الفهرس

فهرس الفصل الأول

المؤلفات

 السياسة والدولة

الصفحة الرئيسية

 

الموازنة بين السعي والربح

هناك سؤال ملحّ، وهو: لماذا يأخذ الرأسمالي والطبيب ونحوهما أكثر من حقه، بينما اللازم أن يكون المال بقدر سعي الإنسان الجسدي والفكري بالإضافة إلى الإرث، كما ذكرناه، فيما تقدم؟

الرأسماليون يجيبون

هناك أجوبة أعدها الرأسماليون ومن إليهم للتخلص من هذا السؤال.

مثلاً: يقولون لأن الرأسمالي عرّض رأسماله للخطر، والإنسان الذي خاطر بماله يجب أن يأخذ في قباله شيئاً.

ويقولون: لأن الرأسمالي قد زهد في أكله وشربه وما أشبه قبل ثرائه، وتعب ليل نهار حتى تمكن من جمع هذا المال، فاللازم أن يكون الربح له في قبال أتعابه وقناعته السابقة في مأكله ومشربه وما إلى ذلك.

ويقولون: لأن المال عمل متراكم، فالربح في قبال العمل، وليس الربح اعتباطاً.

ويقولون: لأن المعمل الذي يملكه الرأسمالي يستهلك بالعمل، فاللازم أن يعطي من الربح في قبال الاستهلاك.

ويقولون: لأن المال بحاجة إلى مخزون كبير للمصارف الثقيلة، وإلا فمن يبني المطارات والمستشفيات وغير ذلك مما يحتاج إلى الأموال الكبيرة؟ فاللازم أن يكون للمال مخزون كبير بيد الرأسماليين حتى يتمكنوا من قضاء الحاجات التي هي حاجات لكل الناس وتستفيد منها الطبقات السفلى كما تستفيد منها الطبقات العليا.

وبشأن الطبيب ونحوه يقولون: لأنه استهلك ما مضى من عمره ـ عشرين سنة أو أكثر أو أقل ـ في التعلّم، وأتعب نفسه، وأسهر ليله وأجهد نهاره، حتى صار طبيباً ينفع الناس، فله أن يأخذ أموالاً ضخمة من المراجعين ليكون كفاءً ووفاءً لما فاته من عمره.

ردود

لكن هذه الأعذار غير وجيهة لوضوح الأجوبة عنها.

فالجواب عن الأول: إنه لا خطر بعد التأمين (أولاً).

وإنه إذا كان المعيار (الخطر) فلماذا لا نرى مثل ذلك الخطر للعامل الذي يعمل في المنجم الذي هو أخطر على جسمه من الخطر على رأس المال للثري؟.

وأي الخطرين أكبر: خطر أن يموت الإنسان أو خطر أن يخسر ماله؟ (ثانياً).

وعن الثاني أن يقال: إن للرأسمالي الحق في أن يأخذ بقدر ما فاته، بينما نشاهد أن الرأسمالي يأخذ أكثر وأكثر وأحياناً تصل الزيادة إلى ألوف الأضعاف، إذا لم تكن ملايين الأضعاف.

وعن الثالث أن يقال: إن له أن يأخذ بقدر حق العمل الذي تجسّد في المال، لا أن يكون له الأكثر من ذلك، صحيح أن المال عمل متراكم، لكن: كم للعمل من المقابل؟ هل هو هذا المقابل الهائل الذي يستفيده الرأسمالي ويأخذه من العمال ومن إليهم؟

وعن الرابع: إن حق العمل إنما هو بقدر استهلاكه لا أكثر من ذلك، بينما نشاهد أن الرأسمالي يستولي على ما يربو ـ ألوف المرات ـ على قدر الاستهلاك (ولا مانع) من أن يأخذ بقدر استهلاك المعمل مثلاً: قيمة المعمل مائة ألف دينار فيكون للثري الحق في أن يأخذ بقدر مائة ألف دينار إلى زمان وفاته، أما أن يأخذ الرأسمالي الملايين من الدنانير، فإن ذلك خارج عن نطاق الاستهلاك.

وعن الخامس: إنه إذا صح الاحتياج إلى المخزون فلماذا يكون المخزون لجماعة خاصة من الرأسماليين سواء من الرأسماليين الشرقيين وهي الحكومة، أم الرأسماليين الغربيين وهم التجار، ولماذا لا يكون المخزون مشتركاً بين الجميع؟ فالدليل لا يفي بالمقصود، فإن المقصود أن يكون هنالك مخزون، وهذا صحيح، أما أن يكون المخزون للرأسماليين فحسب دون كل الناس فهذا غير صحيح، فاللازم أن يعطى لكل إنسان حقه، وهذه الحقوق تتجمع، وبتجمعها يكون المخزون الذي يعطي الحاجيات الكبيرة.

وعن السادس أولاً: إنه إذا صح قول الطبيب، فلماذا لا يكون للمعلم مثل الطبيب، مع أنه أيضاً قد استهلك وقته؟ وكذلك: لماذا لا يكون ذلك لموظف الدولة وهو أيضاً قد درس وتخرج من الجامعة؟

وثانياً: ما تقدم من أن للإنسان أن يأخذ بقدر ما استهلك من وقته لا أكثر، وهل الطبيب ونحوه يأخذون بقدر ما استهلكوا من أوقاتهم؟

والواقع أن الطبيب إنما يأخذ كثيراً لأمرين:

أحدهما: أمر ترسّبي، وثانيهما: أمر مستجد.

أما الأول: فإن الأطباء كانوا قليلين في السابق، ولكثرة الاحتياج إليهم كانوا يتقاضون من واقع أجورهم ـ حسب قانون العرض والطلب ـ وهذا الأمر باق إلى الآن، وقد اعتاد الناس على ذلك، فالأطباء لا يستعدون للتنازل عما اعتادوا عليه مثلاً: عملية جراحية تستغرق ساعة يتقاضى الطبيب في قبالها أجر مائة دينار، بينما غاية الأمر أن يكون للساعة أجر دينار مثلاً.

أما الحالة الترسبية الباقية من العادات والتقاليد فهي التي تعطي للطبيب الحق في أن يأخذ مائة دينار، وقد أخذ الناس يتململون من هذا الشيء، وأخذت بعض البلاد التي تسمّي نفسها بـ(الاشتراكية) تقف دون هذا الشيء ـ لكن وقوفاً تفريطياً في مقابل إفراط الأطباء الرأسماليين ـ فجعلت الطب مؤمماً، بينما التأميم أيضاً غير صحيح، وإنما الصحيح أن يكون الطبيب حراً في عمله لكنه يتقاضى بقدر أجره لا أكثر من ذلك.

والأمر الثاني المستجد: هو قلة الأطباء في كثير من البلدان في الوقت الحاضر مما سبب أن يكون عرض الطبيب قليلاً وطلب المرضى كثيراً، ومن الطبيعي أنه إذا قل العرض وزاد الطلب ترتفع القيمة، وهذا غير صحيح أيضاً، إذ قلة العرض وكثرة الطلب لا توجب أن يأخذ الإنسان أكثر من قدر حقه، لكن هذا هو الشيء الموجود فعلاً، ويجب معالجة الأمرين ومعالجتهما إنما تكون بالأخلاقيات الاجتماعية العمومية، ونسف التقاليد والعادات التي ـ وإن ذهبت مبرراتها لكنها ـ ظلت باقية.

ضرورة تحديد رأس المال

ثم إن ترك (رأس المال) يفعل ما يشاء على حساب الآخرين حاله حال ترك (الجاه) يعمل ما يشاء على حساب الآخرين، فإن الجاه يجب أن يكون موزعاً بين الجميع، كل بقدره، كما أن الثروة يجب أن تكون موزعة على الجميع كل بقدر حقه، وهما (المال والجاه) ـ إن تركا ـ لم يعودا يعرفان حداً للوقوف، فإن هناك فرقاً بين الأمور الجسمية والأمور غير الجسمية، فالأمور الجسمية ـ كالأكل والزوجة والشرب واللباس وما أشبه ـ لها حد تقف عنده لأن الجسم لا يتحمل أكثر من ذلك، مثلاً: الإنسان لا يستطيع أن يأكل في اليوم مائة كيلو غراماً من الطعام والشراب، وجسمه لا يتحمل أن يلبس مثلاً عشرين ثوباً وهكذا... فالجسم هو الذي يحول دون تكديس هذه الأمور، وإن كان المترفون يفعلون ذلك أحياناً، مثلاً: يحكى عن أحد الحكام العباسيين أنه كان له أربعة ملايين من الملابس، وهكذا حاكم آخر كانت له أربعة آلاف من الجواري، وإلى غير ذلك.. إلا أن الغالب أن الإنسان لا يتحمل بالنسبة إلى الأمور الجسمية أكثر من طاقة الجسم الاستهلاكية.

أما الأمور غير الجسمية فلا حد يقف لها، وهي ممتدة امتداداً كبيراً، فالإنسان ذو الثروة يريد صبّ كل ثروات الدنيا في كيسه والإنسان ذو الجاه يريد تكديس كل أقسام الجاه حول نفسه، ولذا وردت أحاديث كثيرة في هذا الشيء، مثل قولهم عليهم الصلاة والسلام: (ما ذئبان ضاريان في غنم قد غاب عنها رعاؤها بأضر في دين المسلم من حب الرئاسة)(1).

فاللازم أن يقف الاجتماع بقوانينه الصحيحة دون تمكن فرد أو جماعة من الناس من استقطاب الأموال والثروات، ومن استقطاب الجاه والمنصب والرفعة الاعتبارية.

هذا بالإضافة إلى أن في إطلاق الثروة ـ التي تتقدم وتتقدم على حساب الآخرين ـ ضرراً أخلاقياً كبيراً فإنه لا وجه لأن يعيش إنسان في غاية الرفاه، بينما ألوف الناس يعيشون عيشة فقر وذل وليست لهم حتى الأوليات، ومن الواضح أن المجتمع الذي يدوس على الأخلاق مجتمع يؤذن بالفناء، وقد قال الشاعر:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت          فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

حيث إن الروابط بين الناس إنما هي روابط أخلاقية ـ من التعاون والحب والمشاركة الوجدانية وما أشبه ـ وكل شيء يضر بهذه الأمور الأخلاقية ويبعث على العداء والبغضاء وتباعد الطبقات بعضها عن بعض وغضب هؤلاء على هؤلاء، وهؤلاء على هؤلاء ينتهي أخيراً إلى تحطم وتفسخ الاجتماع، مما يتضرر بذلك الكل، من غير فرق بين الأغنياء وبين الفقراء.

العمال بين الإقطاع والرأسمالية والشيوعية

وحيث كان الفلاحون مرتبطين بالإقطاعي كان الالتزام متقابلاً فان المالك كان يستثمر تعب الفلاح، لكن الفلاح في قبال ذلك كان يتمتع بحماية المالك وتسهيل المالك شؤون الحياة له، وإن كان (الإقطاع) بهذا المعنى غير صحيح في نظر العقل والشرع على ما ذكر تفصيله في الكتب المعنية بالشؤون الاقتصادية.

أما في الرأسمالية العالمية في الوقت الحاضر فالرأسمالي يستغل العمال في قبال أجر مجرد بدون التزام بالدفاع وتهيئة وسائل الحياة.

ووجه عدم استقامة كلتا المعاملتين: إن الفلاح في القسم الأول كان مجبوراً لأنه كان مرتبطاً بالأرض ولا إرادة له من نفسه، وكانت الاستفادة الأكثر للمالك حيث إن الفلاح كان يعيش على لقمة عيش فقط، بالإضافة إلى سائر المفاسد التي كانت مترتبة على الإقطاع.

أما في الثاني فالأجير وإن لم يكن مرتبطاً بالأرض ذلك الارتباط الذي كان بالنسبة إلى الفلاح إلا أنه أيضاً مجبور جبراً أجوائياً، فإنه إذا لم يعمل الأجير للمالك يموت من جراء عدم وإيجاده الأجرة التي يعيش بها، كما أنه إذا لم يريد الرأسمالي العمل يبقى العامل عاطلاً حتى الموت، بالإضافة إلى أن المالك يستفيد من الأجير أكثر من حقه بينما يلزم أن يكون الحق موزعاً بينهما كل بحسب إدارته أوعمله، لكن الرأسمالي لا يقتنع بهذا القدر.

ثم حدثت النقابات ووضعت القوانين، وبذلك استراح الفلاح والعامل من بعض مظالم الإقطاعيين والرأسماليين، فتحسنت الأجور، كما تحسنت ظروف العمل بالنسبة إلى الفلاح، وصار الجبر الأجوائي أقل، وحصل العامل والفلاح على كفالتهما الاجتماعية، لكن بقي قدر كبير من الظلم يتطلب العلاج.

هذا بالنسبة إلى البلاد الرأسمالية أما في البلاد الشيوعية فالعمال والفلاحون إنما هم آلة بسيطة في معمل كبير لا شيء لهما إطلاقاً إنما كل الخيرات في كيس السادة الحكام الذين جمعوا بين (الرأسمالية) و(الحكم).

وعلى أي حال، فالرأسمالي في الغرب والشرق بقي نفس الرأسمالي، يستفيد أكثر من حقه ألوف المرات، بينما يعطي شيئاً قليلاً بمقدار لقمة العيش، بالإضافة إلى بقاء الجبر الأجوائي أو المباشري.. إلى سائر مفاسد رأس المال على ما تقدم الإلماع إلى بعضها، وذكرنا تفصيلها في كتبنا الاقتصادية.

التعاون أو التسخير؟

لا يقال: العمل الاجتماعي يستلزم أن يكون هنالك رأسمالي، وأن يكون هنالك عامل، وكما قال سبحانه: (ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً) (الزخرف: 32).

لأنه يقال: أولاً: لماذا يأخذ الرأسمالي أكثر من حقه، ويأخذ العامل الأقل، ثم يستخدم رأس المال الإنسان، بينما اللازم أن يستخدم الإنسان رأس المال، فالإنسان في قانون الرأسمالية خرج عن المحورية وصار خادماً للشيء، بينما يجب أن يكون الإنسان هو المحور وأن يكون مستخدماً للشيء.

وثانياً: يجب أن لا يشتري الرأسمالي عمل العامل، بل يشتركان في العمل، والربح لهما، حتى لا يكون آمر ومأمور، ولذا نهى الإسلام عن عمل الأجير (ولا نقصد بالأجير هنا الأجير في مثل البنّاء يبني دار غيره أو الخياط يخيط ثوب غيره بل نقصد الأجراء عند الرأسماليين) فأن يصبح الإنسان أجيراً مكروه شرعاً كما وردت بذلك جملة من الروايات وإن كان جائزاً في نفسه.

فقد روى الكليني بسند صحيح عن مفضل بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (من آجر نفسه فقد حظر على نفسه الرزق)(2).

قال: وفي رواية أخرى: (كيف لا يحظره؟ وما أصاب فيه فهو لربه الذي آجره)(3).

نعم إذا لم يكن إكراه فردي ولا أجوائي، وكان ما يأخذه العامل عدلاً لا يكون الإيجار وسيلة لتكديس رأس المال أما في الإكراه الفردي والإكراه الأجوائي الذي هو المتعارف الآن عند الرأسماليين فإن معناه عدم إعطاء الأجراء حقهم، بالإضافة إلى كون الإنسان خادماً لرأس المال لا كون المال خادماً للإنسان.

نقض غير وارد

لا يقال: ما ذكرتم ـ من أنه من الخطأ أن تكون هنالك بين الرأسمالي وبين العامل علاقة الآمر والمأمور، والواجب أن يكون بينهما تعاون واشتراك في الربح ـ منقوض، فإن الرابطة بين المعلم والتلميذ أيضاً رابطة آمر ومأمور ومتفوّق ومتفوّق عليه.

لأنه يقال: الرابطة بين المعلم والمتعلم رابطة الاحترام، ورابطة قصد المعلم ترفيع مستوى المتعلم، ورابطة أن المتعلم تضيق الشقة بينه وبين المعلم تدريجاً حتى يصل إلى مرتبة المعلم.. وكل هذه الروابط الحسنة معكوسة في رابطة الآمر بالمأمور في رأس المال، فإن رابطة الآمر بالمأمور رابطة السيد بالعبد، فكما أن السيد يريد استغلال العبد وليست الرابطة بينهما رابطة احترام، والشقة بين العبد وبين السيد تزداد بعداً ـ حيث إن السيد يرتفع أكثر فأكثر والعبد ينخفض أكثر فأكثر ـ كذلك الرابطة بين الرأسمالي والعامل فإنها:

أولاً: ليست رابطة احترام، وإنما رابطة استغلال.

وثانياً: ليست رابطة ترفيع للأجير، وإنما رابطة جافة تنتهي بالأخيرة إلى الضرر.

وثالثاً: تزداد الشقة بين الرأسمالي وبين الأجير كل يوم، فالرأسمالي يزداد ارتفاعاً، وبقدر زيادة ارتفاعه في الثروة يزداد الأجير نزولاً، فكما أنه كلما زادت ثروة السيد ابتعد عن العبد أكثر، كذلك كلما زادت ثروة الرأسمالي ازداد اقتداره، وصار ذلك سبباً للكره بين الجانبين، بينما رابطة المعلم والتلميذ رابطة حب.

أما ما ذكرناه ـ من الشروط الإسلامية في الأجير ـ فليس فيه أي من هذه المحاذير، فالرابطة ليست رابطة اقتدار وإنما رابطة حب، ولا تزداد الشقة بين المستأجر والأجير، وليست الرابطة رابطة الآمر بالمأمور وإنما رابطة اشتراك في المنفعة، وكل واحد منهما ينظر إلى الآخر بنظر الاحترام والحب لأنه يرى أن الآخر سبب لتقدمه.

أنواع من الاستئجار

والحاصل: إن هنا أموراً ثلاثة يجب ملاحظتها:

الأول: ليس الكلام في الاستيجارات الشخصية لبناء عمارة أو خياطة أو ما أشبه.

الثاني: أن يكون الإيجار على النحو الرأسمالي المستغل للعمال.

الثالث: أن يكون الإيجار على النحو الشرعي الذي ليس فيه استغلال ولا استعباد.

وكما أن الإسلام كره أن يؤجر الإنسان نفسه كما تقدم في بعض الروايات كذلك ذكر الإسلام استحباب الإيجار الذي ليس بهذه المثابة، كما أن إيجار الإنسان لغيره لأجل أن يكتسب الشيء غير مكروه في الإسلام، وفي هذا الصدد نقرأ قسمين من الروايات ـ كما قرأنا قبل ذلك قسماً آخر مما يفيد أن الأقسام ثلاثة ـ.

فعن علي (عليه السلام) في بيان معائش الخلق قال: (وأما وجه الإجارة فقوله عز وجل (نحن قسَمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ورحمة ربك خير مما يجمعون) (الزخرف: 32).

فأخبرنا سبحانه أن الإجارة أحد معايش الخلق، إذ أنه سبحانه بحكمته بيّن هممهم وإرادتهم وسائر حالاتهم، وجعل ذلك قواماً لمعايش الخلق، وهو الرجل يستأجر الرجل في ضيعته وأعماله وأحكامه وتصرفاته وأملاكه، ولو كان الرجل منا يضطر إلى أن يكون بناءً لنفسه أو نجاراً أو صانعاً في شيء من جميع أنواع الصنائع لنفسه ويتولى جميع ما يحتاج إليه من إصلاح ما يحتاج إليه من الملك فمن دونه ما استقامت أحوال العالم ولا اتسعوا له ولعجزوا عنه، ولكنه اتفق تدبيره لمخالفتهم بين هممهم، وكلما يطلب مما تنصرف إليه همته مما يقوم به بعضهم لبعض ويستغني بعضهم ببعض في أبواب المعايش التي بها صلاح أحوالهم.

وقد ورد في الروايات في تحريم ظلم الأجير.

1 ـ ما يشمل ظلمه أولاً.

2 ـ أو ظلمه أخيراً بأن يجحف عليه أو يكرهه.

3 ـ وأنه يجعل الأمر عادلاً في الإيجار، ثم ينقص من أجرته، فإن الظلم شامل لكل ذلك.

فقد روى الصدوق، عن الصادق، عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (من ظلم أجيراً أجرته أحبط الله عمله وحرّم الله عليه ريح الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام)(4).. إلى غيرها من الروايات الكثيرة المذكورة في باب الإجارة من الفقه الإسلامي.

والحاصل: إن الرأسمالية المنحرفة توجب:

أولاً: ظلم الأجراء حقهم.

وثانياً: كون الاستيجار بالإكراه الأجوائي أو المباشري، فالأجير مكره على أن يؤجر نفسه.

وثالثاً: إن الأجراء يحسون بنوع من المهانة مما يسبب البغضاء والتدافع بين الجانبين..

بالإضافة إلى سائر مفاسد الرأسمالية في الأسلوب الغربي والشرقي، وكل ذلك خلاف العقل والشرع.

وليست الرابطة بين المعلم والتلميذ كهذه الرابطة، فإنه لا إكراه، كما أن الظلم ليس بموجود، والتلاميذ يحسون بنوع من الاعتزاز لأنهم يتبعون من هو أكثر منهم علماً وكفاءة، والإنسان لا يحس بالمهانة إذا اتبع الأكثر علماً وكفاءة وتقوى وفضيلة، وإنما يحس بالمهانة إذا أراد شخص السيادة عليه بسبب اقتداره المالي أو بسبب اقتداره السلاحي مما ليس من جهة الفضيلة والكفاءة، فإن نفس الإنسان خاضعة للفضيلة والكفاءة، بينما لا تخضع لمن هو مثلها أو دونها ولمن يريد أن يتطول عليها بسبب سلاح أو عشيرة أو ثروة أو ما أشبه.

وهذا الحس بالمهانة ـ بالإضافة إلى سائر المفاسد ـ هو من أسباب هروب الناس عن التقليد إلى الاستدلال والمنطق في الأمور العقائدية والعلمية، حيث إن التقليد فرض وتحميل، وفيه إهانة لكرامة الفكر الإنساني، وهذا الحس أيضاً من أسباب هروب الناس من الحكام الدكتاتوريين إلى الانتخابات ـ أولاً ـ والى لزوم استشارتهم بعد اختيارهم حكامهم ـ ثانياً ـ إذ أن التحميل من الحكام عليهم أو انتخابهم للحكام ثم استبداد الحكام بالحل والفصل بدون استشارتهم منهم كلاهما إهانة لكرامة الإنسان.. ولذا نجد في الإسلام ذم (التقليد) كما نجد فيه مدح (الشورى).

كل شيء في خدمة الإنسان

ثم إن كون الإنسان محوراً يعطي له كل قيمة، والحقيقة أن الإنسان له قيمة أما سائر الأشياء فلا قيمة لها إلا بقدر خدمتها للإنسان واستفادة الإنسان منها، ولذا ورد في الحديث القدسي عن الله سبحانه وتعالى: (خلقت الأشياء لأجلك)(5).

وقد تقدمت بعض الآيات القرآنية التي تدل على أن الكون مسخر لأجل الإنسان، فإذا لم يكن (الإنسان) فأي قيمة لكل هذا الكون الفسيح الواسع؟

وإذا كان الإنسان فأي نقص إذا لم يكن كل الكون ـ فرضاً ـ، بأن كان الإنسان يعيش وحده؟

وإذا كان للإنسان قيمة فهو محترم بنفسه، وتوزن قيمة كل شيء بقدر فائدته للإنسان وخدمته له، كما يقاس ضرر كل شيء بقدر ضرره للإنسان، وإلا فلا فائدة ولا ضرر إذا استثنينا الإنسان عن الكون، فلتجف البحار أو فلتتشقق الأرض، أو تخرّ الجبال هدّاً فأي ضرر يحدث إذا لم يكن الإنسان في مجموعة هذه الأشياء التي في الكون؟.

الأنظمة البشرية ومحورية المادة

أما في العالم الرأسمالي ـ سواء الشرقي منه أو الغربي ـ فنرى الأمر بالعكس، فقد خرج الإنسان عن المحورية، وبقيت المحورية للمادة والمال، فالإنسان يراد لأجل الربح، فإذا أراد الشاب مثلاً الزواج سألوه عن ماله لا عن دينه وأخلاقه، كما أن الشاب نفسه يسأل عن مال المرأة وإرثها في المستقبل إذا مات أبوها أو أمها مثلاً، ولا يسأل عن أخلاقها ودينها، بالعكس من الإسلام تماماً حيث قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته يخطب إليكم فزوجوه)(6).

بل نشاهد في العالم الغربي والشرقي أنه إذا حدثت كارثة لا يلاحظ أن كم إنساناً هلكوا؟ وكم إنساناً جرحوا؟ وكم يداً ورجلاً بترت؟ وكم عيناً فقئت؟ وكم طفلاً أيتموا؟ وكم امرأة رمّلت؟ وكم إنساناً ذعروا؟ وكم قلباً وجل؟ وكم مرضاً حدث؟ وإنما يقدر كل ذلك بالمال فيقال: ضرر الحرب الفلانية أو السيل الفلاني أو البركان الفلاني مائة مليون أو عشرين مليون أو ألف مليون، نعم يذكرون أرقام الخسائر لمجرد العلم كما يذكرون أرقام الدور وأرقام السيارات وما أشبه.

وإذا كان الإنسان قد فقد جماله وقيمته الإنسانية في عالم المادة فكيف بسائر الأشياء؟ ولذا لا ينظر إلى الأشياء بما أنها أشياء، وإنما ينظر إلى روحها العامة وهي المادة، مثلاً لا ينظر إلى الدار والبستان والكتب وما أشبه بما أنها أشياء ذات حقائق، وحقائقها هي المحور، وإنما ينظر إليها باعتبار القيمة، فيقال الدار الفلانية تسوى مليون دينار، والكتاب الفلاني يساوي عشرة دنانير.. وهكذا.

 

1 ـ بحار الأنوار: ج66، ص154، دار المعارف ـ بيروت.

2 ـ الكافي: ج5، ص90، دار الكتب الإسلامية ـ طهران.

3 ـ المصدر السابق.

4 ـ وسائل الشيعة: ج13، ص247، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.

5 ـ رسائل المحقق الكركي: ج3، ص162، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم.

6 ـ وسائل الشيعة: ج14، ص52، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.