الفهرس  

الصفحة الرئيسية

 

الحضارة وأنواع المجتمعات

لا حضارة بدون اجتماع، ولا اجتماع بدون حضارة، كما أنه لا حضارة بدون اقتصاد ولا اقتصاد بدون اجتماع، فالاجتماع هو الأساس، ولذا ينبغي دراسة المجتمعات دراسة تفصيلية من أجل بيان علاقتها بالحضارة، بعد معرفة مفهوم الحضارة ذاته.

المجتمعات عند الإمام الشيرازي تنقسم إلى:

1 ـ المجتمع الجامد.

2 ـ المجتمع المتحرك نحو النقص والانحراف.

3 ـ المجتمع المتحرك نحو الكمال بأقدام ثابتة.

4 ـ المجتمع المتحرك نحو الكمال بدون أسس ثابتة.

وينطلق سماحته في هذا التشخيص من الجوهر الفكري الذي يكوّن أساس فكره في مسائل الحياة المختلفة، وهو الشريعة الإسلامية، وما ينطلق من ذلك الجوهر من أشعة تقود مسيرة التفكير، وتوضح الطريق للإنسانية المعذبة.

فمفهوماته عن المجتمعات هي المفهومات الإسلامية في أساسها مع اجتهاد فردي دال على عبقرية سماحته ودقة فهمه وتحليله للأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي سادت العالم في الماضي، وما زالت سائدة في هذا العصر أيضاً.

وهو ينظر إلى معنى (الجمود) و(التحرك) بناء على اقتراب المجتمع من المفاهيم الإسلامية، ومدى احتوائها على الروح الإنسانية من المحبة والتعاون والتواصل والابتكار والحرية وغيرها. فهو يصف المجتمع الجامد بقوله:

(أما المجتمع الجامد فهو الذي يقف في مكانه بدون تجديد في فكر أو صنعة، وهذا إنما يمكن إذا كان المجتمع في محيط طبيعي وجغرافي خاص بعيداً عن المجتمعات البشرية والغزاة، وكان مجتمعاً قليل الأفراد لأنه إذا توفر فيه أحد الشرطين:

أ ـ أي كان قريباً إلى المجتمعات البشرية، فلم يكن محاطاً بالجبال ونحوها، مما يقطعه عن الناس، أو كان في السهل، ولكن كان بعيداً عن المجتمعات البشرية لكونه في جزيرة أو في القطب أو نحو ذلك.. كان لابد من احتكاكه بسائر أفراد البشر مما يوجب خروجه عن الجمود.

ب ـ وكذا إذا كان مجتمعاً كثير الأفراد، فإن مثل هذا المجتمع لابد وأن يظهر فيه المفكرون والنوابغ والتقدميون، ولسعة المجتمع يكون ضبط الجامدين له صعباً فتظهر فيه الأفكار الجديدة، وتبعاً لذلك تظهر فيه الصنائع الجديدة ولا يبقى مجتمعاً جامداً)(1).

وهذا ما يشهد عليه الحال الحاضر، فرغم تطور وسائل الإعلام والاتصال وأجهزة الكومبيوتر والإنترنيت والطائرات مازالت هناك مجتمعات لم تتعرف على أي شيء من هذه الأشياء، فهي مجتمعات جامدة. بل ان الأخبار تنقل من أفريقيا وجود قبائل بدائية ما تزال تعيش في الغابات الكثيفة ولم تتعرض إلى هذه اللحظة للغزو ولا إلى الاحتكاك بغيرها من المجتمعات، فبقيت محافظة على ما كانت عليه منذ عدة قرون لا يعلم عددها إلا الله.

وعن المجتمع المتحرك نحو النقص، فيصفه سماحته بقوله:

المجتمع المتسافل وهو المجتمع المتحرك نحو النقص، المراد به المتحرك في الصنعة ونحوها، إلا ان الفلسفة التي ينطلق منها المجتمع فلسفة التردي والهوى، كما إذا كان منطلقاً عن فلسفة قومية أو وطنية أو اقتصادية أو جنسية أو وجودية أو دكتاتورية أو ما أشبه)(2).

وبعد أن يفصل سماحته الكلام على هذا النوع من المجتمعات، يصل إلى المجتمع الذي يتحرك نحو الكمال على أسس، فيقول:

(والمجتمع المتحرك نحو الكمال بأقدام ثابتة هو الذي ينطلق من فلسفة صحيحة، كالتعاون والعلم والفضيلة والتقوى وحب الناس والإنسانية وابتغاء الخير والحرية ونحوها.. وأخذ يعمل بتؤدة واتزان ومثابرة، ومثل هذا المجتمع سيبقى وينمو ويزدهر ويتوسع إلى ما شاء الله)(3).

أي أن سماحة الإمام يرى الخاتمة النهائية للإنسانية سيادة مثل هذا المجتمع، ومن الواضح أن المقصود به هو المجتمع الإسلامي حين يطبّق الإسلام تطبيقاً صحيحاً سليماً.

وأما النوع الرابع والأخير من المجتمعات، وهو المجتمع المتحرك نحو الكمال ولكن بدون أسس ثابتة، فيقول عنه:

(وأما المجتمع المتحرك نحو الكمال، بدون أسس ثابتة، فهو الذي ينطلق من فلسفة صحيحة بالنسبة إلى السمو والإنسانية، ولكن لا يراعي سلسلة المراتب، والعمل بتؤدة ومثابرة، ومثل هذا المجتمع خليق بالسقوط أيضاً، لأن العمل إذا لم يكن عن إتقان لم يبق راسخاً)(4).

فإذا أخذنا بالاعتبار هذا التقسيم الأصيل للمجتمعات، تبين لنا أن الحضارة الحقيقية، لدى الإمام الشيرازي، هي نتاج المجتمع المتحرك على أسس سليمة وثابتة.

ولكن، ما مفهوم الحضارة؟ فلقد كثرت الآراء وتشعبت، حتى أن بعضهم اعتبر الحرية الجنسية والاباحية من علامات الحضارة الحديثة، فهل هي من ملامح الحضارة الحديثة، أم هي تخلف وتأخر موروث من عصور قديمة؟

بإمكاننا أن نصنف معاني كلمة (حضارة) المستعملة ضمناً أو صراحة بمعان جد مختلفة، وفي الغالب بعيدة عن الدقة ومتناقضة إلى أبعد الحدود.. ويمكننا أن نصنفها في ثلاث مجموعات:

أ ـ ففي الكلام الذائع أكثر الذيوع وأول ما يتبادر إلى الذهن حين يسمع كلمة حضارة، أنها وصف مصحوب بحكم يعطي قيمة تختلف من مجتمع إلى مجتمع، على افتراض وجود شعوب متحضرة وشعوب، على العكس، غير متحضرة أو متوحشة، كما رأينا في تقسيمات سماحته في أعلاه. ويدل على هذا ما يتضمنه لفظ (الحضارة) من معاني التحضّر أو التمدّن.

ب ـ ومن جهة ثانية تمثل الحضارة وجهاً من أوجه كل مجتمع على وجه الأرض حتى لو كان بدائياً، فله حضارته الخاصة به، من وجهة نظره على الأقل.

فهناك تجليات للوجود الجمعي يمكن أن ندعوها (حضارة) أو (ظواهر الحضارة)، أو نسميها لدى تجسدها في مؤسسات ومنتجات أعمالاً حضارية، في حين أن الظواهر الأخرى لا تستحق، بالبداهة، الانتماء إلى هذه الفئة.

ج ـ أخيراً فإن كلمة (حضارة) تنطبق على جملة من الشعوب أو المجتمعات، لا عليها كلها، وهو التقسيم الذي يقول به الغربيون الآن، بتقسيمهم العالم إلى العالم الأول والثاني والثالث، قبل سقوط الاتحاد السوفيتي.

وعلى هذا النحو فإننا نجد إلى جانب الحضارة بوصفها درجة أعلى من التطور، الحضارات المختلفة التي تتحلّى بهذه السمات المميزة وتستمد منها شخصية خاصة تحدد لها مكاناً معيناً في التاريخ.

وهذه الدلالة لكلمة حضارة ترتبط بالدلالات السابقة، بل هي التي تجعل مفهوم الحضارة مفهوماً إجرائياً أي عملياً في تحليل علاقاتها مع المجتمعات بأنواعها المختلفة.

وخلاصة هذه المفاهيم أن لكلمة (حضارة) نفسها تاريخاً واضحاً منذ البدء، وبحسب المؤدى اللغوي، أنها كلمة دلت، لدى كثير من الباحثين، على ما يميز الشعوب الأكثر تطوراً من سواها، مع غموض مفهوم التطور ذاته، أو استعماله بمعان مختلفة.

وعلى هذا تكون الحضارة هي الصفة المميزة لأولئك الذين يفهمون هذه الكلمة. فمن الطبيعي جداً أن نجد هذه الكلمة مستعملة في سياق استعماري وإمبريالي، للدلالة على الحضارة الأوروبية الغربية، التي يعتبرها أهلها أعلى من سواها، على مر العصور، وعلى نحو مطلق.

وقد ذهب مفسرون أحياناً إلى اعتبار كتابات وآثار اليهودي ليفي برول (Levy Bruhl) عن (العقلية البدائية) بمقابل العقلية المنطقية والعلمية على أنها تنحو في هذا المنحى، ولكن لم يكن من الجلي، منذئذ، أن تكون الحضارة نمطاً معيناً من الثقافة أم أنها هي الثقافة الحقيقية(5).

ولذا نجد في مختلف الأقطار التي نمت فيها هذه الاعتبارات بعض الاهتزاز في الكلمات المستعملة كما أن الترجمة من لغة إلى أخرى غير دقيقة في غالب الأحيان، لأنها تتم بمعرفة دور نشر ومؤسسات ثقافية مشبوهة أو حكومات مرتبطة بالدوائر الاستعمارية والصهيونية، كما سبق لهم أن ترجموا كلمة النظام الإلحادي بالنظام العلماني، ولا علاقة لهذا بذاك. إضافة إلى أن التهويد الثقافي والحضاري، قد جعل الأحوال الغربية المعاصرة والتي هي نتيجة تزييف اليهود للتوراة والإنجيل ثم سيطرتهم على رأس المال في العصر الحديث، تُعتبر وكأنها النماذج الثقافية والحضارية لكل العالم وعلى مدار التاريخ.

أضف إلى ذلك أن لابد من الإلماح إلى أن هذه الألفاظ المختلفة قد تُستعمل بمعنى سوشيولوجي (اجتماعي) محض أو في منظور هو بالأحرى منظور نفسي أو نفسي ـ سوشيولوجي، وعلى هذا النحو يمكن وصف إنسان بأنه مثقف أو متحضّر، وهذا يعني بداهة أن المجتمع قد أنشأه وصقله، ولكن ذلك يذكرنا في الوقت نفسه بأن المجتمع واقع يعيشه الأفراد. غير أن الانتروبولوجيا أو علم الأجناس البشرية، قد قادت بأكثر مما قادنا علم النفس أو علم الاجتماع، إلى محاولات شتى تستهدف تحرير مفهوم الحضارة من كل حكم مسبق. ولابد من الاعتراف في هذه النقطة بأن ذلك لم يُصِب من النجاح بيسر إلا فيما يتّصل بالثقافة، فمن اليسير إلى حد ما أن نقرر أن لكل شعب ثقافته الخاصّة، وأن هذه الثقافة تؤلف، بوجه الإجمال، كل ما تنقله التربية، أية تربية، إلى الأفراد. ولكننا إذا لم نكتف بالاقتصار ببساطة وتبسيط على توحيد هوية الثقافة بالحضارة، فإننا نشعر بعسر أكبر في تطبيق كلمة حضارة على أي نوع من المجتمعات. ورغم ذلك فإن علماء الانتروبولوجيا أو الذين يهتمون بأصول الأجناس البشرية يجنحون إلى هذا الاستعمال، فيضطرون إلى أن يقتطعوا داخل المنظومة الثقافية، أو إلى جانبها، مجالاً من الحياة الاجتماعية ومن إضفائها على الأفراد، وهذا المجال يتحلى بميزات خاصة، وبهذا نكون كمن كرر قول لوسيان فافر (6) (Lucien Fabver) بوجود مفهومين من الحضارة:

الأول: ذرائعي وهو تمييزي.

والآخر: علمي يدل على أن لكل شعب حضارته.

بيد أن الجلي الفارق في هذين الاستعمالين لكلمة واحدة يرجع إلى تغيّر المنظور.

ففي الحالة الأولى نتخذ موقف المقارنة والتركز الذاتي، وأيضاً نعتنق منظوراً تطورياً يدل على أن درجة الحضارة أو اللاحضارة تفترض وضع المجتمع المعني في مستوى معين من مجرى تطور خطا الاتجاه. ولذا فإن ثمة معنى دينامياً لهذه الكلمة حين تحيل على نمو الوظائف الاجتماعية نمواً علمياً. ولكن، وكما قرر سماحة الإمام الشيرازي، هناك مجتمعات جامدة، وهذا الجمود قد يكون ناتجاً من ثقافة جامدة أصلاً، وقد يكون ناتجاً من عدم وجود ثقافة أصلاً.

ولهذا فإن التغيير الذي أدخله سماحة الإمام الشيرازي على مفهومي الثقافة والحضارة، وبموازاة التحليل الذي ذكرناه، أصبح من الصعب أن نوحّد بين مفهوم كلمة (حضارة) ومفهوم كلمة (ثقافة) ولكن في نفس الوقت لا يمكن فهم أي من الكلمتين إلا بترابطها مع الكلمة الأخرى، فلا حضارة بلا ثقافة، ولا ثقافة من دون مستوى معين من الحضارة. وهو ما عبّر عنه سماحته في المستويات الخمسة للمجتمعات.

وقد وافق تيلور (Tylor) على هذا الفصل والربط حين قدم التعريف التالي: (إن كلمة ثقافة أو حضارة باعتبار معناها الأكثر اتساعاً، تدل على كل هذا التعقّد الذي يضم بآن واحد العلوم والعقائد والفنون والأخلاق والقوانين والعادات وسائر الملكات والصفات التي يكتسبها الإنسان في حال الاجتماع)(7).

ولكن تيلور يميز في كتاب ذاته ثلاث درجات في تطور المجتمعات:

* حال التوحّش.

* حال الهمجية.

* حال الحضارة.

وبهذا الاعتبار لم تبق الحضارة بالمعنى الصحيح تختلط بالثقافة، بل بنوع أرقى من غيره من أنواع الثقافة.

وهذه الحيرة الماثلة في تصور الحضارة على أنها ترادف الثقافة وفي تعريفها على أنها ثقافة أعلى من سواها قد أدّت إلى تشوش كبير لدى علماء الاجتماع الغربيين وعلماء الانتروبولوجيا، حتى أن أحد أكبر المهتمين بهذا الموضوع وهو عالم الأجناس البشرية سبرينجر (8) (Spranger) قد ذهب إلى أن الحضارة الأوروبية الأمريكية الحديثة ليست تقدماً، بل هي شكل متصلب ومنحط من أشكال الثقافة.

وهذه الرؤية مستنبطة أو على الأقل متوافقة مع المفهوم الذي يطرحه سماحة الإمام الشيرازي لمفهومه في أنواع الحضارات والثقافات، وسقوط الحضارة المادية الحديثة في النقص وعدم قدرتها على تلبية حاجات الإنسان، يقول سماحته:

(إن نظرة واحدة إلى عالم اليوم تفيد عدم إعطائه الحاجات، لا بالنسبة إلى الأمم الفقيرة والمستعمَرة (بالفتح) ولا بالنسبة إلى الأمم الغنية والمستعمِرة (بالكسر) كالبلاد الغربية في الوقت الحاضر حيث إنها لم تتمكن أن تعطي للناس حاجاتهم، فهل كل الناس في الغرب يتمكنون أن يصلوا إلى الجامعة ويتخرجوا منها؟

وهل كل الناس في الغرب أغنياء؟

وقد جاء في تقرير أنه يوجد في أمريكا، زعيمة الرأسمالية والاستعمار في عالم اليوم، أكثر من ثلاثين مليوناً من الفقراء الذين لا يجدون حتى أوليات العيش إلا بصعوبة بالغة وبمعونة الجمعيات الخيرية وما أشبه مما لا يناسب الكرامة الإنسانية، وكذلك جاء في تقرير أن سبعة ملايين عانس توجد في أمريكا، ومن الواضح أن المرأة التي لا زوج لها، سواء لم تتزوج أصلاً كالعانس، أو التي تزوجت ثم ترملت، تعيش في أزمة نفسية شديدة، فهل الدنيا تمكنت أن تعطي حاجات الإنسان؟

هذا بالإضافة إلى الخوف والقلق المسيطرين على كل العالم مما بيّنه الإمام أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) في كلمة له في أحوال الجاهلية، حيث قال: (دثارها الخوف وشعارها السيف) فالخوف في باطن الإنسان والسيف في ظاهره، والسيف في هذا اليوم هو الأسلحة الذرية والنترونية والكيمياوية وغيرها، وأيضاً فإن أكثر أهل العالم، اليوم، يعيشون في حاجة مستمرة، لا العالم الثالث فحسب، وإنما في البلاد الشيوعية أيضاً كالصين والاتحاد السوفيتي (كان تأليف هذا الكتاب قبل انحلال الاتحاد السوفيتي) وما أشبه فالناس لا يحصلون فيها على أوليات الحياة... إلى غير ذلك من الأمثلة.

ومن الواضح أنه إذا لم تعط حاجات الإنسان تبدل المجتمع إلى مجتمع العداء والبغضاء، وصرفت الخلافية البنائية في الإنسان إلى خلافية الهدم، وابتلى الإنسان بالقلق والأمراض، كما نشاهد كل ذلك في عالم اليوم)(9).

وعلى هذا الأساس فإذا كانت الحضارة علامة على درجة من درجات تقدم البشرية فمن المناسب تعريف الكواشف التي تتيح تصنيف شعب أو مجتمع أنهم من المتمدنين أو اللامتمدنين. وهذا المسعى لا يقتصر على الماضي، على عكس المسعى الرامي لتعريف المجتمعات أو العقليات الغابرة. ذلك أن من الممكن بحسب الكواشف المذكورة، اعتبار بعض الشعوب بوقت واحد غابرة ومتحضرة، أو أيضاً على العكس، يمكن القول بوجود انقطاع في مجرى التطور بين الحال الغابرة المحضة وبين الحضارة بالمعنى الصحيح، ولذا يجب الانطلاق من الحضارة ذاتها، وليس من نقيضها، بغية استجلاء سماتها المميزة.

ولقد حاول علماء الاجتماع والانتروبولوجيون في أحيان كثيرة جداً إرجاع هذه الكواشف إلى كاشف واحد إذ اعتبروا أن حادث بلوغ مستوى معين، في مجالات الحياة الاجتماعية، يكفي لتأمين الوصول إلى حياة التمدن بجميع أشكالها، ويقول آخر ان مطلب الكواشف قد ينحلّ في الغالب إلى مطلب العثور على أعظم إمكانية استخدامها من أن تكون الظاهرة ظاهرة تسهل ملاحظتها وأن تتيح تقدير تدرّجها كيفياً على الأقل، إن لم نقل كمّياً.

وقد رآى فريق من الباحثين أن المجتمع الذي يمكن وصفه بالتحضّر هو الذي بلغ درجة معينة من التعقّد والتباين بين أجزائه والتمايز في أجهزته بحسب وظائفها. وينجم عن ذلك بالبداهة أن حجمه لابد من أن يجاوز حجم الخلية الاجتماعية الأولية، ومثلاً حجم العشيرة أو القبيلة.

ولكن أيهما أفضل وأقرب إلى تحقيق معاني الإنسانية؟ هنا يختلف الباحثون، حتى ذهب بعضهم إلى أنه لا يمكن تحديد درجة ما تمكننا من وصف مجتمع بأنه مجتمع متمدن، ولذا أخذوا يبحثون عن شواهد ملموسة للتطور، واعتبروا أن كاشف العمران أو نمو المدن هو أبرز ملامح المجتمع المتحضّر. وهم هنا يخلطون بين التمدن والتحضّر، فالتمدن مأخوذ من المدينة، والمتمدن هو الذي يسكن المدينة بعد أن كان يسكن في البادية مثلاً، وليس من الضروري أن تكون المدينة مرتبطة بالحضارة، غير أن الباحثين لم يلتفتوا إلى هذا الفرق حتى أصبح من المألوف بحث ظواهر الحضارة تحت عنوان (الثورة العمرانية) وهذه الثورة تقوم عند القائلين بها على الفصل فصلاً قاطعاً بين الحضارة وبين كل ما سبقها في تاريخ الشعوب الثقافي، ويرى غوردن شايلد (10) (G. Childe) أن من الثابت أن سبيل العمران ليس بالسبيل الوحيد لازدهار الحضارات، ولكنه حصيلته ورمزه، وعلى هذا توجد حضارة قبل العمرانية، ولكنها لا تتحلى بمعناها الحقيقي إلا بعد ظهور المدن. ومن هنا كان فجر الحضارة في تاريخ البشرية متجلياً في مستهل العصر الحجري، لدى أولئك الباحثين، وقد أفسح المجال بزواله أمام انبثاق الحضارة بالمعنى الصحيح، من وجهة نظرهم، عندما ظهرت المدن الأولى في بلاد ما بين النهرين، ثم استمر العمران واتسع انطلاقاً من بؤر حضارية ثلاثة في بلاد ما بين النهرين ووادي النيل وبلاد الهند. ومن ناحية أخرى إن تفتح الحضارة الحقيقي إنما بدأ منذ ذلك الحين في نظر غوردون شايلد ومن تابعه.

وعلى هذا المنوال يشتمل كاشف العمران أو ازدهار المدن على كواشف أخرى يكون هو سببها ونتيجتها، ولكنه ينفرد بأنه أكثرها بداهة مدركة، ذلك ان ضروب تكاشف الطاقة والبنيات الاجتماعية والتخصصات الوظيفية التي تتيح قيام الاختراعات وفنون التقدم التقني أو الذهني الحاسمة، كل ذلك إنما يحدث في المدن.

وقد زاد باحثون آخرون على هذه الرؤية درجات أخرى، وذلك بالانتقال من الكوخ إلى القرية ثم إلى المدينة ثم إلى المدينة الكبرى.

وقد حسم سماحة الإمام الشيرازي هذا الجدل بين الباحثين القدماء والمعاصرين بتحليله الدقيق للعلاقة بين المدينة والقرية ونشأة المدن في التاريخ، وعلاقة ذلك بالاجتماع والثقافة، وفيما بعد بالحضارة نفسها.

يقول سماحته: (الاجتماع عبارة عن حياة أفراد كثيرين في محل واحد. والمراد بالمحل الواحد بالمعنى الإضافي منه، مثل اجتماع القرية، واجتماع المدينة، واجتماع الدولة، ولا فرق في صدق الاجتماع بين الاجتماع البدائي كالذين يعيشون على الرعي والزراعة، وبين الصاعد كالذين يعيشون في المدن على الصناعة، فالأولون يصطادون الأكل، والثانيون ينتجونه، والأخيرون يعيشون حياة الحضارة المعقدة.

ثم المدينة محل سكنى الاجتماع قد تكون مدينة متمركزة وقد تكون مدينة قطاعاتية، وقد تكون مدينة مراكزية، تتناسب كل مدينة مع الاجتماع الذي يختار ذلك النوع من السكنى)(11).

وسماحته لا ينظر إلى المدينة نظرة الباحثين الغربيين ولا يعتبرها دالة على التحضّر والتطوّر ما لم تكن ملتزمة بضوابط معينة تساعد على جعلها موئلاً للإنسان يجد فيها راحته وسعادته، فالمدينة بناء جامد فقط، لابد له من روح وعواطف ومشاعر وعلاقات وارتباطات بين أفراد الاجتماع كي تأخذ معناها الإنساني. ويوضح سماحته هذه الناحية، بقوله:

(وسكان البلاد في العصر الحاضر، وبالأخص المتقدمون أكثر صناعياً، لهم حياة خاصة، من ناحية هي متقدمة، ومن ناحية هي متأخرة، ومن ناحية هي أكثر تعقداً وضوضاء وضغطاً، ولذا تكون المشاكل فيها أكثر، وقد حصل البون الشاسع بين حياة القرية وحياة المدينة.

وحيث يريد الإنسان السلامة، فاللازم أن يضع البرامج التي تضيّق شقة الابتعاد بين القرية والمدينة من ناحية، وتقلل من المشاكل الناجمة من كثرة الناس ومن لوازم الصناعة في المدينة)(12).

فسماحته ينظر إلى المسألة نظرة تعاكس نظرة كثير من الباحثين الغربيين الذين يريدون تعقيد الحياة أكثر فأكثر كي يتفضلوا عليها بوصف المدنية والتحضّر.

ومؤخراً ذهب باحثون غربيون جادّون إلى نفس ما قرره الإمام الشيرازي في ضرورة تضييق الشقة المتنامية بين القرية والمدينة، حفظاً على وحدة البلد المعني والاجتماع المقصود وتقليل الفوارق بين الناس من ناحية الثقافة والعمل وغيرها، إذ يجب التساوي بين أبناء المدن وأبناء القرى، كما يجب أن يعتني أهل المدينة بمدينتهم فيقللوا الضوضاء والتلوث إلى أقل درجة ممكنة.

وقد عبّر عن هذه الفكرة الباحث الانتروبولوجي روبرت ردفيلد (R. Redfield) في تقريره عن التأثير والتأثر بين ما يسميه بـ (التقليد الصغير) في القرية وبـ(التقليد الكبير) في المدينة، وان الفصل بينهما مستحيل قطعاً، وذلك لأن العلاقات بين المدينة والقرية لا يمكن أن تنقطع، سواء كانت علاقات اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو ثقافية وغيرها(13).

ورغم ذلك، فإن للمدينة دورها في قياس تطور بلد ما وتحضّره، ولكن على وفق الضوابط التي سبق ذكرها، والتي يعيد الإمام الشيرازي توضيحها بقوله:

(وهناك خلاف بين علماء الاجتماع في أفضلية سكن المدينة أو القرية، الأولى لأنها مركز الحضارة والمدنية، ولحصول الإنسان فيها على وسائل الرفاه، وتمكنه من التقدم إلى مدارج الكمال، والثانية لقلة المشاكل والضوضاء فيها، ولسلامة البيئة عن التلوث ولقلة الأمراض بل ولطول الأعمار.

ولكل وإن كان وجهة نظره، إلا أن القول الأول أقرب إلى الصواب لمن له قدرة المقاومة، فإن التقدمية التي جبل الإنسان عليها، لا تحصل في القرية. وحسب الاختلاف المتقدم فقد اختلفت الآراء إلى:

1 ـ هدم القرية وتكبير المدينة، وذلك بتشويق أهل القرية للهجرة إلى المدينة:

أ ـ إيجابياً بالدعاية ونحوها.

ب ـ بإهمال القرية حتى ينسحب أهلها تلقائياً مع توفير الإمكانيات للمدينة لاستيعاب أهل القرية.

2 ـ تقليل أهالي المدينة، وتكثير القرية، وتكبير الموجودة من القرى بما لا يخرج عن كونها قرية بمحسناتها، والعمل على العكس من الأول حيث تشجع الدولة الهجرة إلى القرى وتوفر بعض الحوائج وتسهّل أمور الاستيطان فيها.

3 ـ تمدن القرى بإيصال بعضها ببعض، وتحصيل الوسائل الكافية لها، حتى تكون مرحلة وسطى بين المدينة المعقدة وبين القرية وبين القرية البسيطة.

وعلى أيّ حال (يواصل سماحة الإمام تحليله قائلاً) اللازم الدقة الكاملة، لما هو أصلح بحال الإنسان حيث إنه المحور في رفاهه وتقدمه وبعد ذلك الشروع في التطبيق بما لا يوجب تزلزل أركان الاجتماع)(14).

نخلص مما تقدم، وضمن هذه الاحتياطات التي يكشف عنها الإمام الشيرازي، إلى اعتبار أن حركة العمران المدني هي علامة من علامات الحضارة بقدر تعريف هذه الكلمة لمرحلة متقدمة من التطور الثقافي. غير ان من البديهي أنها تتضمن، حتى حين نفهمها على هذا الشكل، طائفة من المنجزات التي تؤلف كواشف أخرى قد تكون طبيعية تقنية أو اجتماعية أو أخلاقية أو فكرية.

والباحثون الغربيون عموماً، يكتفون بهذا القدر من الحديث عن دور المدينة في إعطاء صفة الحضارة لمجتمع ما، وبذلك فإن كلامهم يبقى غير متناسق، لأنهم لم يلتفتوا إلى أن العمران يجب أن يخضع إلى فلسفة خاصة، فنشأة المدن بطريقة عشوائية تدل على جمود المجتمع أو على أنه من المجتمعات غير السائرة على طريق الكمال، أو في أفضل الحالات، مجتمع يريد الكمال ولكن ليس لديه فلسفة لذلك.

الإمام الشيرازي يواصل تحليله لموضوع المدينة ودورها في الحضارة، وكيفية القضاء على مشاكلها ومشاكل الازدياد السكاني وطرق هندسة المدن بناء على احتياج سكانها ومرحلتهم التطورية.

ويعالج سماحته هذه الموضوعات تحت عناوين: المدن المغلقة أم المفتوحة؟ الفوارق بين المدينة والقرية. الدين والمسكن. بناء المدن. أقسام المدن. المدن الكبيرة: المشاكل والحلول.

والحق أن كل عنوان من هذه العناوين يصلح أن يكون كتاباً مستقلاً بنفسه نظراً لأهمية كل موضوع منها، وخاصة أن علماء الاجتماع والبيئة في الغرب لم يولوا هذه الموضوعات حقها من البحث، وتركوا المسألة لاجتهادات المسؤولين الحكوميين الذين ربما كانوا لا يفهمون شيئاً عن دور المدينة الحضاري، ولا يفهمون شيئاً عن فلسفة بناء المدن.. لذا وقع التخبط والعشوائية في بناء المدن في العالم الإسلامي على وجه الخصوص، لأن المسؤولين (المتغربين أساساً) أهملوا الأخذ بآراء العلماء المسلمين في هذا الصدد، وإذا كان بعض المسؤولين قد ادّعى أن المسلمين ليس لهم رأي في قضية المدن وتخطيطها وفلسفة عمرانها، فإن بحوث سماحة الإمام الشيرازي والتي تعود إلى أزيد من ربع قرن، خير رد على مثل تلك التقولات التي يتاجر بها الحكام الدكتاتوريون وعملاؤهم من الكتبة الصغار والمرتزقة الذين يريدون تخريب البلاد الإسلامية وتشويه مدنها وعمرانها، كما فعله من يسمى بفيلسوف القومية العربية (ساطع الحصري) الذي تسلّم مناصب عالية في بعض البلدان الإسلامية ومنها العراق أيام الملكيين وما بعدهم، فأرسى قواعد البناء الإسمنتي والتشويهي وغير المتناسب مع بيئة دول المنطقة، وأصبحت المدن الإسلامية الآن رهينة بأيدي أمريكا وأوروبا، فبإمكان تلك الدول أن تضغط على الحكومات وتنفذ ما تريد، وذلك عن طريق عدم تلبية احتياجات هذه المدن الممسوخة، فبناياتها الإسمنتية وعماراتها جميعاً تتحول إلى جحيم في الصيف لولا وجود المكيفات، فإذا تعطلت الكهرباء أو المكيفات وامتنعت الدول الاستعمارية من توريد الأجهزة أو قطع الغيار المطلوبة، تحولت المدن إلى أشباح ومقابر جماعية لسكانها، وهكذا قل عن بقية المرافق والخدمات.

ولعل تحفيز إرادة التخلص من السيطرة الأجنبية، هي من العوامل التي جعلت سماحة الإمام يتعمّق في بحوثه عن المدن وكيفية تخطيطها وفلسفة العمران فيها، واستعراض أنواع المدن والحث على ضرورة اختيار ما يناسب الناس والبيئة.

* ففي موضوع المدن المغلقة والمدن المفتوحة، يقول سماحته:

(هناك خلاف آخر في أنه هل من الأفضل صنع المدن الجديدة حول المدن الكبار، كما يتعارف الآن، مدناً منغلقة على طائفة، كالمعلمين، وعمال المصارف، والفلاحين، وما أشبه، أو مدناً منفتحة، أمثال القرى والمدن العادية، يسكنها من يشاء من غير فرق بين المهن وما أشبه.

الأولون يستدلون بأنه أقرب إلى الراحة، للانسجام بين أصحاب الدور حيث لهم مهنة واحدة، والانسجام يوجب الرفاه النفسي والجسدي.

والآخرون يقولون إن وحدة المهنة بين الجيران تسبب الانغلاق الفكري، حيث إن عدم رقابة الحياة توجب جمودها، وصعوبة الاختلاط غير المتجانس أهون من مشكلة عدم الرقابة المجمّد، ولعل الثاني أقرب وفيها فوائد أخر، مثل الزواج من مختلف الأقسام، وتنزع الحياة المستقبلية للأولاد وغير ذلك.

نعم بعض المدن الصناعية الحديثة، لابد لها من وحدة المهنة، أمثال عمال مصنع كبير وما أشبه.. كما هو الحال في القرى الزراعية ونحوها، ومع ذلك يجب أن تنظم حياة أمثال هؤلاء بما لا يوجب جمود الفكر الناشئ من عدم رقابة الحياة)(15).

وعن الفوارق بين المدينة والقرية، يقرر سماحته: وكيف كان فالفروق الأساسية بين المدينة والقرية هي:

1 ـ المدينة أكثر ناساً بخلاف القرية.

2 ـ روابط الأفراد في المدينة عادية، بينما الروابط في القرية شديدة، وهكذا معاداة أفراد المدن بعضهم لبعض ضعيفة، بينما معاداة أفراد القرية شديدة، والسر أن كثرة أعمال روابط فرد المدينة لا تدع له مجالاً لشدة الولاء، أو شدة العداء بخلاف القرية.

3 ـ سعة مجال العمل والزواج والانضمام إلى الجمعيات والمؤسسات في المدينة دون القرية.

4 ـ قوة العلم والدين والأخلاق والآداب في المدينة لكثرة المدارس والمعلمين والوعّاظ والمربين في المدينة دون القرية.

5 ـ كثرة الأمراض ويسر العلاج في المدينة، وبالعكس من الأمرين القرية، حيث تلوث البيئة في المدينة أكثر والطب والوسائل الطبية فيها أكثر بخلافهما في القرية.

6 ـ تعقد النفس في المدينة دون القرية، وذلك لأن كثرة الروابط وتناقضها، وشدة الطبقية وكثرة الحرمان في المدينة توجب ذلك، والقرية ليست كذلك.

7 ـ سهولة المعاملات، وعدم التدقيق في أمرها في المدينة، وذلك لأن كثرة الشأن فيها لا يسمح بالدقة، بخلاف القرية حيث قلة الشأن فيها فتكون مسرحاً للدقة.

8 ـ ضعف مراقبة الأهل والأولاد في المدينة، وشدتها في القرية، إذ سعة المدينة من ناحية، وكثرة شغل الإنسان فيها من ناحية ثانية، تجعل الأولاد ونحوهم بمنأى عن الأب والأم، ثم إن انشغالهما يمنعان من المراقبة الدقيقة وبالعكس من كلا الأمرين القرية.

9 ـ في المدينة الدخل أكثر والأرباح أوفر، بخلاف القرية، وذلك من جهة ارتفاع مستوى المعيشة في المدينة دون القرية من ناحية، ومن جهة وجود النقد أكثر في المدينة مما يجعله أكثر ابتذالاً، وبالعكس من ذلك القرية.

10 ـ التحرك الاجتماعي في المدينة عمودياً وأفقياً، حيث مختلف المؤسسات، ومتفاوت الدرجات، فيتمكن الإنسان أن ينتقل من وظيفة إلى وظيفة، كما يتمكن أن يصعد من مرتبة نازلة إلى مرتبة رفيعة، وأحياناً بالعكس وليس كذلك القرية، ولذا يكون هناك الجمود.

11 ـ أخطار المدينة أكثر من حيث السرقة والسطو والاختطاف والدهس وغيرها، حيث كثرة السيارات وتنوع الناس، وإمكانية المفسد من الاختفاء في بحر الناس بخلاف القرية في كل ذلك.

12 ـ كثرة الفساد في المدينة من زنا ولواط واستعمال المخدرات ونحوها بخلاف القرية، وذلك للأسباب التي تقدمت في بند 11.

13 ـ زيادة الحر والبرد في القرية لقلة العائق لهما من الأبنية والعمارات بخلاف المدينة لكثرة العائق، لذا يمكن الاستفادة من الطبيعة أكثر في القرية من المدينة.

14 ـ تشتد النزاعات القومية والطائفية والعرقية وغيرها في القرية دون المدينة، وذلك لأن المدينة بحضارتها الكثيرة ترقق من المشاعر وتعطي رؤية أوسع بخلاف القرية في ذلك.

15 ـ تجعل القرية أفرادها أبعد عن عين الحكومة ومتناولها، حيث تضعف أجهزة الحكومة في القرية، وحيث القرابة والصداقة الشديدة في القرية، مما يستر بعضهم على بعض، وليس كذلك المدينة، ولذا تشد القرية من أزر التنظيمات المناوئة للحكومة.

ولا يخفى تختلف المدن الساحلية والجبلية والغابية والسطحية في بعض تلك الجهات، كما أن حركة التهريب في الساحلية، والحرب في الجبلية والغابية، وغيرهما تختلف اختلافاً كبيراً، كما أن المدن الصناعية تختلف عن غيرها من بعض الحيثيات المتقدمة، وكذلك بالنسبة للقرية)(16).

* وبالنسبة لعلاقة الدين بالمسكن في مدينة أو قرية، يقول سماحته:

(ثم لا يخفى أن الدين الأعم من الأخلاق الذي الإطار الصحيح للدنيا السليمة، وللآخرة السعيدة، تختلف إمكانية تمسك الإنسان به، في القرية من المدينة، وفي مدينة عن مدينة، وقرية عن قرية، وعدم التمسك به كاملاً يوجب خبالاً في الحياة، بله الآخرة، كما قال، سبحانه وتعالى: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً)(17).

ولذا كان اللازم:

1 ـ أن يسكن الإنسان في محل هو أقرب إلى إمكانية تطبيق الدين، سواء سكناه الدائم أو سكناه لأجل علم أو غيره.

2 ـ أن يهتم القائمون بالدين، في تنظيم وسائله بما يجعل الناس أقرب إلى الأخذ به، مثل أن تبنى في كل مدينة وقرية مدرسة دينية، وأن تنشر الكتب والنشرات في الأحياء الصناعية، وأن يبنى المسجد في المراكز العمالية، وأن يهتم لاستعمال وسائل الإعلام كالصحف والراديو والتلفزيون، لأجل بث الدين، وتذكير الغارقين في أعمالهم بالموازين الدينية مما يوجب السعادة الدنيوية والأخروية)(18).

* وأما عن فلسفة عمران المدن فيكتب سماحته:

(من الطبيعي أن ينظم الإنسان حياته، حسب:

1 ـ يقربها إلى حاجاته.

2 ـ ويبعدها عن الأخطار، فإن غريزة البقاء تعطي للإنسان هذه النظرة، ولذا يبني الإنسان داره حيث توفّر له الأمرين السابقين، وكيفية تراكم الاجتماع تتبع ذلك)(19) بمعنى أن فلسفة بناء الدولة قد تترتب على الدين، كما قد تترتب على الاقتصاد، أو تترتب على الثقافة، فإذا ترتبت تلك الفلسفة على الدين، أصبح المسجد وسائر أماكن العبادة لدى الأقوام الأخرى مركز المدينة، وإذا ترتبت فلسفة العمران على الاقتصاد، أصبحت المعامل والبنوك والأسواق هي المركز، وإذا ترتبت على الثقافة أصبحت المؤسسات العلمية هي المركز، وإذا ترتبت على الاجتماع أصبح ذلك الاجتماع هو المركز. وهذا ما نلاحظه بوضوح في المدن التي تتخذ طابعاً واحداً وكذا في الأحياء التي تتخذ مثل ذلك الطابع، دينياً أو اقتصادياً أو ثقافياً، قال سماحته:

(ولذا تبنى المدن حوالي أمثال:

1 ـ المساجد وسائر محلات العبادة لكل أمة.

2 ـ المؤسسات الاقتصادية بفروعها كافة.

أ ـ النقدية كالمصارف.

ب ـ أو الإنتاجية كالمعامل.

ج ـ أو الاستهلاكية كمحلات الأكل واللباس وما أشبه.

د ـ المؤسسات العلمية كالمدارس والمعاهد والمكتبات.

هـ ـ مراكز القوة، مثل محل وجود العشيرة، ومنطلقات القوة الحكومية، ومحل تجمع الحزب ونحوه، مما يعطي للإنسان قوة الدفاع)(20).

إن فلسفة بناء المدن هذه مستوحاة من دراسة متأنية لتاريخ الحضارة البشرية، وصولاً إلى النتيجة التي مفادها أن تخطيط المدن الحديثة يجب أن يتبع واحداً أو أكثر من تلك التخطيطات للعمران. أما ما نشاهده اليوم في كثير من المدن وخاصة في الدول الإسلامية فإنها تنمو عشوائياً بلا تخطيط ولا فلسفة، وهذا تشويه للفن المعماري والإرث الحضاري الذي قامت عليه المدن طول التاريخ.

ومن هنا نستطيع أن نفهم كيف أن تخطيط المدن نفسه دالّ على درجة الرقي والتطور، لأنه يكشف عن نفسية السكان والفلسفة التي تحكم حياتهم، فإذا وجدنا مدينة تعتبر المسجد مركزاً لها، فإن سكانها قد بنوا حياتهم على أساس الدين، وإذا وجدناها تتمركز حول المصارف وما إليها فإنّ الفلسفة الاقتصادية هي التي تتحكم في حياتهم، أما إذا وجدناها عشوائية لا ضابط لعمرانها فهذا دالّ على فوضى الاجتماع وانعدام أي فكر يوجهه. ولقد عمل أعداء الأمة من الشيوعيين والقوميين وغيرهم من المتأثرين بالصهيونية العالمية إلى محاولة طمس معالم الفلسفة الإسلامية في العمران، فجهدوا على ألا تكون المساجد مراكز للمدينة أو القرية، وصولاً إلى إلغاء دورها في حياة الناس.

ومهما تكن الفلسفة التي تتحكم في العمران، فإن تخطيط المدن، وعبر التاريخ، خضع لاعتبارات تنظيمية عدة، حسب نفسيات السكان ورؤاهم الجمالية، ففي الآثار القديمة أنواع متعددة من المدن والقرى من حيث طريقة تقسيمها وترتيب محلاتها.

وقد تابع سماحة الإمام الشيرازي هذا الموضوع بعمق واستقصاء يغبطه عليهما حتى علماء الآثار أنفسهم، فوجد أن عمران المدن يتم على عدة أشكال بحسب طبيعة الحضارة ومستوى التمدن، قال:

(إن الغالب في المدن أن تبنى على أقسام:

1 ـ المدينة المركزية الشعاعية، بأن يكون للمدينة مركز واحد، ثم تبني من عند ذلك المركز، فتتسع حسب الشعاع المنبثق من المركز.

2 ـ المدينة المتعددة المراكز، وهي أن تكون للمدينة مراكز، حتى لا توجب الصعوبات الناجمة من المركز الواحد، وفي كثير من الأحيان، حيث تلتصق القرى بعضها ببعض توجد المدينة المتعددة المراكز، والاتساع يكون حينئذ من شعاع المراكز لا من شعاع المركز الواحد.

3 ـ المدينة القطاعية ذات المركز الواحد، فالمركز وإن كان واحداً إلا أنها تبني قطاعات، لا دائرية شعاعية، كالقسم الأول، فشعاع من المركز سكني، ويبتعد هذا الشعاع بكثرة المساكن وشعاع من المركز للدوائر الحكومية، وشعاع للمدارس، وشعاع للأسواق، وهكذا، وبذلك لا تكون الشعاعات في بُعد واحد، كالدائرة بل يكون شعاع كل جهة حسب امتداد حاجة ذلك الشعاع.. وهذا القسم من المدينة يريد الاحتفاظ بفائدة كل من القسمين السابقين بدون أضرارهما، حيث إن تعدد المراكز يوجب التبعثر، ووحدة امتداد الشعاع توجب الصعوبة)(21).

وبطبيعة الحال فإن كل تخطيط من هذه التخطيطات يحتاج إلى مؤهلات خاصة ليؤدي رسالته في خدمة السكان وتيسير أمورهم، إضافة إلى التطور الذي يستوجب مجموعة من الإجراءات التي تحتاج إليها جميع أنواع المدن، وهو ما أشار إليه سماحته بقوله:

(كما أنّ التحولات الاجتماعية تؤثر تأثيراً مناسباً في وضع المدن وتغيّر من ملامحها، مثلاً: قبل صنع السيارات كانت الأزقة والشوارع ضيقة، أما بعد اختراعها فقد تغيرت معالم المدن.. وقبل صنع الطائرة كانت تُصنع حول المدن الأسوار، حفظاً لها من المهاجمين بالسهام والسيوف، أما بعد صنع الطائرة لم يبق للسور فائدة، فأخذت المدن تتكشف وتخرج من قوقعتها، وهكذا بالنسبة إلى جملة من الصنائع الأخر)(22).

ويقودنا هذا التحليل لتخطيطات بناء المدن، إلى الإقرار بأن نمو تطبيقات التقنيات هو أيضاً حادث ينبغي مراقبته، وقد اتّخذ العلماء المتخصصون في ما قبل التاريخ ظاهرة التقنيات أساساً لتصنيفاتهم، ولا يرجع ذلك إلى أنهم لم يكادوا يعثرون في الأطلال الدفينة على إشارات أخرى تميز التطور وحسب، بل أيضاً إلى أن أشكال الأدوات في تتبع في التاريخ العالمي نظاماً ثابتاً، الحجر المقطوع، الحجر المصقول، المعادن. وكذلك فإن نمو الحضارة في أرقى أشكالها يرتبط على صعيد الحوادث باختراعات أخرى: ترويض الحيوانات، الزراعة، الدولاب، استخدام قوة المياه المحركة.

وبرغم كل هذه الشواهد التي يمكن أن نستخلص منها مميزات المجتمعات بناء على ما تبقى من شواهد حضاراتها، إلا أن التهويد الحضاري المتواصل، يرفض الاعتراف بوجود ملامح وكواشف مميزة لتلك الحضارات، لا لعدم وجود الملامح والكواشف حقيقة، بل لأن تلك الملامح والكواشف تثبت أن بني إسرائيل ليسوا هم رواد الحضارة البشرية كما يحبون أن يزعموا.

ومن المعلوم أن التقنية لا تتجلى ببعدها التمديني إلا بقدر انعكاسها في النظام الاجتماعي بطريق الاقتصاد وبطريق الأخلاق، وهذا الطريق الثاني يهمله فريق من الباحثين الغربيين كما سبق أن ذكرنا في حديثنا عن (الاختباريين) وهم الذين يريدون إخضاع الأخلاق والعادات والتقاليد للاختبار وبالتالي إسقاطها بحجة التطور والتقدم وما إلى ذلك.

ولعل من دلائل تجلّي التقنية في النظام الاجتماعي، مسألة الزراعة وما ينتج عنها من سلسلة روابط يتعلق بعضها ببعض.

فمن جهة أولى يقود نمو الزراعة إلى نظام التملك، ولاسيما إلى الإنتاج الغذائي الكافي لحماية الجماعة من خطر المجاعة، وهو يتيح لبعض أعضائها الانصراف إلى نشاطات أقل اتصافاً بالصفة المادية، ومن جهة أخرى، تسبب منظومة المبادلات وانتقال الخيرات بدورانها وتراكمها وسوء إدارتها وسيطرة الاستغلال، تسبب انشطارات أخرى في حياة الجماعة، فتظهر الطبقات المستغلة وأصحاب رأس المال الاستغلاليين.

ومن تلك الكواشف الحضارية أيضاً ظهور الكتابة، وهي علامة حاسمة على دخول شعب ما إلى ميدان الحضارة. ومن الثابت في جميع الأحوال أن الكتابة هي إحدى التقنيات التي أسهمت الإسهام الأكبر في منح العوامل الثقافية أهمية مطردة وفي دعم الوظائف الفكرية للاجتماع. وهنا سؤال يطرح نفسه: تلك الشعوب البدائية التي لا تعرف الكتابة، هل بإمكانها أن تخطو الخطوة الأولى في التمدين والتحضّر، بإنشاء المدن وعمرانها على وفق بناء فكري فلسفي؟

الظاهر من شواهد التاريخ التي ما تزال ماثلة في الآثار وغيرها أن المدن المكتشفة جميعاً هي لشعوب كانت قد عرفت الكتابة، حتى ولو بطريقة بدائية، فذهب كثير من المؤرخين وعلماء الآثار إلى جعل الكتابة أساساً من أسس بناء المدن وظهور العمران.

إنّ التقدم التقني، من ناحية رئيسية، هو بوجه عام، نتيجة النمو الفكري، الذي لا يحدث إلا بالقراءة والكتابة، وهذا النمو ذاته يفيد، كما قيل، في تطوير التقنيات الجديدة لوقت يمكن ملؤه بنشاط فكري، مما يؤثر في عمران المدينة حتماً، فتخطيط المدينة التي فيها نشاط فكري سيأخذ بنظر الاعتبار ذلك النشاط ويقيم تخطيطه العمراني على مركزية المؤسسات الثقافية والفكرية بما فيها المساجد ومراكز التعبد الديني لدى الأديان الأخرى.

والنشاط الفكري سيتيح وقتاً للتأمل في الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، مما يجعل جملة السكان ينصرفون إلى نشاطات تختلف عن مجرد نشاط الحصول على القوت.

ونظراً لهذا الكاشف وغيره، نستطيع أن نقرر أن المجالات التي يمكن أن تقوم فيها الكواشف الفكرية للحضارة الحقيقية مجالات كثيرة. ومن شأن المعرفة العلمية أنها ترتبط ارتباطاً مباشراً جداً بالتقنيات، بالرغم من أن هذه المعرفة قد تكون تطلعات نظرية فحسب، بل إنها تمتزج، كما في المدينة اليونانية، بالفلسفة.

وفي جميع الأحوال تحتل هندسة العمران وعلاقتها بعلوم الفلك والحساب ومصادر المياه منزلة الصدارة في جميع الحضارات الراقية، وان الكتابة تتيح حفظ المعرفة المكتسبة ونقلها نقلاً أميناً، وعلى هذا المنوال، يمكننا العثور في هذه المجالات على كواشف شتى، وبقدر كاف من الوضوح.

ويبقى أن المدينة نفسها دالّة على مستوى أهلها وعلاقتهم النفسية بها، فالناس الذين يحبون مدينتهم يعطوننا كاشفاً جديداً عن تطورهم الحضاري، ويتمظهر ذلك الحب في عنايتهم بها ومحافظتهم على نظافتها، وسعيهم في حل المشاكل التي هي عادة من صفات المدن، وخاصة الكبيرة المزدحمة منها.

ويرى الإمام الشيرازي، أن ابرز مشاكل المدن هي:

(1 ـ عدم سعة المدينة بقدر سعة الأفراد، فمثلاً: كانت أرض المدينة لكل فرد بمقدار خمسين ذراعاً، ثم صارت بمقدار عشرة أذرع لكثرة النفوس، وعدم توسعها التوسع المطلوب.

2 ـ تزايد الضوضاء.

3 ـ عسر التنقل سواء للإنسان أو لحاجياته.

4 ـ تلوث البيئة لكثرة الملوثات التابعة لكثرة النفوس.

5 ـ تكثر الجنايات، حيث إن الجاني يتمكن أن يختفي بسرعة، وغير ذلك)(23).

وجرياً على طريقة عرض المشاكل وتقديم الحلول فإن الإمام الشيرازي يقدم حلولاً لتلك المشاكل، فيقول:

(أما كيف يمكن حل مشكلات المدن الكبار، فهو بأمور:

1 ـ المواظبة الكاملة بسعة أرض البلد بقدر كثرة السكان بعد ملاحظة الوجه الصحيح في احتياج كل فرد إلى الكمية اللازمة من الأرض.

2 ـ جعل المرافق بقدر الحاجة مع توزيع المرافق توزيعاً عادلاً، فإذا احتاج كل ألف إنسان إلى خباز وطبيب وحمام عمومي مثلاً: جعل ذلك مع أن يكون كل ذلك في وسط الجماعات، لا أن يكون عشرة من محلات الخبازة في ناحية وتسع نواحي بحاجة إلى الذهاب إلى تلك الناحية، إلى غير ذلك.

3 ـ إخراج المعامل والمحطات والكراجات والدوائر الحكومية وما أشبه عن البلد، ببعد ملائم لا يسبب الإزعاج بعداً، ولا الصعوبة قرباً.

4 ـ منع السيارات الشخصية وسيارات الأحمال وما أشبه عن العبور في الأماكن المزدحمة.

5 ـ تصغير وسائل الحمل والنقل بقدر الإمكان، سواء للإنسان أو للحمل حتى لا تحتاج إلى أكثر من القدر المحتاج إليه واقعاً.

6 ـ الدقة الكاملة في سلامة البيئة بالحدائق العامة والنافورات، والساحات العامة، وكثرة الأشجار، والمياه النظيفة في داخل المدينة وخارجها، والمنع عن استعمال السيارات للأدهان الملوثة وما أشبه ذلك.

7 ـ الحيلولة دون توسيخ المعامل وما أشبه، والدقة في تنظيف المدينة والحوانيت ونحوها.

8 ـ تنظيم المرور تنظيماً دقيقاً، وصنع الجسور والأنفاق، والطائرات العمودية لأجل عدم صعوبة الانتقال.

9 ـ شدة الرقابة على الفساد، وقاية وعلاجاً، أمثال السطو والسرقة والدهس، وبيوت الدعارة وغير ذلك.

10 ـ المنع عن الضوضاء أمثال أصوات السيارات والمعامل والقطارات والمكبرات والأجراس، وغير ذلك.

11 ـ إعطاء حاجة القرية حتى لا ينساب أهلها إلى المدينة.

12 ـ تكثير التثقيف الموجب لقلة المشاكل بمختلف الوسائل، والتي منها جعل أسابيع للصحة وللنظافة وللمرور والتجميل وللزراعة وللوقاية وغير ذلك)(24).

وهذه جميعها تدخل في مجال الذوق العام الدال على مستوى الحضارة والتمدن، فالمدن مهما كانت كبيرة ومنظّمة ولكنها تتكدس فيها الأوساخ والأزبال ولا يبالي سكانها بنظافتهم ونظافتها فإن هذا مؤشر على نقص في تكونهم الحضاري والمدني وذوقهم الاجتماعي.. وهكذا في الأحوال المشابهة.

ويتعلق هذا الذوق بمجال المنجزات الجمالية عامة، كالحدائق وتزيين المكتبات ونقش الزخارف وغيرها من الفنون. ويبقى من الصحيح انه لا توجد حضارة جديدة بهذا الاسم بدون ذوق اجتماعي رفيع.

ويرى بعض الباحثين أن فن الحضارات الحقيقية أو الثقافات الرفيعة لا يتميز بهذا النجاح أو ذاك، بل بالأحرى لا بد من توجيه نظرة تصورية ذهنية إلى الأساليب، وتعاقب تطور الملابس والمدارس وغيرها. ويرى هؤلاء أنّ المدينة التي تحفل بنشاط متميز في هذا المجال، وتتنوع فيها الأذواق ويتنافس الناس في تجميل مدينتهم وحياتهم وتنظيف بيوتهم وحاراتهم، هي المدينة المشيرة إلى تطور الاجتماع تطوراً كبيراً حقاً، وكل هذا يعتمد على ما اتصف بها الإنسان من ميزات حباه الله، تعالى، بها، كالفكر والمنطق والكتابة وإمكانية تطوير الطبيعة وروح الاجتماع التي تلازم الإنسان، وهي الأمور الخمسة التي عدها الإمام الشيرازي أسساً لرقي المجتمعات وتطورها(25).

ومن المعلوم أن هناك اختلافات بين الباحثين حول الحضارة الأولى والمجتمع الأول، ويحاول الكتّاب اليهود بشتى جهودهم إلى القول إنّ الحضارة الأولى هي الحضارة الإسرائيلية، ولذلك فإن البشرية، قبل الحضارة الإسرائيلية، لم تكن تعرف الحضارة، وبناء على هذا الوهم اجتهد علماء اليهود في وضع نظريات باطلة عن مراحل الحضارة، فظهرت فكرة إنسان الكهوف والحلقة المفقودة بين القرد والإنسان، وكثرت الكتابات عن الإنسان القديم المتوحّش وكيف اكتشف النار صدفة، وكيف دجّن الحيوانات صدفة.. وغير ذلك مما أصبح يعتبر في مدارسنا وجامعاتنا بأنه العلم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وكل هذا مما لم يدلّ عليه الدليل، بل الدليل قائم على عكسه.

وهناك أمور عرفتها أقدم الحضارات البشرية عجز العالم الآن عن الإتيان بمثلها أو تطويرها كحروف اللغة التي لا يستطيع أحد أن يضيف إليها حرفاً، وكالبناءات العديدة كما في بابل والأهرام وسور الصين وغيرها مما يقف أمامه العلم الحديث حائراً، وهكذا عن كثير من الأدوية التي وصفها علماء كبار كابن سينا، وكان قد أخذ بعضها عمن سبق من الأطباء الذين يعود تاريخهم إلى عشرات الآلاف من السنين، إلى غير ذلك مما يصعب حصره.

ويرى الإمام الشيرازي أن كثيراً من الآراء التي تُعتبر اليوم في عداد العلوم، نتيجة الجهد الذي بذلته حركة التهويد الثقافي، هي ليست من العلم في شيء. فالكرة الأرضية قد عرفت حضارات قديمة جداً لا علاقة لها ببني إسرائيل وظهورهم، وتلك الحضارات تثبت بما لا شكّ فيه أن الإنسان صنعٌ رباني، خلقه الله تعالى وزوّده بكل الأدوات الضرورية لبناء المجتمعات على أساس الدين. أما ما يقولونه من عصر الرق وتعدد الأزواج للمرأة الواحدة وهو عصر الأمومة كما يدعون، وغير ذلك، فمجرد هلوسات لا تصمد أمام النقد العلمي أبداً.

1 ـ الاجتماع: ج 2 ص 96 .

2 ـ ن.م: ج 2 ص 97 .

3 ـ ن.م: ج 2 ص 99 ـ 100 .

4 ـ ن.م: ج2 ص 100 .

5 ـ Stan S. Leo, Natural Right, Chicago, 1980, p.263 .

6 ـ Fabver L., Civilization, New York, 1981, p. 59 .

7 ـ Tylor, E. B., Civilization and Society, London, 1984, p. 381 .

8 ـ Spranger, E., Types of Men, New York, 1982, p. 173 .

9 ـ الصياغة الجديدة: ص92 ـ 93 .

10 ـ Child v, Social Evolution, London, 1966p 65.

11 ـ الاجتماع: ج 1 ص 264 .

12 ـ ن.م: ج 1 ص 264 .

13 ـ Redfield R., The Primitive World, New York, 1993, P. 155 .

14 ـ الاجتماع: ج1 ص 267 .

15 ـ ن.م: ج 1 ص 268 .

16 ـ الاجتماع: ج 1 ص 269 ـ 271 .

17 ـ سورة طه، الآية: 124 .

18 ـ الاجتماع: ج 1 ص 271 .

19 ـ ن.م: ج 1 ص 272 .

20 ـ ن.م: ج 1 ص 272 .

21 ـ ن.م: ج 1 ص 273 .

22 ـ الاجتماع: ج 1 ص 274 .

23 ـ ن.م: ج 1 ص 274 .

24 ـ ن.م: ج 1 ص 274 ـ 276 .

25 ـ ن.م: ج 1 ص 95 .