الفهرس

فهرس الفصل الأول

المؤلفات

 السياسة والدولة

الصفحة الرئيسية

 

نتائج فساد النظام الاجتماعي في الغرب

ثم إنه كان في الغرب الكبت الشديد من طبقة الحكام للشعوب، وحيث وجدت الطبقات المتفاوتة المبتعدة بعضها عن بعض فبعضها فوق القمة وبعضها تحت الحضيض وحيث كانت الكنيسة تتشدد تشددا دينيا غريبا حتى أنها أحرقت ألوف العلماء وعشرات الألوف من الناس وحظرت العلم ـ حتى ترجمة التوراة والإنجيل وما أشبه ـ وحيث كانت تسلط بعض الأقوام على أقوام آخرين نتج عن كل ذلك أمور:

منها: الإفراط في الحرية، فإن كل (فعل) له (رد فعل) يساويه في القوة ويعاكسه في الاتجاه، وقد يكون أحياناً أكثر منه (بمناسبات مذكورة في علم الاجتماع وغيره) وهذه الحرية الافراطية هي التي سببت المشاكل التي يرتطم فيها الغرب إلى هذا اليوم، كما أن الطبقات المتباعدة سببت رد فعل بالتساوي الإفراطي بين الناس حتى بين الرجل والمرأة اللذين لم يكن بينهما تساو لا خلقة، ولا عاطفة، ولا عقلاً ـ إلا في جوامع مشتركة بينهما ـ كما أن تشدد الكنيسة سبّب رد فعل بالتحلل من الدين والفضيلة جملة وتفصيلاً، وتفشي الإلحاد والرذيلة بشكل مخيف، وكذلك تسلط الأقوام الآخرين سبّب القومية المرتبطة باللغة واللون والأرض والقبيلة وما أشبه إلى حد الإفراط البعيد عن موازين العقل، فيرجح جاهل القوم على عالم الأقوام الآخرين وصارت القومية الصنم الجديد الذي يعبد من دون الله ومن دون الموازين الإنسانية، ومن القومية نشأت النازية والفاشية اللتين أغرقتا العالم في حربين عالميتين مدمرتين خلال نصف قرن فقط.

وحيث انهزم الدين عن الساحة وأخذت المادة مكانه حدث (الاستعمار) و(الاستغلال) للشعوب الأخرى، لأن المادة (كما تقدم) ضيقة فتوجب التشاجر والتناحر والاستغلال والاستعمار، أما الدين الحق فهو رحب يسع صدره مختلف الأقوام والشعوب.

وحيث حدث التطرف في رأس المال وجد رد فعل متمثل بـ(الشيوعية) حيث إن الشيوعية ـ بزعمها ـ ضد رأس المال! وإن سقطت الشيوعية في بؤرة رأس المال بشكل أفضع، حيث جمعت بين (رأس مال الدولة) و(دكتاتورية الدولة) ففي الغرب كان رأس المال بيد أفراد والدولة بيد أفراد آخرين وبين هاتين المجموعتين يتوفر شيء من الحرية مما بسببه يتمكن العامل والفلاح وذو الدخل المحدود من التنفس ولو بقدر قليل، لكن في الشيوعية جمعت جماعة خاصة بين (الدولة) و(رأس المال) فسحقوا كل الطبقات، وجروا على الشعوب الويلات المعروفة.

سلامة النظام الإسلامي

أما الإسلام فحيث توفرت فيه الحريات المعقولة، ولم تكن فيه طبقات يسندها القانون، ولا تشدد من الدين ورجاله ـ بل عفو وسماح ودعوة بالتي هي أحسن ـ ولم يكن فيه تسلط أقوام على أقوام بل كان من دخل في الإسلام يصبح كسائر المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، وإنما الكفاءات تصل إلى أرقى المناصب سواء في الحكم أو في العلم أو في القضاء أو في غيرها ولذلك نرى مثلاً أن سلمان الفارسي نصب حاكماً على الإمبراطورية الفارسية لما فتحت إيران... لذلك كله لم يكن في الإسلام استعمار ولا استغلال ولا ردود فعل...

وهكذا امتد الإسلام وزحف إلى الأمام باستثناء بعض الفترات التي سيطر فيها حكام منحرفون خرجوا عن الموازين الإسلامية جملة وتفصيلاً فأوقفوا زحف الإسلام الإصلاحي، وباستثناء الفترة الأخيرة حيث ابتعد كثير من المسلمين عن القرآن الكريم الذي كان هو خلق المسلم مما سبب تمكن الغرب والشرق من الزحف عليهم وتنصيب حكام عملاء عليهم وتبديل القوانين الإسلامية إلى القوانين الوضعية الكابتة.

وهكذا فقدت الدنيا القيادة الرشيدة، وولدت مشكلات عالمية لها أول وليس لها آخر، ارتطم الأقوام كلهم فيها ـ وإن كانت على نسب مختلفة ـ.

الجاهلية الجديدة

والحالة التي تعيشها الدنيا في الوقت الحاضر هي حالة مرضية ـ بكل خصائص المرض ـ وما لم ترفع هذه الحالة إلى حالة صحية فستظل الدنيا تتخبط في دياجير وظلمات ومشاكل أسوأ من المشاكل التي كانت الدنيا تتخبط فيها قبل ظهور الإسلام، فهي (جاهلية ثانية) أسوأ من (الجاهلية الأولى).

إن الدنيا الحاضرة دينا مغلفة بالأنانية، والأثرة، والتفاوت الطبقي، والموازين التي تحكمها هي موازين (القومية) و(الوطنية) و(المادة) و(اللغة) وما أشبه لا الموازين الإنسانية، ولذا تجد كل إنسان لا يرتبط بالوطن الخاص والشعب الخاص ـ ونحو هذين الأمرين ـ غريباً ليس له أي حق في الحياة، فهو يولد في العالم الحاضر دون حق، وينظر إليه بالشبهة والريبة، لا يزوّج، ولا يتزوج منه، ويطرد من البلاد، ولا حق له في البيع والشراء إلى غير ذلك، إلا في نطاق خاص وتحت شروط قاسية جداً، لم يكن لها مثيل حتى في الجاهلية الأولى.

وما دامت الدنيا لا تضع الحب مكان الكراهية، والأخوة مكان الطبقية والوطنية والقومية ونحو ذلك، وحسن الظن بدل سوء الظن، وحب الإنسان بما هو إنسان بدل الروابط الأنانية والأرضية ونحوها، والتعاون بدل التقاطع، وأصالة الصحة ـ في عمل الإنسان وفي قوله ـ بدل أصالة الفساد، وأصالة البراءة حتى تثبت الجريمة بدل أصالة الشبهة، وأصالة الحرية في كل شيء بدل أصالة الكبت.. لم يكن للعالم خلاص من المشاكل، بل أنها تزداد ضيقاً يوماً بعد يوم، حاله حالها المريض فإنه إذا لم يستعمل الدواء يزداد مرضه يوماً بعد يوم حتى ينتهي به إلى الموت.

آفاق ضيّقة

ولما ذكرناه ـ من ضيق الأفق الذي يحكم على بلاد عالم اليوم ـ نرى أن الإنسان الغربي والشرقي إذا قال لزملائه: (إني لا أحب بلادي) يقابل بالاستنكار، أما إذا قال: (إني أريد استعمار سائر البلاد أوإني أريد الاستيلاء على خيرات سائر البلاد، أو إني أريد قتل الطائفة الفلانية التي هي خارجة عن بلادي) أو ما أشبه لا يقابل بالاستنكار، إلا عند فئة خاصة.

إن مردّ ذلك إلى عدم إنسانية الفكر، وضيق الفكر ـ سواء في القومية أو في الوطنية أو في اللغوية أو في اللونية أو ما أشبه ذلك ـ.

الأديان السماوية توسّع آفاق الفكر الإنساني

وقد ورد في الإسلام سعة مثل هذا الأفق وهكذا في كل الأديان السماوية، بل نقل عن المسيح عليه الصلاة والسلام، أنه قال: (أحبوا أعداءكم).

وفسره البعض بأن حب الأعداء هو حب للنفس، لوجود الجذور الإنسانية في كل إنسان سواء كان عدواً أو صديقاً، وفي القرآن الحكيم: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) (المائدة: 8).

وورد في الحديث: (إنصاف الناس من نفسك)(1).

وفي حديث آخر: (فاحبب لغيرك ما تحب لنفسك)(2).

وفي حديث الإمام أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام: (الناس إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق).

كما أنه ورد عن النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله): (لا فضل للعربي على العجمي إلا بالتقوى)(3).

إلى غير ذلك من النصوص الواردة في الأديان السماوية.

والإنسان لا ينقلع عن هذا الضيق في أفقه الفكري ـ الذي يتبعه أيضاً عمله الخارجي ـ إلا إذا توسعت آفاقه الذهنية ورأى الإنسانية وحدة واحدة، وكما قال الشاعر:

(بنو الإنسان أعضـاء جسم واحد)            (لأنهم مخلوقون من جوهر واحد)

(فإذا سبب الزمان لبعضهـــم ألماً)            (يتألم سائـــــر الأفــــــراد لألمـــه)

(فإذا لم تحزن لمصائــب الآخرين)            (فلا ينبغي أن تسمـــــى إنسانـــاً)(4)

هذا هو منطق الأديان السماوية، منطق العقل، والرشد الفكري وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (مثل المـــؤمن في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى بعضه تداعي سائره بالسهر والحمى)(5).

وفي عكسه قال شاعر آخر مـــعبراً عن منطق أمثال الغربيين والشرقيين الذين يحصرون الأمور في القوميات ونحوها: (الناس بعضهم أعداء بعض لأنهم في الخلقة سيئ فأسوأ فإذا سبب الزمان لبعضهم ألماً فإلى جهنم! فما بال سائر الأعضاء؟ إنك إذا لم تحزن لمصاب الآخرين فمن الحق أن تسمى آدمياً).

فإذا تمكن الإنسان أن يدخل تحت مظلة الأنبياء عليهم السلام وأن يجعل جذوره إنسانية لا عنصرية أو طائفية.. أو.. فعندئذٍ يسود الوئام والسلام، وتتبدل معامل صنع السلاح إلى معامل صنع الأغذية، ولا تجد ألف مليون إنسان يتضورون جوعاً بينما أفراد آخرون يسبحون في اللبن ـ كما نشاهد في عالم اليوم ـ كما لا تجد في ذلك اليوم السجون المفتحة والحاجات المعطلة، ولا تجد بعض الناس يسكنون القصور الباذخة بينما السواد الأكبر يسكنون الأكواخ ويعيشون نصف عراة، وقد جاء في نهج البلاغة عن علي عليه الصلاة والسلام قال: (إن الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلا بما متع به غني، والله تعالى سائلهم عن ذلك)(6).

وروى الآمدي في الغرر، عن أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام قال: (زكاة العلم نشره، زكاة الجاه بذله، زكاة الحلم الاحـــتمال، زكاة المال الأفضال، زكاة القدرة الإنصاف، زكاة الجمال العفاف، زكاة الظفر الإحسان، زكاة البدن الجهاد والصيام، زكاة اليسار برّ الجيران وصلة الأرحام، زكاة الصحة السعي في طاعة الله، زكاة الشجاعة الجهاد في سبيل الله، زكاة السلطان إغاثة الملهوف، زكاة النعم إصطناع المعروف، زكاة العلم بذله لمستحقه وإجهاد النفس في العمل به)(7).

إلى غيرها من الآيات والروايات التي تعطي للإنسان آفاقاً إنسانية وسيعة حتى بالنسبة إلى الكافر كما قال النبي (صلّى الله عليه وآله): (لكل كبد حرى أجر)(8).

وإذا لم تحكم هذه الموازين في المجتمع فسيكون مجتمعاً مريضاً، ولا يرجى برؤه إلا بعودته إلى مظلة الأنبياء كي يرجع إلى جذوره الإنسانية.

الإنسان على مفترق الطرق

إن الإنسان يعيش على مفترق ثلاثة طرق (أنا) و(نحن القوم أو العشيرة أو الوطن) و(نحن البشر)، ومن المعلوم أن الإنسان ـ بحكم العقل والمنطق ـ يجب عليه اتباع الطريق الثالث، فإن (أنا) وما يشتق منه (الأنانية) أفق ضيق إلى أبعد حد و(نحن الوطن أو القوم أو ما أشبه) أيضاً أفق ضيق، وإن كان أوسع من الأفق السابق. أما (نحن البشر) فإنه يعبر عن آفاق إنسانية واسعة رحبة.

مضاعفات النظرات الضيقة

ولا يعود الضرر في مقولتي (أنا) و(نحن الوطن) وما أشبه إلى الأطراف الأخر فقط، بل يعود أولاً وبالذات إلى الدكتاتور نفسه في (أنا) والى (الوطن والقوم والقبيلة وما أشبه) في (نحن الوطن أو القوم أو نحو ذلك)، ولذا ورد في الآية الكريمة: (قد أفلح من زكاها) (الشمس: 9).

وورد أيضاً: (ونهى النفس عن الهوى) (النازعات: 40).

وفي الآية الكريمة: (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون) (الأنبياء: 52).

فإن صنم (أنا) وصنم (نحن الوطن) يشبه (الأصنام الحجرية) في العمل على تضييق دائرة الإنسان.

وفي آية أخرى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) (التوبة: 31).

وفي آية أخرى: (ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) (المائدة: 116).

إن كل تضييق في أفق الإنسان يسبب تضييقاً على الذات في الحياة، ويفقد الإنسان المجالات الرحبة للسير والتقدم، كما يشاهد في أحوال الدكتاتوريين الذين يقولون (أنا) وفي أحوال القوميين والوطنيين والإقليميين وما أشبه الذين يحصرون دائرة أفقهم في أقوام خاصة.

وقد ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام استحباب السكن في المدن الكبيرة الواسعة.

فإن هذا أيضاً نابع من نفس المنطلق، فإن المدينة الصغيرة تضيّق دائرة النشاط الإنساني سواء أراد الزواج أو أراد العمل أو أراد النشاط أو غير ذلك، أما المدينة الكبيرة فتتسع دائرة الإنسان فيها بقدر سعة المدينة، مثلاً: إذا عاش الإنسان في قرية تحتوي على عشر عوائل انحصرت الفتاة التي يريد الزواج منها في عشرة أو ما أشبه، أما إذا سكن مدينة تحتوي على مليون إنسان فإنه يستطيع أن ينتخب زوجته من بين ما يقارب مائة ألف فتاة، ومن الطبيعي أنه كلما اتسعت خيارات الإنسان في الانتخاب كان اختياره أفضل وأجود، وهكذا في سائر الأمور.

فعلى الإنسان أن لا يحصر نفسه في دائرة (أنا) أو (نحن القبيلة أو نحن أهل البلد أو ما أشبه)، فإن ذلك يعود بالضرر أولاً وبالذات على نفسه، وثانياً وبالعرض على غيره.

والاجتماع العالمي اليوم حيث أصبح هكذا مريضاً، بكل فروعه وشعبه وقومياته ولونياته ولغاته ورأسمالياته، ولا يتخلص العالم من هذا المرض إلا بتبديل (أنا) و(نحن الوطن ونحوه) إلى (نحن البشر).

(الرأسمالية) الصنم الجديد

وحتى أن حصر النفس في الرأسمالية المنحرفة التي ينتهجها الغرب والشرق هو أيضاً نوع من عبادة الأصنام وتضييق لآفاق النفس، فإن معاني الرحمة والإنسانية والعطف والحنان وما أشبه كلها تموت في نفس الرأسماليين، حيث إنهم يرون ألوف الجائعين والأطفال الذين سقطوا ضحية الأمراض بسبب سوء التغذية، ومع ذلك لا يتعطّفون عليهم، والأسوأ من ذلك انهم يبنون معامل السلاح لقتل الإنسان وجرحه وتعويقه لمجرد أن ذلك يدرّ عليهم المال الوفير، وكذلك البنوك الربوية والمرابون ونحو ذلك، فإنها كلها نابعة من ضيق الأفق الذي يعود على الإنسان أولاً بالشر ثم على غيره، وقد قال سبحانه: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً) (طه: 124).

أليس سباق التسلح حالة مرضية أخذت بخناق العالم في الوقت الراهن، وكلما كان السلاح أفتك يكون سرور الرأسماليين به أكثر، لأنه أكثر إبادة لمن يتصورون من الأعداء وأكثر دراً للأرباح.

الإسلام يحترم الآخرين

أما الإسلام فإنه يحترم حتى الكفار، ويحنّ حتى على القتلة، فقد ورد في الحديث أن رجلاً سب مجوسياً بحضرة الإمام الصادق عليه الصلاة والسلام، فزجره الإمام (عليه السلام) ونهاه فقال له الرجل: إنه تزوج بأمه؟ فقال عليه السلام: (أما علمت أن ذلك عندهم النكاح؟)(9).

وفي حديث آخر: أن الإمام الصادق قال لبعض أصحابه ما فعل غريمك؟ قال: ذاك ابن الفاعـــلة؟ فنظر إليـــه أبو عبد الله عليه الصلاة والسلام نظراً شديداً قال: فقلت: جعلت فداك إنه مجوسي نكــــح أخته؟ قال عليه السلام: أوليس ذلك في دينهم نكاحاً؟(10).

وفي وصايا الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إلى الحسن عليه السلام لما ضربه ابن ملجم قال (عليه السلام): (وأطعموه وأحسنوا أساره...)(11).

النفس الإنسانية وآفاق التصحيح

ألوان من الأنانية

ثم إنه لا فرق في (أنا) الضيق بين أي لون من ألوان الاجتماع نحو (أنا العالم) (أنا المهندس) (أنا العراقي) (أنا التاجر) (أنا الشرطي) (أنا الموظف) إلى غيرها، فإن كل ذلك إذا كان سبباً للتعارف كان سليماً، ولذا قال سبحانه: (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) (الحجرات: 13).

أما إذا كان سبباً للامتياز والطبقية كان خاطئاً.

ولا يظن إن (أنا..) ليس بمهم، فإن الإنسان يخاطر حتى بحريته وأمواله وأهله بل وحياته في سبيل إبراز (أنانيته)، فإذا كان (أنا) صحيحاً كان معناه صحة الأمور كلها، وإلا كان معناه الكبرياء والعدوان.

لا يقال: فـ(أنا المسلم) أيضاً كذلك؟

لأنه يقال: كلا، فإن الإسلام هوية الصحة البشرية، فهو مثل (أنا البشر)، مضافاً إليه البرمجة السليمة لأنه لا يوجد في (البشر) البرمجة، فإن البشر عبارة عن هذه الأفراد المتناثرة التي تجمعها جامعة تسمى بالبشر، أما أن هذا البشر كيف هو؟ شقي أو سعيد؟ خيّر أو شرير؟ مستقيم أو منحرف؟ عالم أو جاهل؟ ـ والى غير ذلك ـ فليس في (البشر) أي لون من هذه الأمور، أما إذا أردنا تحويل البشر إلى (البشر الصحيح المستقيم المحب للخير والمحترم للإنسان)... الخ صار لونه (الإسلام).

قال سبحانه: (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغةً) (البقرة: 138).

ففرق بين (أنا المسلم) وبين (أنا البشر) وبين (أنا التاجر) أو ما أشبه.

ثلاثة أسئلة

ثم إن هناك ثلاثة أسئلة تعطي نتائج مختلفة حسب الأجوبة المختلفة:

السؤال الأول: ما هو الإنسان؟

السؤال الثاني: من هو الإنسان؟

السؤال الثالث: في أي جهة يسير الإنسان؟

(الإنسان) روح وجسد

ففي جواب السؤال الأول: قد يقال: (الإنسان جسم فقط) وقد يقال: (الإنسان جسم وروح).

ولا نقصد بـ(الروح) الروح التي في الحي في قبال الميت، لأن كل البشر يقرّون بها، وإنما المراد بـ(الروح) الروح المنفوخة في الإنسان من قبل الله سبحانه وتعالى، فإن الإنسان مركب من ثلاثة أشياء:

1 ـ جسم سفلي.

2 ـ وروح علوية.

3 ـ ونفس بين ذلك قد تميل إلى فوق وقد تميل إلى تحت.

وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن الحكيم هذه الأمور الثلاثة.

أما الجسم فهو مخلوق من: (حَمَإٍ مسنون) (الحجر: 26 و28 و33).

ومن: (صلصال كالفخار) (الرحمن: 14).

وأما الروح، فإن الله تعالى يقرنها بالتعظيم فيقول: (ونفخت فيه من روحي) (الحجر: 29).

وأما من جهة النفس، فإن الله سبحانه وتعالى يجعلها بين الأمرين ـ الجسم الثقيل الأرضي، والروح الخفيفة السماوية ـ فيقول: (قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها) (الشمس: 9 ـ 10).

ويقول: (وهديناه النجدين) (البلد: 90).

ويقول: (فإذا جاءت الطامة الكبرى يوم يتذكر الإنسان ما سعى وبرّزت الجحيم لمن يرى فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى) (النازعات: 34 ـ 41).

وعلى هذا، فاللازم أن يعرف الإنسان أنه جسم وروح ولكل واحد منهما مقوماته ومتطلباته وحاجاته.

تحديد الخصوصيات

ثم يأتي دور السؤال الثاني وهو: إن هذا الإنسان الذي عرفناه ـ بجوهره وماهيته ـ ما صفته؟ مثلاً هل هو عالم أم تاجر؟ هل هو حاكم أم شعب؟ والى آخره، فخريج الجامعة إذا فكر بأنه ليس بعالم فإنه يكون بعيداً عن الواقع، أما إذا فكر بأنه خريج ثانوية فقط، فإنه يكون أقرب إلى الواقع.. وهكذا.. فكلما كان تفكير الإنسان مطابقاً لواقعه كان في خط الصواب، وكلما كان تفكيره أقرب إلى لونه الواقعي كان أقرب إلى الصواب.

وليس التفكير بالخصوصيات والكيفيات مجرد تفكير وإنما له آثاره، مثلاً: إذا تصور الجاهل نفسه عالماً قديراً فعرّض نفسه للامتحان سقط وسبب له الفشل والمهانة، وكذلك إذا فكر الضعيف الجبان بأنه قوي وشجاع ثم عرض نفسه لمواقع الهلكة سقط وأودى بحياته.. وهكذا.

فليس الجواب عن السؤال الأول أو الثاني مجرد أمر فكري وجواب علمي، وإنما يؤثران في حياة الإنسان الفردية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها.

تبيّن وجهة السير

ثم يأتي دور السؤال الثالث وهو: إن الإنسان في أية جهة من الجهات.؟ هل هو يمشي في الجهة الصحيحة أو يمشي في الجهة المغلوطة؟ مثلاً من يقول: (لا إله) أو من يقول: (بتعدد الإله) أو من يقول بأن (الصنم إله) أو من يقول بأن (الله هو الإله) هؤلاء تختف سبل حياتهم وخصوصيات سيرهم، فالمصيب فيهم يصل إلى الهدف، ويكون مستقيماً، ولا يبتلى بالمشكلات وما أشبه، بينما الشخص المخطئ يبتلى بالمشكلات، فإن الأمور الفكرية تنتهي إلى الأمور الخارجية كما أن المقدمات الخارجية تنتهي إلى نتائج خارجية فكما أن الإنسان إذا سار قاصداً بلداً ما لكن من غير طريقه، فإنه لا يصل إلى ذلك البلد، كذلك الحال في كل جهات الحياة، فالمهم أن تكون للإنسان (فرضية) ثم يفكر في أن هذه الفرضية مطابقة للعقل والمنطق والواقع أم لا؟ أما إلباس الجهة التي يسير الإنسان فيها بالعقل والمنطق الادعائيين فليس بمنتج، وقد قال سبحانه: (كل حزب بما لديهم فرحون) (المؤمنون: 53).

ومن لا يراعي المنطق والعقل والواقع في قرارة نفسه، وإنما يلاحظها بالإدعاء فقط يكون ممن قال الله سبحانه وتعالى في شأنه: (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً) (فاطر: 8).

والعمل السيء يراه الإنسان حسناً اعتباطاً وادعاءً ينتهي بالآخرة إلى العطب والهلاك، ولذا قال سبحانه: (وكذلك زين لفرعون سوء عمله) (غافر: 37).

وكانت نتيجة هذا العمل السيئ ما يقوله الله تعالى في آية أخرى: (أغرقوا فأدخلوا ناراً) (نوح: 25).

وإنه يوم القيامة: (يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار) (هود: 98).

... وهكذا أفنى فرعون نفسه، وأفنى أهله وبقوا لعنة للتاريخ منذ أكثر من أربعين قرناً، وآخرتهم أيضاً على ذلك المنوال السيئ.

وعليه فاللازم على الإنسان أن يلاحظ (شخصه) ويلاحظ (أنه من هو) ويلاحظ (جهة سيره) حتى يأمن الهلاك والعطب، فإذا كان أحد هذه الأمور غير صحيح فالإنسان غير مستقيم، والاجتماع ـ الذي يتكون من مثل هذه اللبنات الإنسانية ـ اجتماع غير مستقيم أيضاً. 

نصوص في النهي عن التعصب لغير الحق

عن منصور بن حازم، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (من تعصب أو تعصب له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه)(12).

وعن السكوني، عن أبي عبد الله عليه السلام قال:

قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (من كان في قلبه حبة من خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية)(13).

وعن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (من تعصب عصبه الله بعصابة من نار)(14).

وعن حبيب بن ثابت، عن علي بن الحسين عليهما السلام قال: (لم يدخل الجنة حمية غير حمية حمزة بن عبد المطلب وذلك حين أسلم غضباً للنبي (صلّى الله عليه وآله) في حديث السلا(15) الذي ألقي على النبي (صلّى الله عليه وآله)(16).

وعن داود بن فرقد، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (إن الملائكة كانوا يحسبون أن إبليس منهم، وكان في علم الله أنه ليس منهم، فاستخرج ما في نفسه بالحمية والغضب وقال: (خلقتني من نار وخلقته من طين) (الأعراف: 12).

وعن علي بن اسباط رفعه إلى أمير المؤمنين عليه السلام قال: (إن الله يعذب الستة بالستة: العرب بالعصبية، والدهاقين بالكبر، والأمراء بالجور، والفقهاء بالحسد، والتجار بالخيانة، وأهل الرساتيق بالجهل)(17).

وعن الزهري قال: سُئل علي بن الحسين (عليهما السلام) عن العصبية التي يأثم عليها صاحبها فقال: (أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين الرجل قومه على الظلم)(18).

العناصر المشتركة بين الإنسان وسائر الكائنات

للإنسان جهات مشتركة مع الجماد ومع النبات ومع الحيوان، كما أن للإنسان جهة مختصة به بما هو إنسان.

فهو يشترك مع الجماد في الطول والعرض والعمق.

ومع النبات في الاحتياج إلى الغذاء والهواء والنور ونحوها.

ومع الحيوان في الحس والحركة والاحتياج إلى الأكل والشرب والوقاية من الحرّ والبرد وغير ذلك.

خصائص الإنسان

أما مختصاته بما هو إنسان فإنه وحده بحاجة إلى ما يرتبط بالروح الإنسانية من (الفرضية) التي ذكرناها في الفصل السابق و(الاجتماع) و(الهوية) و(إعمال الخلاقية) و(درك الحقائق) ونحو ذلك، فإذا لم يعط الإنسان حاجاته الروحية والجسدية كان مريضاً وكان الاجتماع ـ المكوّن من هذه اللبنات المريضة ـ اجتماعاً منحرفاً.

الطريق إلى المجتمع السليم

أما طريق صحة الإنسان ـ فرداً أو اجتماعاً ـ فهو أن يعطى للإنسان كل حاجاته الجسمية والروحية والإعطاء للحاجات الجسمية والروحية صحيحاً أو سقيماً منوط بأمرين:

الأول: النظام السائد وهو ما يسمى بالدين أو الطريقة أو الفرضية أو ما أشبه.

الثاني: المؤسسة الاجتماعية التي ركبت تركيباً صحيحاً أو سقيماً.

 

1 ـ بحار الأنوار: ج62، ص381.

2 ـ نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج3، ص45، دارالمعارف ـ بيروت.

3 ـ بحار الأنوار: ج22، ص348، دار المعارف ـ بيروت.

4 ـ أصل الآبيات باللغة الفارسية.

5 ـ بحار الأنوار: ج103، ص173، دار المعارف ـ بيروت.

6 ـ نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج4، ص78، دارالمعرفة ـ بيروت.

7 ـ مستدرك الوسائل: ج7، ص46، تحقيق مؤسسة آل البيت (عليهم السلام).

8 ـ بحار الأنوار: ج67، ص370، دار المعارف ـ بيروت.

9 ـ وسائل الشيعة: ج17، ص596، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.

10 ـ وسائل الشيعة: ج18، ص430، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.

11 ـ وسائل الشيعة: ج19، ص96، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.

12 ـ وسائل الشيعة: ج11، ص269، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.

13 ـ نفس المصدر: ص296.

14 ـ نفس المصدر: ص297.

15 ـ السلا: الجلدة الرقيقة التي يكون فيها الولد من المواشي، وقصة السلا مذكورة في باب مولد النبي (صلّى الله عليه وآله) في الكافي: ج1، ص449.

16 ـ وسائل الشيعة: ج11، ص297.

17 نفس المصدر: ص297.

18 نفس المصدر: ص298.