المجاهدون والنهضويون في مرحلة بناء الأمة

السيد مرتضى الشيرازي

وهندسة القيادة الإسلامية لاتجاهات الغنى والفقر

(6)

موقع الإمام الشيرازي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين،

ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً،

واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

قال الله العظيم في كتابه الكريم:

(وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا...)([1]).

 

من بصائر النور في آية الاستعمار

البصيرة الأولى: استحباب إعمار الأرض وقصد القربة بإعمارها

من البصائر القرآنية في هذه الآية الكريمة، أنه قد يستفاد منها استحباب إعمار الأرض وصحة قصد القربة بإعمارها، والاستحباب مبني على دعوى الملازمة بين مطلوبية الشيء للشارع وبين استحبابه، أما قصد القربة فإن أمره أهون لبداهة صحة قصد التقرب إلى المولى في كل ما ثبتت مطلوبيته له.

وعلى ذلك، فإنه يمكن التقرب إلى الله تعالى بكافة أنحاء إعمار الأرض من زراعة وحرث وريّ ومن شق الجداول والأنهار، ومن إصلاح الطرق وتعبيدها، وحفر الأنفاق، وبناء الجسور، واستحداث الحدائق والغابات، وكذلك إعمارها ببناء المعامل والمصانع والبيوت وغيرها إضافة إلى إعمارها بالمساجد والحسينيات والمكتبات والمدارس والمستشفيات وغيرها، وقبل ذلك إعمارها بالعبادة والسجود والركوع والصلاة في أرجائها.

وذلك كله مبني على صدق (الإعمار) عرفاً، وبالحمل الشائع على ذلك كله ونظائره، وإن الانصراف إلى بعضها _إن كان_ فبدوي. فتأمل

وعليه: فللمزارع والمقاول والبنّاء وغيرهم قصد القربة في أعمالهم وأفعالهم هذه، والأثر التربوي والعمراني لذلك كبير جداً:

أما الأثر التربوي؛ فلأن لكل إنسان انشغل بنوعٍ من أنواع إعمار الأرض أن يقصد القربة، فتكون كافة أنواع الإعمار روابط للبشرية إلى الله تعالى، فكما ان الصلاة هي حلقة ربط بالله تعالى مذكِّرة به، فكذلك تكون الزراعة والصناعة وسائر الأعمال، لو استحضر الإنسان هذا المعنى العظيم وقصد القربة لله تعالى، على اختلاف في الدرجات طبعاً.

وأما الأثر العمراني؛ فلأن ذلك مما يزيد حركية الناس في كافة أرجاء الأرض، ويقوّي من باعثيتهم للعمل في إعمار الأرض، إذ يجدون أن في ذلك الأجر والثواب أيضاً، إضافة إلى أنه مما تقوم به دنياهم وتصلح به أمورهم.

 

البصيرة الثانية: استعمار الجميع أو المجموع لجميع الأرض أو مجموعها

إن المحتملات في (اسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) هي أربعة:

إذ قد يكون المراد استعمار الجميع _أي جميع البشر_ للجميع أي لجميع قطعات الأرض، فالعمران مطلوب من الجميع للجميع.

وقد يكون المراد استعمار المجموع للجميع.

وقد يكون المراد استعمار المجموع للمجموع.

وقد يكون المراد استعمار الجميع للمجموع.

والمراد من (الجميع) الآحاد، أي كل فرد من أفراد البشر وكل قطعة قطعة من قطعات الأرض، والمراد من (المجموع) ما كانت الهيئة الاجتماعية ذات مدخلية فيه، بحيث يكون كل فردٍ جزءً من صورة أوسع ومن مكوّن أكبر، أي من منظومة عمرانية متكاملة أو من مجموعة بشرية متماسكة.

فالآحاد: مثل زيد وعمروٍ وبكر وهكذا المجموع: كالحزب والعشيرة والاتحادية والنقابة ثم الشعب فالأمة، إذ قد يتصدى هذا الفرد أو ذاك لإعمار هذه الأرض أو تلك وقد يتصدى الحزب الحاكم أو المعارض أو مجموع الأحزاب لإعمار الأرض والبلاد أو تتصدى العشيرة أو النقابة مثلاً، وقد يتصدى الشعب كله لإعمار الأرض في خطة متكاملة متناسقة.

والأرض كذلك، فقد نعمّر هذه الأرض وتلك وتلك، دون خطة عمرانية جامعة متكاملة، وقد يعمِّر كل فرد كل قطعةٍ في ضمن مخطط عمراني شامل، بحيث يكون كل عمل وإعمار متكاملاً مع العمل والإعمار الآخر، حتى تكون مخرجات ذلك كله مدينة متكاملة تستوعب كافة حاجات الناس بتناسب وتناغم وانسيابية.

وبذلك يظهر أن المقصود من (اسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) ليس إعمار كل الأراضي فقط، بل ان يكون بنحو متكامل متجانس متناغم، فإنه يصدق عليه بالحمل الشائع، أنه عمران واستعمار، بل هو المصداق الأجلى للعمران والاستعمار.

 

وجوه الجمع بين طوائف الروايات حول الغنى والفقر

لقد سبقت وجوه للجمع بين طوائف الروايات، التي تبدو بظاهرها متعارضة في التحريض نحو الغنى والثروة أو التثبيط عنها، وفي مدح الفقر والتقشف والزهد من جهة ثانية أو في ذم الفقر.

وكان من الوجوه، أن الزهد والتقشف والفقر أو العيش كحياة الفقراء مطلوب من القادة والمسؤولين، ومن هو في موقع متقدم، تربوي توجيهي أو قيادي أو عملي، وإن الغنى مطلوب لعامة الناس.

 

التقشف في مرحلة النهضة وبناء الأمة

 ونضيف ههنا أمراً آخر يصلح أن يُعدّ وجهاً مستقلاً وهو:

إن التقشف والزهد والعيش عيش الفقراء مطلوب من عامة الناس أو من أكثريتهم([2]) إذا كانت الأمة في حالة النهضة الشاملة، النهضة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية والفكرية والثقافية والعسكرية وغيرها، وحينئذٍ يكون المطلوب من الجميع، تجنيد كافة الطاقات والإمكانات والثروات لاستنهاض الوضع العام، وعليهم عدم تكديس الثروات، ولا الانشغال بالماديات والكماليات والجماليات وهوامش الحياة، وذلك لأن كل ذلك يشكل عائقاً أمام حركة الأمة السريعة الشاملة نحو بناء حضارة متكاملة.

وحيث كان الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) في حالة نهضة شاملة، إذ كان في طور تشييد دعائم دين سماوي خالد، وفي مرحلة بناء أمة وحضارة، لذلك دفع الأمة الإسلامية دفعاً لصبّ كافة الطاقات في طريق هذا الهدف الأسمى، وعدم الانشغال بجمع الأموال وتوافه الحياة، بل وحتى الكماليات، كلما اصطدم ذلك بهذا المشروع السماوي العظيم.

ولعل لذلك لم يقسِّم (صلى الله عليه وآله) الثروات الكبرى التي نالها في معركة حُنين على المسلمين، بل قسَّمها على المؤلفة قلوبهم، حتى ضجّ المسلمون بالاستنكار، ودُهشوا لذلك، واعترض الكثيرون منهم، فقال رسول الله لهم: "إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ أَمْرٍ فَأَجِيبُونِي عَنْهُ، فَقَالُوا: قُلْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: أَ لَسْتُمْ كُنْتُمْ ضَالِّينَ فَهَدَاكُمُ اللهُ بِي، فَقَالُوا بَلَى فَالله الْمِنَّةُ وَلِرَسُولِهِ. قَالَ: أَ لَمْ تَكُونُوا عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمُ اللهُ بِي. قَالُوا: بَلَى فَلِلَّهِ الْمِنَّةُ وَلِرَسُولِهِ. قَالَ: أَلَمْ تَكُونُوا قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمُ اللهُ بِي. قَالُوا: بَلَى فَلِلَّهِ الْمِنَّةُ وَلِرَسُولِهِ. قَالَ: أَلَمْ تَكُونُوا أَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ بِي. قَالُوا: بَلَى فَلِلَّهِ الْمِنَّةُ وَلِرَسُولِهِ.

ثُمَّ سَكَتَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) هُنَيْئَةً ثُمَّ قَالَ: أَلَا تُجِيبُونِي بِمَا عِنْدَكُمْ. قَالُوا بِمَ نُجِيبُكَ فِدَاؤُكَ آبَاؤُنَا وَأُمَّهَاتُنَا قَدْ أَجَبْنَاكَ بِأَنَّ لَكَ الْفَضْلَ وَالْمَنَّ وَالطَّوْلَ عَلَيْنَا. قَالَ: أَمَا لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ، وَأَنْتَ قَدْ كُنْتَ جِئْتَنَا طَرِيداً فَآوَيْنَاكَ، وَجِئْتَنَا خَائِفاً فَآمَنَّاكَ، وَجِئْتَنَا مُكَذَّباً فَصَدَّقْنَاكَ.

فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمْ بِالْبُكَاءِ، وَقَامَ شُيُوخُهُمْ وَسَادَاتُهُمْ إِلَيْهِ فَقَبَّلُوا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، ثُمَّ قَالُوا: رَضِينَا بِاللهِ وَعَنْهُ وَبِرَسُولِهِ وَعَنْهُ، وَهَذِهِ أَمْوَالُنَا بَيْنَ يَدَيْكَ، فَإِنْ شِئْتَ فَاقْسِمْهَا عَلَى قَوْمِكَ، وَإِنَّمَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنَّا عَلَى غَيْرِ وَغْرِ صَدْرٍ وَغِلٍّ فِي قَلْبٍ، وَلَكِنَّهُمْ ظَنُّوا سَخَطاً عَلَيْهِمْ وَتَقْصِيراً لَهُمْ، وَقَدِ اسْتَغْفَرُوا اللَّهَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ، فَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ.

فَقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَلِأَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ ولِأَبْنَاءِ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ. يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ: أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَرْجِعَ غَيْرُكُمْ بِالشَّاءِ وَالنَّعَمِ، وَتَرْجِعُونَ أَنْتُمْ وَفِي سَهْمِكُمْ رَسُولُ اللهِ. قَالُوا: بَلَى رَضِينَا. قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) حِينَئِذٍ: الْأَنْصَارُ كَرِشِي وَعَيْبَتِي، لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِياً وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ شِعْباً لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ"([3])

 

التقشف في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله)

ومما يكشف عن ملامح هذا المنهج، ما ورد عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: "كَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يُفْطِرُ عَلَى الْأَسْوَدَيْنِ؟ قُلْتُ رَحِمَكَ اللهُ: وَمَا الْأَسْوَدَانِ؟ قَالَ: التَّمْرُ وَالْمَاءُ وَالزَّبِيبُ وَالْمَاءُ وَيَتَسَحَّرُ بِهِمَا"([4]) كما قالت عائشة "مَا زَالَتِ الدُّنْيَا عَلَيْنَا عَسِرَةً كَدِرَةً حَتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، فَلَمَّا قُبِضَ، صُبَّتِ الدُّنْيَا عَلَيْنَا صَبّاً"([5]). و"عن عائشة أنها قالت: كانت تأتي علينا أربعون ليلة، وما يوقد في بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) نار ولا مصباح، قيل لها: فبم كنتم تعيشون؟ فقالت: بالأسودين التمر والماء"([6]).

 

تناقض منهج الصحابة كما تكشف عنه عائشة

والغريب ان عائشة تكشف _من حيث تدري أو لا تدري_ عن أمرين في غاية الخطورة:

الأول: إن النبي (صلى الله عليه وآله) كان قد أمسك زمام الأمور، بكل قوة وشدة، كي لا تخضم أزواجه وقراباته مال الله خضم الإبل نبتة الربيع، فمع أن الثروات الهائلة كانت تصب على الرسول الأعظم صباً من كل الجهات من الغزوات والحروب والفتوحات وغيرها، وكانت ثروات مذهلة حقاً، إلا أنه (صلى الله عليه وآله) لم يسمح حتى لعائلته أن تعيش عيشة الأمراء، بل ولا عيشة الطبقة المتوسطة، بل "مَا زَالَتِ الدُّنْيَا عَلَيْنَا عَسِرَةً كَدِرَةً حَتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله)...".

الثاني: إن الدنيا صبت على عائشة ونظائرها بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) صبّاً، وكان ذلك خلافاً لمنهج رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لكن الانقلاب على الأعقاب كان شمولياً في كل الجهات، ومنها هذه الجهة، إذ حدث الانقلاب في طريق التعاطي مع ثروات البلاد، بمجرد أن قُبِضَ رسول الله (صلى الله عليه وآله). قال تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)([7]).

وقد استمر الانقلاب طوال فترة الخلفاء الثلاثة، حتى إذا رجع الأمر إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أعاد الأمور إلى نصابها الصحيح، فقسَّم بيت المال على عامة المسلمين، وساوى بين أعاظم الصحابة والقادة والساسة والمسؤولين وكبار القوم وبين عامة الناس، حتى ثار عليه أمثال طلحة والزبير وغيرهم، ممن اعتادوا على المفاضلة في العطاء وعلى قطائع عثمان وغيرها.

لو استمرت النهضة المحمدية لصارت الأرض فردوساً، ولكنهم انقلبوا على الأعقاب، والسبب في المعادلة واضح، فإن نهضة الرسول (صلى الله عليه وآله) الشاملة كان يجب لها أن تستمر بعد شهادته بقيادة وصيّه علي (عليه السلام) كي تترسخ دعائمها، وتؤتي أكلها وثمارها كاملة، فكان الواجب الاستمرار على هذا المنهج، حتى ينضج ويثمر كامل أثماره، لكن الانقلاب أطاح بكثير من المنجزات وبالعديد من البنى التحتية الأساسية لنهضة الأمة، ومنه التقشف العام والزهد، وصبّ كل شيء في طريق الهدف.

 

صمود القلة من الصحابة على المنهج النبوي

ولذا نجد في الاتجاه المقابل، أن الثلة الطيبة من الأقلية التي آمنت بالرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) قولاً وفعلاً، والتزمت بمنهجه سراً وجهراً، بقيت ملتزمة بهذا المنهج حتى بعد شهادة الرسول (صلى الله عليه وآله)، وتكشف عن ذلك روايات عديدة، ومنها الرواية التالية:

"تَحَسَّرَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، فَقِيلَ لَهُ: عَلَامَ تَأَسُّفُكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، قَالَ: لَيْسَ تَأَسُّفِي عَلَى الدُّنْيَا، وَلَكِنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) عَهِدَ إِلَيْنَا وَقَالَ: لِيَكُنْ بُلْغَةُ أَحَدِكُمْ كَزَادِ الرَّاكِبِ، وَأَخَافُ أَنْ نَكُونَ قَدْ جَاوَزْنَا أَمْرَهُ، وَحَوْلِي هَذِهِ الْأَسَاوِدُ، وَأَشَارَ إِلَى مَا فِي بَيْتِهِ. وَقَالَ: هُوَ دَسْتٌ وَسَيْفٌ وَجَفْنَةٌ"([8]).

والدست من الثياب: ما يلبسه الانسان ويكفيه لتردده في حوائجه، وقيل كلما يلبس من العمامة إلى النعل، والجمع "دسوت"، مثل فلس وفلوس([9])، والجفنة هي القصعة الكبيرة.

أي ان سلمان الذي مات بعد شهادة الرسول (صلى الله عليه وآله) بسنين، ورغم أنه كان حاكماً للمدائن (إيران والعراق) معاً، إلا أنه كان لا يملك إلا جفنة وطقم واحد من الثياب وسيف فقط، ومع ذلك كان يخشى أن لا يكون قد التزم بوصية رسول الله (صلى الله عليه وآله)!

ولو بقيت أزمّة الأمور بيد الإمام علي (عليه السلام)، وأمثال هؤلاء الصحابة، لاستمرت النهضة وأثمرت وأورقت وأينعت بأفضل الثمار، ولتحولت الأرض إلى الجنة التي وعدناها في زمن الظهور المبارك.

 

ريشة الزهراء ترسم لوحة شاملة للانقلاب على النبي وآثاره

وفي اللوحة التاريخية التحليلية التي ترسمها الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراء (عليها السلام)، نجد الصورة الكبرى الشاملة لما كان عليه أصحاب رسول الله، ولما صاروا عليه، ولما كان يجب عليهم أن يكونوا عليه، قالت الزهراء (عليها السلام):

"أَصْبَحْتُ وَاللهِ عَائِفَةً لِدُنْيَاكُنَّ قَالِيَةً لِرِجَالِكُنَّ، لَفَظْتُهُمْ بَعْدَ أَنْ عَجَمْتُهُمْ، وَشَنَأْتُهُمْ بَعْدَ أَنْ سَبَرْتُهُمْ، فَقُبْحاً لِفُلُولِ الْحَدِّ وَاللَّعِبِ بَعْدَ الْجِدِّ وَقَرْعِ الصَّفَاةِ وَصَدْعِ الْقَنَاةِ وَخَطَلِ الْآرَاءِ وَزَلَلِ الْأَهْوَاءِ، وَبِئْسَ (ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ)([10]). لَا جَرَمَ لَقَدْ قَلَّدْتُهُمْ رِبْقَتَهَا، وَحَمَّلْتُهُمْ أَوْقَتَهَا، وَشَنَنْتُ عَلَيْهِمْ غَارَهَا، فَجَدْعاً وَعَقْراً وَ(بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)([11]). وَيْحَهُمْ أَنَّى زَعْزَعُوهَا عَنْ رَوَاسِي الرِّسَالَةِ وَقَوَاعِدِ النُّبُوَّةِ وَالدَّلَالَةِ وَمَهْبِطِ الرُّوحِ الْأَمِينِ وَالطَّبِينِ بِأُمُورِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ (أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ)([12]). وَمَا الَّذِي نَقَمُوا مِنْ أَبِي الْحَسَنِ، نَقَمُوا مِنْهُ وَاللهِ نَكِيرَ سَيْفِهِ، وَقِلَّةَ مُبَالَاتِهِ بِحَتْفِهِ، وَشِدَّةَ وَطْأَتِهِ، وَنَكَالَ وَقْعَتِهِ، وَتَنَمُّرَهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ. وَتَاللهِ، لَوْ مَالُوا عَنِ الْمَحَجَّةِ اللَّائِحَةِ، وَزَالُوا عَنْ قَبُولِ الْحُجَّةِ الْوَاضِحَةِ، لَرَدَّهُمْ إِلَيْهَا، وَحَمَلَهُمْ عَلَيْهَا، وَلَسَارَ بِهِمْ سَيْراً سُجُحاً، لَا يَكْلُمُ خِشَاشُهُ، وَلَا يَكِلُّ سَائِرُهُ، وَلَا يُمَلُّ رَاكِبُهُ، وَلَأَوْرَدَهُمْ مَنْهَلًا نَمِيراً صَافِياً رَوِيّاً، تَطْفَحُ ضَفَّتَاهُ وَلَا يَتَرَنَّقُ جَانِبَاهُ، وَلَأَصْدَرَهُمْ بِطَاناً، وَنَصَحَ لَهُمْ سِرّاً وَإِعْلَاناً، وَلَمْ يَكُنْ يُحَلَّى مِنَ الْغِنَى بِطَائِلٍ، وَلَا يَحْظَى مِنَ الدُّنْيَا بِنَائِلٍ غَيْرَ رَيِّ النَّاهِلِ وَشُبْعَةِ الْكَلِّ، وَلَبَانَ لَهُمُ الزَّاهِدُ مِنَ الرَّاغِبِ وَالصَّادِقُ مِنَ الْكَاذِبِ، (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)([13]). (وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ)([14]). أَلَا هَلُمَّ فَاسْتَمِعْ، وَمَا عِشْتَ أَرَاكَ الدَّهْرَ عَجَباً (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ)([15]). لَيْتَ شَعْرِي، إِلَى أَيِّ سِنَادٍ اسْتَنَدُوا، وَعَلَى أَيِّ عِمَادٍ اعْتَمَدُوا، وَبِأَيَّةِ عُرْوَةٍ تَمَسَّكُوا، وَعَلَى أَيَّةِ ذُرِّيَّةٍ أَقْدَمُوا وَاحْتَنَكُوا، لَبِئْسَ الْمَوْلى‏ وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ وَبِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا، اسْتَبْدَلُوا وَاللَّهِ الذَّنَابَى بِالْقَوَادِمِ، وَالْعَجُزَ بِالْكَاهِلِ، فَرَغْماً لِمَعَاطِسِ قَوْمٍ (يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)([16]). (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ)([17]). وَيْحَهُمْ (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى‏ فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)([18]). أَمَا لَعَمْرِي لَقَدْ لَقِحَتْ فَنَظِرَةٌ رَيْثَمَا تُنْتَجُ ثُمَّ احْتَلَبُوا مِلْ‏ءَ الْقَعْبِ دَماً عَبِيطاً وَذُعَافاً مُبِيداً، هُنَالِكَ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ، وَيُعْرَفُ التَّالُونَ غِبَّ مَا أُسِّسَ الْأَوَّلُونَ‏ ثُمَّ طِيبُوا عَنْ دُنْيَاكُمْ أَنْفُساً وَاطْمَئِنُّوا لِلْفِتْنَةِ جَأْشاً وَأَبْشِرُوا بِسَيْفٍ صَارِمٍ وَسَطْوَةِ مُعْتَدٍ غَاشِمٍ وَبِهَرْجٍ شَامِلٍ وَاسْتِبْدَادٍ مِنَ الظَّالِمِينَ يَدَعُ فَيْئَكُمْ زَهِيداً وَجَمْعَكُمْ حَصِيداً فَيَا حَسْرَةً لَكُمْ وَأَنَّى بِكُمْ وَقَدْ عَمِيَتْ عَلَيْكُمْ أَ نُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ..."([19]).

 

زهد ابنة الرسول، وقوله (صلى الله عليه وآله) "إِنَّ ابْنَتِي لَفِي الْخَيْلِ السَّوَابِقِ"

 وعوداً إلى نهضوية الرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته وأصحابه، نستحضر القصة التالية ذات الدلالات الشاملة العميقة المتعددة الأبعاد:

"مِنْ كِتَابِ زُهْدِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) لِأَبِي جَعْفَرٍ أَحْمَدَ الْقُمِّيِّ، أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله): (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ)([20]). بَكَى النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) بُكَاءً شَدِيداً، وَبَكَى صَحَابَتُهُ لِبُكَائِهِ‏، وَلَمْ يَدْرُوا مَا نَزَلَ بِهِ جَبْرَئِيلُ (عليه السلام)، وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ مِنْ صَحَابَتِهِ أَنْ يُكَلِّمَهُ.

وَكَانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) إِذَا رَأَى فَاطِمَةَ (عليها السلام) فَرِحَ بِهَا، فَانْطَلَقَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ إِلَى بَابِ بَيْتِهَا، فَوَجَدَ بَيْنَ يَدَيْهَا شَعِيراً، وَهِيَ تَطْحَنُ فِيهِ وَتَقُولُ: (وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى‏)([21]). فَسَلَّمَ عَلَيْهَا وَأَخْبَرَهَا بِخَبَرِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) وَبُكَائِهِ، فَنَهَضَتْ وَالْتَفَّتْ بِشَمْلَةٍ لَهَا خَلِقَةٍ قَدْ خِيطَتْ فِي اثْنَيْ عَشَرَ مَكَاناً بِسَعَفِ النَّخْلِ، فَلَمَّا خَرَجَتْ نَظَرَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ إِلَى الشَّمْلَةِ وَبَكَى. وَقَالَ: وَاحُزْنَاهُ إِنَّ بَنَاتِ قَيْصَرَ وَكِسْرَى لَفِي السُّنْدُسِ وَالْحَرِيرِ وَابْنَةُ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) عَلَيْهَا شَمْلَةُ صُوفٍ خَلِقَةٌ، قَدْ خِيطَتْ فِي اثْنَيْ عَشَرَ مَكَاناً.

فَلَمَّا دَخَلَتْ فَاطِمَةُ عَلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ سَلْمَانَ تَعَجَّبَ مِنْ لِبَاسِي، فَوَ الَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا لِي وَلِعَلِيٍّ مُنْذُ خَمْسِ سِنِينَ إِلَّا مَسَكُ([22]) كَبْشٍ نَعْلِفُ عَلَيْهَا بِالنَّهَارِ بَعِيرَنَا، فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ افْتَرَشْنَاهُ، وَإِنَّ مِرْفَقَتَنَا لَمِنْ أَدَمٍ([23]) حَشْوُهَا لِيفٌ. فَقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) يَا سَلْمَانُ: إِنَّ ابْنَتِي لَفِي الْخَيْلِ السَّوَابِقِ. ثُمَّ قَالَتْ: يَا أَبَتِ فَدَيْتُكَ مَا الَّذِي أَبْكَاكَ. فَذَكَرَ لَهَا مَا نَزَلَ بِهِ جَبْرَئِيلُ مِنَ الْآيَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ..."([24]).

 

دروس وعِبَر في رواية سلمان

وفي هذه القصة المذهلة في كافة أبعادها، عِبَر مفتاحية كثيرة، ولكن سنقتصر على موطن الشاهد، وبعض العِبر والدروس فقط، إذ إن الذي يبدو:

1- إن سلمان قصد بتصريحه ذلك: "وَاحُزْنَاهُ إِنَّ بَنَاتِ قَيْصَرَ وَكِسْرَى لَفِي السُّنْدُسِ وَالْحَرِيرِ وَابْنَةُ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) عَلَيْهَا شَمْلَةُ صُوفٍ خَلَقَةٌ قَدْ خِيطَتْ فِي اثْنَيْ عَشَرَ مَكَاناً". أن تبلغ هذه الصورة النموذجية للعالم كله، لتكون حجة على كافة خلائق الله، وانموذجاً لكافة القادة والمسؤولين وبناتهم وأقربائهم.

2- وإن الزهراء (عليها السلام) تعمدت أن تعلن للملأ أمام أبيها المصطفى، أنها وعلي كانا كذلك: "فَوَ الَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا لِي وَلِعَلِيٍّ مُنْذُ خَمْسِ سِنِينَ إِلَّا مَسَكُ كَبْشٍ نَعْلِفُ عَلَيْهَا بِالنَّهَارِ بَعِيرَنَا فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ افْتَرَشْنَاهُ وَإِنَّ مِرْفَقَتَنَا لَمِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ". ليكون درساً بليغاً لكل الأجيال على مر الأزمان، وليحظى ذلك بتوقيع الرسول الأعظم وتصديقه، كي لا يبقى مجال لتكذيب المرجفين وتشكيك المشككين، وكي يكون فيه أكبر العبرة والعظة للنهضويين.

3- وإن الرسول (صلى الله عليه وآله) صرح: "يَا سَلْمَانُ إِنَّ ابْنَتِي لَفِي الْخَيْلِ السَّوَابِقِ". كي تكون شهادة صريحة واضحة لها بذلك على مر التاريخ.

 

الفرق بين التقشف الطوعي والتقشف القسري

وبذلك وغيره نعرف احدى الفوارق الرئيسية بين فاطمة الزهراء (عليها السلام) من جهة، وبين أمثال عائشة من جهة أخرى، فلقد كان فقر عائشة قسرياً لا يد لها فيه ولا حيلة، ولم يكن طوعياً، وقد كشف عن ذلك موقفها من الثروة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حيث صبت عليها الدنيا صباً، فاستجابت لها أية استجابة!

أما الزهراء وعلي (عليهما السلام) فقد كان زهدهما طوعياً، إذ كانت أسهم علي (عليه السلام) من نصيبه، من أسهم الغزاة والمجاهدين كبيرة جداً، ولو شاء أن يعيش بها وأهله عيشة مميزة مادياً لفعلوا ذلك، لكنهم لم يفعلوا أبداً، بل لو أراد (عليه السلام) أن يعمل بعض الوقت ليدرّ على أهله بالرزق دراً لأمكنه، لكنه أبى إلا تجنيد كل الطاقات والثروات في سبيل إعلاء راية (لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّه) في الأرض.

والذي يدل أيضاً على الطوعية، أن الزهراء (عليها السلام) كانت تنفق حتى القليل الضئيل مما تملك، كما مضى في رواية سابقة، وكما تدل عليه عشرات الروايات، بل وتشهد له آية (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً)([25]).

ويكشف عن ذلك كله، أن علياً وأصحابه الأوفياء كسلمان وغيره لم يغيروا بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) سيرتهم ومسيرتهم، بل بقوا متقشفين زهاداً عكس ما صنعت عائشة وعثمان ومعاوية والكثير غيرهم من الصحابة!

وهذه الرواية تعطينا تصوراً شاملاً عن المدينة الفاضلة التي أرسى دعائمها الرسول (صلى الله عليه وآله) والتي لو استمرت لكانت الجنة الحقيقية على وجه الأرض.

 

النهضة على مستوى الأفراد وعلى مستوى الأمم

ثم إن النهضة قد تكون على مستوى الفرد، وقد تكون على مستوى الأسرة أو الحزب أو العشيرة، وقد تكون على مستوى الشعب أو الأمة.

وعلى كل التقادير، فإن الشرط الأساسي لنجاح النهضة هو الزهد فيما عدا الهدف الذي اختطه الفرد أو التجمع لنفسه، فإذا كان الهدف رسالياً سامياً كان التقشف والعيش عيشة الفقراء أو الإعراض عن الثروة والماديات والفقر بنفسه هو الطريق الأقصر والأسلم والأسمى للوصول إلى الأهداف.

 

نهضوية العلامة الأميني وتضحياته

وفي حياة وسلوك ومواقف العلامة الأميني، صاحب الغدير، العبرة البالغة والدلالة الأكيدة على ذلك، فلقد جنّد هذا الرجل العظيم كل طاقاته وقواه نحو نهضة ثقافية _عقدية_ موضوعية، حتى أنه كان لا ينام في اليوم والليلة في أحايين كثيرة إلا ثلاث أو أربع ساعات، وعندما أنهى موسوعة الغدير الخالدة، وعزم على طباعتها لم يجد من يتكفل النفقات رغم كثرة أولئك الذين يدّعون محبة أمير المؤمنين (عليه السلام)، بل وعشقه والذوبان فيه! لكن العلامة الأميني لم يكن ليترك عقبة المال تحول دون النجاحات الكبرى، ودون إنجاز هذا العمل النهضوي الخالد، فقرر أن يبيع داره ليطبع ذلك السفر الكبير. وهكذا صنع وطبع الغدير في 25 ألف دورة تتكون كل دورة من 11 مجلداً!

وهكذا يكون النهضويون! فأية قيمة للمال إذا لم يقع في طريق الهدف الأسمى؟ وكما يمكن العيش في دار مملوكة يمكن العيش في دار مستأجرة! وكما يمكن أن تعيش عيشة الأمراء، يمكنك أن تعيش عيشة الفقراء، وما الضير في أن تعيش عيشة الفقراء إذا كان ذلك، أسرع إيصالاً للهدف، بل إذا كان هو الطريق للوصول إليه، بأن تبذل كل شيء لأجله؟

والغريب في الأمر، أن أحد تجار طهران أطلع بعد ذلك على إنجازات العلامة الأميني، فاتصل به وأخبره بأنه سيتكفل كافة نفقات أعماله المتنوعة (من شراء النسخ الخطية الغالية.. إلى غيره)، وقد وفى بوعده، فأمد الأميني بالمال، وبدأ يبيع ما يملك ليكفل له ذلك، حتى أنه لعله باع داره أيضاً! والأغرب أنه، بحسب المنقول، اشترط على الأميني أن لا يذكر اسمه لأحد!

وهكذا يكون المجاهدون والنهضويون وهكذا يجب علينا أن نكون أيضاً!

وإذا كان الشخص الواحد نهضوياً حقاً، كما كان العلامة الأميني فترك بذلك أعظم الآثار، فما بالك بما لو كان كافة الشيعة نهضويين؟ بل لو كان الملايين منهم أو حتى مئات الألوف منهم نهضويين؟ ألم يكن وجه الأرض يتغير حينئذٍ، وألم يكن نور الإسلام والولاية وقيم السماء والرسالة ومعارف أهل البيت تملأ وجه الأرض عندئذٍ؟

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

www.m-alshirazi.com

-----------------------------------------

* * من سلسلة محاضرات في التفسير والتدبر، لسماحة آية الله، السيد مرتضى الحسيني الشيرازي حفظه الله تعالى، ألقيت في يوم الأربعاء 21 رجب 1438هـ  بمدينة النجف الأشرف.

تحرير: www.alshirazi.com

-----------------------------

([1]) سورة هود: آية 61.

([2]) أو من شرائح واسعة، وذلك بحسب أن النهضة تتوقف على مساهمة الجميع أو الأكثرية أو مجرد شرائح واسعة من المجتمع.

([3]) الشيخ المفيد: الإرشاد، جزءان في مجلد واحد، الناشر: المؤتمر للشيخ المفيد – قم، 1413هـ، ج1 ص145.

([4]) الشيخ الطوسي، التهذيب، عدد الأجزاء: 10، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج4 ص198.

([5]) الحسن بن الفضل الطبرسي، مكارم الأخلاق، دار الشريف الرضي – قم، 1412هـ، ص29.

([6]) سنن ابن ماجه.

([7]) سورة آل عمران: آية 144.

([8]) أحمد بن فهد الحلي، عدة الداعي، دار الكتاب الإسلامي – قم، 1407هـ، ص115.

([9]) الشيخ فخر الدين الطريحي، مجمع البحرين: ج2 ص30.

([10]) سورة المائدة: آية 80.

([11]) سورة هود: آية 44.

([12]) سورة الزمر: آية 15.

([13]) سورة الأعراف: آية 96.

([14]) سورة الزمر: آية 51.

([15]) سورة الرعد: آية 5.

([16]) سورة الكهف: آية 104.

([17]) سورة البقرة: آية 12.

([18]) سورة يونس: آية 35.

([19]) أبو منصور، أحمد بن علي الطبرسي، الاحتجاج، جزءان في مجلد واحد، نشر المرتضى – مشهد، 1403هـ، ج1 ص108.

([20]) سورة الحجر: آية 43-44.

([21]) سورة القصص: آية 60، وسورة الشورى: آية 36.

([22]) والـمَسك: بفتح الميم هو الجلد أي جلد الخروف والجمع مسوك. (مجمع البحرين: ج4 ص204).

([23]) وأَدَم: بفتحتين جمع أديم وهو الجلد المدبوغ. (مجمع البحرين: ج1 ص54).

([24]) السيد علي بن موسى بن طاووس، الدروع الواقية، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، ص274-276. ونقله المجلسي في بحار الأنوار ج43 ص87.

([25]) سورة الإنسان: آية 8 – 9.

1/ شوال/1439هـ