العلم! العلم! العلم!

 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.

نوم مع علم خير من صلاة مع جهل

هناك حديث نقل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، صغير العبارة، كبير المحتوى والمعنى؛ فلقد روي عنه (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: ((نوم مع علم خير من صلاة مع جهل)) [1].

إنّ الهدف من خلق الإنسان هو العبادة؛ يقول الله تعالى: ((وما خلقتُ الجنَّ والإنسَ إلاّ ليعبدونِ)) [2].

والصلاة رأس كلّ العبادات وأهمها، بل هي العبادة التي ((إن قُبلت قُبل ما سواها، وإن رُدّت ردّ ما سواها)) من الطاعات والعبادات، كما في الحديث الشريف [3].

ومع ذلك نرى رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: ((نوم مع علم خير من صلاة مع جهل))! فكيف يكون ذلك؟

إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو الذي يعرّف لنا العبادة، ويعرّفنا بالصلاة وشأنها، ومنطقه منطق القرآن والإسلام والواقع، وها هو يخبرنا بنفسه أنّ نوم العالِم خير من الصلاة (وهي أهمّ الطاعات والعبادات) إن كانت مع جهل.

حقّاً لو أنّ هذا التعبير ـ عن تفضيل العلم على الصلاة هكذا ـ لم يرد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلى لسانه، لما أمكن لأيّ عالِم ـ غير أئمة أهل البيت عليهم السلام ـ أن يتفوّه بمثله أبداً؛ إذ كيف يكون النوم (مع أنّ النائم لا يعمل شيئاً) خيراً من الصلاة (وهي رأس العبادات وأهمها)؟

نعم، لو كانت الصلاة باطلة، فمن الواضح أنّ عدمها خير من وجودها، والنوم ترك أي عدم، ولكنّ الحديث لم يقيّدها بالبطلان أو عدم القبول وما أشبه، بل فضّل النوم ـ إن كان مع علم ـ على مطلق الصلاة ـ إن كانت مع جهل ـ.

نوم العالِم حسنة والجهل في كلّ أحواله سيئة

إنّ نوم العالِم ليس مجرد ترك بل هو مقدّمة وجود؛ لأنّ العالِم إذا نام استراح، واستراحته هذه تمثّل مقدّمة للخدمة والهداية وإرشاد الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور، ومن الجحيم إلى الجنّة. فنوم العالِم حسنة إذاً.

أمّا الصلاة مع جهل فكثيراً ما تكون سيئة، لأنّ الجاهل إذا لم يصلّ الصلاة الواجبة فتلك سيئة، وإذا صلاها باطلة فسيئة أيضاً؛ يستوي في ذلك الجهل عن تقصير أو قصور.

فصحيح أنّ القاصر لا شيء في حقّه، لأنّ من أصول الإسلام العدل، والله سبحانه وتعالى عادل، ومن عدله أن لا يعذّب القاصر، فمن وُلد في مكان أو زمن أو ظرف بحيث كان قاصراً لا يتوجه خطاب ولا عقاب بالنسبة إليه، أي لا يُعذَّب ولا يُعاقَب ولا تكتب له سيئة.. ولكن نوم العالِم أفضل من صلاته (أي صلاة الجاهل القاصر) أيضاَ.

والجاهل المقصّر كالعالِم العامد، فلننتبه جيداً

أمّا الجاهل المقصّر فقد ادّعى المحقّقون الأعاظم من الفقهاء والأصوليين الإجماع على أنّ حكمه حكم العالِم العامد خطاباً وعقاباً.

فكما أنّ العالِم العامد (أي الذي يعمل عملاً ويعلم أنّه حرام مثلاً)، لا إشكال عقلاً في توجّه الخطاب أو النهي إليه، فكذلك الجاهل المقصّر يتوجّه إليه الخطاب والعقاب دون أن يكون إشكال فيه عقلاً.

ولا يمكن أن يوجد بيننا نحن ـ طلبة العوم الدينية ـ جاهل قاصر، ولكن قد يوجد بيننا ـ مع احترامي لكم ـ الجاهل المقصّر. فإنّه لا يقصد بالجاهل المقصّر مَن كان مستواه الدراسي أوطأ أو كانت معلوماته أقل، بل مَن يجهل أحكام الله، فيعمل الحرام وهو لا يعلم أنّ عمله هذا حرام.

فيا أيها الأخوة! مادام المؤمن باذلاً عمره في سبيل الله سبحانه وتعالى.. يعطي وقته وساعاته ودقائق حياته في طاعة الله مصلياً أو صائماً أو حاجاً أو معتكفاً أو قارئاً للقرآن... فليخصّص الحظّ الأوفر للعلم، وأعني به العلم بأصول الدين وأحكام الإسلام وأخلاقه وآدابه.

وعلينا بعلم الأخلاق أيضاً فليست أخلاق الإسلام وآدابه كلّها لا اقتضائيات ـ حسب الاصطلاح العلمي ـ أي ليست كلّها مستحبّات ومكروهات فقط بل إنّ فيها الواجبات والمحرّمات أيضاً. فهذا كتاب جامع السعادات ـ وهو كتاب أخلاقي ـ وذلك باب الأخلاق في البحار وتلك كتب الأخلاق الأخرى راجعوها تجدوها مليئة بالواجبات والمحرّمات.

إذا عرفتم مكانة العلم وموقعه وأنّ من الأخلاق واجبات ومحرّمات فاعلموا أنّ الأخلاق جزء من العلم المطلوب أيضاً.

ورع الشيخ عبد الكريم الحائري وعلمه

ولكي تدركوا أهمّية العلم وكيف أنّ الـ ((نوم مع علم خير من صلاة مع جهل))، أنقل لكم الحكاية التالية.

لا يزال بين ظهرانينا اليوم مئات الأشخاص ممن أدركوا الشيخ عبد الكريم الحائري مؤسس الحوزة العلمية في قم ـ وهم من الشيوخ الذين تجاوزت أعمارهم السبعين ـ وينقل بعضهم عنه قصصاً مباشرة أي دون واسطة.

والقصة التي سأرويها لكم سمعتها من أحد العلماء الذين عاصروا الشيخ عبد الكريم الحائري، وربما سمعتها من أكثر من واحد. وهذه القصة وأمثالها تنفعنا نحن، باعتبارنا في طريق العلم، عسى أن تكون نبراساً يضيء لنا الطريق فلا نكون من الجاهلين المقصّرين.

حدّثني العالِم قال: نزل أحد أصدقاء الشيخ (المرحوم عبد الكريم الحائري) ضيفاً عليه في أحد الأيام، ولم يكن معهما ثالث إلاّ الله؛ ولذلك فإنّ ناقل القصة الأوّل لا يعدو أن يكون الضيف أو الشيخ نفسه أو كليهما.

يقول الراوي: مُدّ خوان متواضع وجاء الشيخ بما كان عنده من طعام عادي وبسيط في بيته، وأخذ الضيف يأكل والشيخ عبد الكريم كذلك. ولكن فجأة سحب الشيخ يده للحظات وتأمل، ثم مدّ يده ثانية إلى الطعام واقتطع قطعة من اللحم، وقام ودخل إلى الدار ثم عاد بعد ذلك واعتذر للضيف قائلاً:

لقد انتبهت فجأة أنّ كلّ اللحم الذي اشتريته اليوم قد طهته زوجتي ووضعته أمامنا. (تعلمون أنه لم يكن في تلك الأيام ثلاّجات أو مجمدات ليكون عندهم طعام آخر في البيت).

يقول الشيخ: ولما كانت الزوجة واجبة النفقة عليَّ، فقد أحسست على الفور أنّي قد وقعت في مشكلة، فقلت: أن أعتذر للضيف خير لي من أن أقع في إشكال شرعي؛ كان الخوف الذي تملّكني من الناحية الشرعية، هو أن أترك زوجتي هكذا من دون طعام، لأنّ هذا العمل خلاف للمروءة، بل لعله ترك واجب. قلت مع نفسي: صحيح أنها هي التي قامت بذلك العمل بنفسها وقدّمت لنا كلّ الطعام، ولكن ينبغي لي أن أكون منصفاً.

والآن انظروا إلى ورع الشيخ وكيف أنقذه علمه! فلو كان غيره لقال: إنّ هذا تصرّف مشين. فمن المخجل والمخزي أن يرفع أحدنا الطعام من أمام ضيفه ليذهب به إلى أهله.

كلّ مستحبّ محدود بعدم ترك واجب أو ارتكاب محرّم

أقول: أجل، إنّ الكرم خصلة محمودة، وكذا السخاء والإنفاق وإقراء الضيف، فكلّ ذلك عمل مقبول ومحبّذ، ولكن إلى حيث لا يؤدي إلى ترك واجب أو ارتكاب محرّم. ولعلّ كثيراً منا لا يعلم أنّ مثل التصرّف الذي قام به الشيخ قد يكون واجباً. فها هنا يأتي دور العلم لينفع صاحبه ويقول له: إنّ إقراء الضيف محدود بعدم ترك الواجب، ولو أنّ أحداً حلّ به ضيف ثم قام بجلب طعام مَن تجب نفقته عليه وقدّمه بين يدي الضيف من دون رضا واجب النفقة ووجود طعام بديل له، فإنّ إقراءه هذا غير جائز، وهذا ما يقوله كلّ مراجع التقليد. سلوا أيّ مرجع شئتم لو أنّ المرء قدّم طعام واجب نفقته الذي لا يملك غيره ومن دون رضاه للضيف فهل يعدّ عمله هذا جائزاً، سيخبركم أنه غير جائز قطعاً.

والآن هل رأيتم كيف أنّ علم الشيخ الحائري نفعه. فهذا هو الذي نومه خير من صلاة مع جهل، لأنّ الإنسان الذي عنده علم لا يعمل الحرام في سبيل ترك مكروه، ولا يترك واجباً من أجل الإتيان بعمل مستحبّ. وهو يتحمّل ما يُخجل ولا يعمل الحرام. ولاشكّ أنّ الشيخ عبد الكريم قد خجل وشعر بالحرج ومن المؤكد أنّ الأمر لم يكن عليه يسيراً، ولكنه مع ذلك لم يبال بهذه الأمور، لأنّ ما هو أخطر منها في نظره أن يقع في معصية مولاه عز وجل. وكان لعلمه الأثر المهم في ذلك، وإلاّ فلو كان جاهلاً بالقضية لما تصرّف هكذا.

فصدق رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث يقول: ((نوم مع علم خير من صلاة مع جهل)).

معنى وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون

يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ((..... وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون)) [4].

صحيح أنّ صدر الآية وردت في الظالمين، ولكن ثمة تفاسير تقول: إنها في فريق من الناس أيضاً، يظنون أعمالهم في الدنيا حسنات لكنها تبدو لهم في الآخرة سيئات. ومن الأمثلة على ذلك إقراء الضيف بطعام واجب النفقة من دون رضاه أو وجود البديل. أرأيتم إلى الإقراء ـ المظنون أنه حسنة ـ كيف عاد سيئة؟!.

وكان ذلك مثالاً واحداً تبرز فيه أهمية العلم وتفضيل نوم صاحبه على الصلاة مع جهل، وإلاّ فإنّ أكثر أعمال الجاهل سيئات. فلو أخذنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من باب المثال أيضاً، لرأينا الشيء نفسه؛ لأنّ الجاهل إذا لم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر ـ وكان واجباً عليه ـ فقد ارتكب سيئة، وإن أمَر ونهى فلا يبعد أن يكون أمره ونهيه سيئة، لأنه لا يعلم الكيفية والوقت والأسلوب اللازم للأمر والنهي الواجبين عليه. بل قد يقول عن المكروه إنه حرام، أو عن المستحب إنه واجب، فيصدر منه ـ والعياذ بالله ـ الحكم بما لم ينزّل الله.

لقد شاهدت أحد الأشخاص يعظ في محضر أحد مراجع التقليد، فذكر مكروهاً من المكروهات وقال عنه إنه حرام اعتماداً على رواية طالعها. فكان من بين الحضور رجل كبير السن يعرف شيئاً من المسائل الشرعية انتابه الشك، فذهب إلى المرجع وسأله عن الموضوع، فقال له المرجع: كلاّ إنّ هذا الأمر مكروه وليس حراماً. فجاء الرجل إلى المتكلّم الذي كان يرشد الناس وقال له: لقد سألت المرجع وأخبرني أنّ ما حدّثت عنه أنه حرام ليس حراماً بل مكروه.

فتأثر ذلك الواعظ وجاء إلى المرجع وعاتبه بأنّ كرامته ذهبت أمام ذلك الشخص لإخباره بخلاف حديثه.

عند ذلك قال المرجع: لقد فكّرت في كلامك ورأيت أنه خلاف الإجماع أي أنّ المسألة لم تكن خلافية بأن يقول أحد العلماء بكراهيتها ويقول آخر بحرمتها بل لم يقل أحد إنه حرام على الإطلاق.

وهنا أجاب الشخص: لكنّي وجدت رواية تنهى عن ذلك.

فقال له المرجع: ليست كلّ رواية فيها نهي، فهي دالّة على الحرمة. إنّ العلماء والمجتهدين يتعبون أنفسهم عشرات السنين لكي يعرفوا هل النهي الفلاني يدلّ على الحرمة أم لا، وهل الأمر الفلاني دالّ على الاستحباب أم الوجوب.

وكان هذا مثالاً لمن يتصوّر أنه محسن مع أنّ عمله عين الإساءة، ونحن نرجو أن يكون ذلك الواعظ ـ وقد توفّي رحمه الله ـ من القاصرين.

أما نحن فلا أتصور أن يوجد بيننا جاهل قاصر بعد كلّ هذا، وإذا وُجد فهو مقصّر لا قاصر، والجاهل المقصّر ـ حسب أعاظم الفقهاء والأصوليين والمحقّقين ـ كالعالِم العامد خطاباً وعقاباً. فإن لم يأت بالواجب فتلك سيئة، وإن أتى به ولكن مع المنافيات ـ غير عالم بها حتى وافاه الأجل دون أن يتعلّمها ـ فتلك سيئة أيضاً.

ومن هنا يتّضح لنا بعض الشيء قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله): ((نوم مع علم خير من صلاة مع جهل)).

صالح بن سهل وما أخذه من الإمام حياءً

تأمّل في هذا الحديث الصحيح الأعلائي ـ على حد تعبير بعض العلماء ـ.

فإنّ الكليني يروي هذا الحديث عن علي بن إبراهيم عن أبيه إبراهيم بن هاشم. فالسلسلة هؤلاء الثلاثة فقط: الكليني، وعلي بن إبراهيم، وأبوه إبراهيم الذي ينقل القصّة التي شهدها بنفسه في مجلس الإمام الجواد (عليه السلام)، يقول:

((... صالح بن محمد بن سهل وكان يتولى له الوقف بقم، فقال: يا سيدي اجعلني من عشرة آلاف في حل فإنّي أنفقتها. فقال له: أنت في حل، فلمّا خرج صالح قال أبو جعفر عليه السلام: أحدهم يثب على أموال حقّ آل محمد وأيتامهم ومساكينهم وفقرائهم وأبناء سبيلهم فيأخذه ثم يجيء فيقول: اجعلني في حل، أتراه ظن أنّي أقول لا أفعل، والله ليسألنّهم الله يوم القيامة عن ذلك سؤالاً حثيثاً)) [5].

انظر كيف أنّ الإمام المعصوم (عليه السلام) يقول له ـ في رواية صحيحة ـ: ((أنت في حلّ)) ثم يخبر أصحابه أنه لا فائدة من ذلك. لماذا؟ الجواب: لأنّ الرجل لا يخلو إما أن يكون عالِماً أو جاهلاً مقصّراً، ولا يمكن أن يكون غير ذلك. وما أخذه من الإمام إنّما أخذه حياءً (أتراه ظن أنّي أقول لا أفعل).

المهم أنّ المطلوب هو العلم. فإن الإنسان لا يدري بماذا سيُبتلى وكيف ينبغي له أن يتصرّف وكيف يتحدّث لئلاّ يكون من الذين ((بدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون)) [6]، فينفق ويتصوّر إنفاقه حسنة، أو يكتب أو يخطب ويتصوّرهما حسنة ثمّ ينكشف له بعد ذلك أنّ أعماله كلها كانت سيئات. ونحن أهل العلم أَولى بالالتفات والانتباه إلى هذا الأمر الخطير.

الحسين بن روح وخوفه من الجواب دون علم

لقد كان الحسين بن روح (رضوان الله تعالى عليه) من نوّاب الحجّة عجّل الله تعالى فرجه الشريف. سأله بعض الشيعة عن الشلمغاني وكان عالِماً أيضاً، ولكنه ورد النهي عن المعصوم (عليه السلام) في اتّباعه، بل ورد عن الإمام الحجّة (عليه السلام) التحذير منه في قصّة لا يعنينا ذكرها الآن.

سئل الحسين بن روح عن كتب الشلمغاني بعدما ذُمّ وخرجت فيه اللعنة فقيل له: فكيف نعمل بكتب ابن أبي العزاقر وبيوتنا منها مليء؟ فقال (الحسين بن روح): ((أقول فيها ما قاله أبو محمد الحسن بن علي ـ يعني الإمام العسكري ـ صلوات الله عليهما وقد سئل عن كتب بني فضال فقالوا: كيف نعمل بكتبهم وبيوتنا منها مليء؟ فقال عليه السلام: خذوا بما رووا وذروا ما رأوا)) [7]. {أي إذا رأيتم روايات رووها عنّا فاعملوا بها، أما آراؤهم وفتاواهم فذروها}.

بعد ذلك ـ وهنا محل الشاهد ـ سأل السائل الحسين بن روح وقال: هذا منك أو من الإمام عليه السلام؟

وهنا أطلق (رضوان الله عليه) في الجواب عبارة عظيمة جداً تناسب مقامه الرفيع، وقال: ((لئن أخر من السماء فتخطفني الطير أو تهوي بي الريح من مكان سحيق أحب إلي من أن أقول في دين الله برأيي و من عند نفسي بل ذلك من الأصل و مسموع من الحجة صلوات الله و سلامه عليه)) [8].

أقول: فهل يُعذر بعد ذلك مَن يقول بجهل مقصّراً؟ كلاّ إنه ليس بمعذور.

إننا بحاجة إلى تعبئة في أصول الدين

إنّ كثيراً من المطالب المهمّة في أصول الدين قد تغيب على كثير منا.

نقل لي أحدهم ـ ولا أرى من المناسب أن أذكر درجته العلمية، وهو الآخر قد توفّي رحمه الله ـ قال: سألني أحد الناس في مكان ما يوما وقال: ما هو الدليل على وجود الله سبحانه وتعالى؟ يقول: فكّرت قليلاً ثم رأيت أنه لا ينبغي أن أتحدث هكذا من دون علم ثم يظهر للشخص أنني لم أكن أعرف شيئاً، فخلّصت نفسي منذ البداية وقلت: إنّ هذا ليس من اختصاصي!

والآن هل هذا يليق برجل العلم؟ أليس من واجباته الأمر بالمعروف وإرشاد الجاهل؟ أم ليس وجود الله تعالى أساس كلّ الدين وأصل أصوله؟

ثقوا أنّ كثيراً من مطالب أصول الدين نحتاج إلى تعلّمها سواء بالدراسة أو المطالعة أو المباحثة، وكذا الحال بالنسبة لكثير من الأحكام الشرعية.

إننا اليوم بأمسّ الحاجة إلى تعبئة علمية حتى لمعرفة كثير من الأحكام الشرعية التي هي محلّ ابتلائنا أيضاً، سواء في عملنا الشخصي أو في مقام الهداية والإرشاد وتعليم الأحكام، بله مسائل هداية الضلاّل وأصحاب الديانات والمذاهب الباطلة والأفكار المنحرفة.. فهذا كلّه من الواجبات العينية.

أطلبوا العلم ولو بالصين

لقد ورد في الحديث المأثور عن النبي (صلى الله عليه وآله) في كتب الفريقين، وهو موجود في البحار وغيره، قوله صلّى الله عليه وآله: ((أطلب العلم ولو بالصين)) [9].

وتعلمون المسافة بين الحجاز والصين، وصعوبة قطعها خاصة في مثل تلك الأيام؛ بل ينقل إنه حتى ما قبل بضع مئة سنة كان على المسلم الذي يريد الحج من الصين أن يخصص مدة سنتين تستغرقها سفرته إلى بيت الله الحرام. هذا بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) بمئات السنين فكيف بزمانه صلّى الله عليه وآله؟

هذا ولا يكفي أحدنا ـ لكي يصدق عليه أنه يطلب العلم ـ أن يقتصر على الدرس أو التدريس قليلاً، وإن كان هذا لا بأس فيه، بل على المرء أن يتعلّم إلى جنب دروسه، الحلال والحرام وأصول الدين والأخلاق والآداب الإسلامية.

كتب الأخلاق مشحونة بالفرائض

والأخلاق الإسلامية ليست لااقتضائية حسب الاصطلاح العلمي. فكثير مما يعبّر عنه اصطلاحاً بالأخلاق هو من المحرّمات فإنّ التكبّر والعُجب مثلاً ليسا من المكروهات، بل هما من المحرّمات، وكذلك الرياء والمراء، وهو الجدال بالباطل.

فمثلاً لو قال أحدنا كلمة وكانت حقاً مئة في المئة وكان يعلم أنها كذلك ثم عارضه أحد فنوى ردّه، فإن كان ردّه لإثبات أنّ قوله هو الصحيح، فهذا هو المراء الباطل الذي أفتى جمهرة من أعاظم العلماء بحرمته، وهكذا يكون إثبات الحقّ حراماً إن كان بهذه النية، إلاّ أن يكون الردّ بهدف إثبات الحقّ نفسه، فلا خلاف في صحّته بل قد يكون واجباً عينياً.

وهنا يتبيّن أهمية العلم وكيف أنّ النوم مع علم خير من صلاة على جهل. فهذه هي من المسائل الأخلاقية. ولذا لا ينبغي أن نضع درس الأخلاق جانباً بذريعة أنه يتناول المستحبّات والمكروهات.

لقد ذكرت لأحدهم مرة، عن كتب الأخلاق، فقال لي: أنا مشغول بالفرائض. فقلت له: وكتب الأخلاق مشحونة بالفرائض.

لنزيد من أوقاتنا ولننتهز كلّ فرصة في سبيل العلم

فلنخصّص من أوقاتنا وراحتنا ومن أعمالنا الأخرى وبأقصى ما نستطيع لتعبئة أكثر في هذا المجال، و موسم الدرس مناسبة جيدة، والتسهيل من الله تعالى.

لننتهز كلّ فرصة ولا نضيّع حتى دقيقة واحدة من حياتنا؛ كأن نحمل معنا الرسالة العملية التي قرأناها في أيام شبابنا من أولها إلى آخرها. فمن الممكن أن لا نذكر كثيراً منها أو ثمّة أمور غير ملتفتين ولا منتبهين إليها. ليحمل أحدنا الرسالة العملية معه حتى إذا أُتيحت له فرصة ولو بمقدار خمس دقائق، قرأ ولو صفحة واحدة من الرسالة. حتى إذا تكرّرت معه الحالة مرات تأكّد لديه أنه كان عنده جهل مركّب في بعض المسائل، حيث كان يتصوّر أنه يعرفها مع أنه لم يكن يعرفها على الوجه الصحيح.

قصّة فيها عِبرة

نقل لي أحدهم ـ وقد توفّي أيضاً رحمه الله ـ قال: كنت ذاهباً إلى حجّ بيت الله الحرام وكان الناس يسألونني مسائل فأجيب عليها.

ثم قال: تصوّرت أنّ إجابتي لبعض المسائل صحيحة، لكنّني لم أكن مطمئناً فيها واستحييت أن لا أجيب، فأجبت ثم كتبت الإجابات على ورقة لكي أراجعها إذا رجعت من الحجّ.

يقول: عندما راجعت المسائل لاحظت أني أخطأت في اثنتي عشرة مسألة؛ كانت خلاف الإجماع، أي أنني قمت بتعليم الناس خطأ.

الوقت ضيّق

أنا وأنتم سنكون غدا ـ واليوم ـ في معرض هذه الأمور والحالات. فلنهتمّ بمسألة العلم أكثر.

إنّ عندكم الاهتمام بالعلم بحمد الله، ولكن ليزدد اهتمامكم، واعلموا أنّ العلم يعني أصول الدين وأحكام الإسلام وأخلاقه وآدابه وهداية الضلاّل.

فإنّ الزمان قليل حقّاً لو لاحظنا هذه الأمور. فلو أنّ أحدنا يعمّر مئة سنة فهي قليل تجاه ما يجب عليه. فكيف وأعمارنا أقصر من ذلك؟!

نسأل الله سبحانه ببركة رسول الله (صلى الله عليه وآله) صاحب هذا الكلام وببركة أهل بيته الأطهار صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، أن يبصّرنا في هذا المجال أكثر من ذي قبل. وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين.

[1] ـ بحار الأنوار ج1، ص185.

[2] ـ الذاريات: 56.

[3] ـ فلاح السائل، ص127.

[4] ـ الزمر: 47.

[5] ـ الكافي ج1، ص548.

[6] ـ الزمر: 47.

[7] ـ بحار الأنوار، ج2، ص252.

[8] ـ بحار الأنوار، ج44، ص273.

[9] ـ بحار الأنوار ج1، ص77، وج105، 15.