناً لبلادك،ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه، فإن العدو ربما قارب ليتغفل، فخذ بالحزم واتهم في ذلك حسن الظن، وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة أو ألبسته منك ذمة فحط عهدك بالوفاء وارع ذمتك بالأمانة، واجعل نفسك جنة دون ما أعطيت فإن ليس من فرائض الله شيء على الناس أشد عليه اجتماعاً مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود، وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب الغدر.

فلا تغدرن بذمتك ولا تخيس بعهدك،ولا تختلن عدوك، فإنّه لا يجترئ على الله إلاّ جاهل شقي، وقد جعل الله عهده وذمته أمناً أفضاه بين العباد برحمته وحريماً يسكنون إلى منعته ويستفيضون إلى جواره، فلا إدغال ولا مدالسة ولا خداع فيه، ولا تعقد عقداً تجور فيه العلل، ولا تعولن على لحن قول بعد التأكيد والتوثقة، ولا يدعونك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله إلى طلب انفساخه بغير الحق فإنّ صبرك على ضيق أمر ترجو انفراجه وفض عاقبة خير من غدر تخاف تبعته وان تحيط بك من الله فيه طلبة فلا تستقيل فيها دنياك ولا آخرتك.

إياك والدماء وسفكها بغير حلها، فإنه ليس شيء أدعى لنقمة ولا أعظم لتبعة ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقها.

والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة، فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام، فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه بل يزيله وينقله، ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد لأنّ فيه قود البدن، وإن ابتليت بخطأ وأفرط عليك سوطك أو سيفك أو يدك فإن في الوكزة فما فما فوقها مقتلة فلا تطمحن بك نخوة السلطان عن أن تؤدي إلى أولياء المقتول حقهم.

وإياك والإعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها وحب الإطراء فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين.

وإياك والمنِّ على رعيتك بإحسانك، أو التزيد فيما كان من فعلك أو أنْ تعدهم فتتبع موعدك بخلفك، فإنّ المن يبطل الإحسان، والتزيد يذهب بنور الحق، والخلف يوجب المقت عند الله و الناس، قال الله تعالى ((كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ)).

وإياك والعجلة بالأمور قبل أوانها، أو التسقط فيها عند إمكانها، أو اللجاجة فيها إذا تنكرت، أو الوهن عنها إذا استوضحت، فضع كل أمر موضعه، وأوقع كل عمل موقعه.

وإياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة والتغابي عما يعني به مما قد وضع للعيون فإنه مأخوذ منك لغيرك، وعما قليل تنكشف عنك أغطية الأمور وينتصف منك المظلوم، املك حمية أنفك، وسورة حدك، وسطوة يدك، وغرب لسانك واحترس من كل ذلك بكف البادرة وتأخير السطوة حتى يسكن غضبك فتملك الاختيار، ولن تحكم ذلك من نفسك حتى تكثر همومك بذكر المعاد إلى ربك.

والواجب عليك أنْ تتذكر ما مضى لمن تقدمك من حكومة عادلة، أو سنة فاضلة، أو أثر عن نبينا (صلى الله عليه وآله)، أو فريضة في كتاب الله فتقتدي بما شاهدته مما علمنا به فيها، وتجتهد لنفسك في اتباع ما عهدت إليك في عهدي هذا واستوثقت به من الحجة لنفسي عليك لكيلا تكون لك علة عند تسرع نفسك إلى هواها.

وأنا أسأل الله بسعة رحمته وعظيم قدرته على إعطاء كل رغبة أنْ يوفقني وإياك لما فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح إليه وإلى خلقه، مع حسن الثناء في العباد وجميل الأثر في البلاد، وتمام النعمة وتضعيف الكرامة، وأنْ يختم لي ولك بالسعادة والشهادة وإنا إليه راغبون، والسلام على رسول الله (صلى الله عليه وآله) الطيبين الطاهرين وسلم تسليماً كثيراً، والسلام.

هذا آخر ما أردنا إيراده في هذا الكتاب والله الموفق للصواب

الكويت

محمد بن المهدي الحسيني الشيرازي


[1] ـ وسائل الشيعة: ج12 ص156 الباب 51 ح1.

[2] ـ وسائل الشيعة: ج12 ص156 الباب 51 ح2.

[3] ـ وسائل الشيعة: ج12 ص156 الباب 51 ح3.

[4] ـ وسائل الشيعة: ج12 ص157 الباب 51 ح4.

[5] ـ وسائل الشيعة: ج12 ص157 الباب 51 ح5.

[6] ـ وسائل الشيعة: ج12 ص157 الباب 51 ح6.

[7] ـ وسائل الشيعة: ج12 ص157 الباب 51 ح7.

[8] ـ وسائل الشيعة: ج12 ص158 الباب 51 ح8.

[9] ـ وسائل الشيعة: ج12 ص158 الباب 51 ح9.

[10] ـ وسائل الشيعة: ج12 ص158 الباب 51 ح10.

[11] ـ وسائل الشيعة: ج12 ص159 الباب 51 ح11.

[12] ـ وسائل الشيعة: ج12 ص159 الباب 51 ح12.

[13] ـ وسائل الشيعة: ج12 ص159 الباب 51 ح13.

[14] ـ وسائل الشيعة: ج12 ص159 الباب 51 ح14.

[15] ـ وسائل الشيعة: ج12 ص160 الباب 51 ح16.

[16] ـ وسائل الشيعة: ج12 ص 161 الباب 52 ح1.

[17] ـ وسائل الشيعة: ج12 ص 161 الباب 52 ح2.

[18] ـ وسائل الشيعة: ج12 ص 161 الباب 52 ح3.

[19] ـ وسائل الشيعة: ج12 ص 161 الباب 52 ح 4.

[20] ـ وسائل الشيعة: ج12 ص 161 الباب 52 ح 5.

[21] ـ وسائل الشيعة: ج12 ص 162 الباب 53 ح 1.

[22] ـ وسائل الشيعة: ج12 ص 162 الباب 53 ح2.

[23] ـ وسائل الشيعة: ج12 ص 163 الباب 53 ح3.

[24] ـ وسائل الشيعة: ج12 ص 163 الباب 54 ح1.

[25] ـ نهج البلاغة: الخطبة رقم 216.

[26] ـ نهج البلاغة: الكتاب رقم 53.

[27] ـ سورة النساء: الآية59.