|
الورع عن محارم الله * |
|
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين. تضمنت الخطبة الشهيرة التي ألقاها رسول الله (صلى الله عليه وآله) في آخر جمعة من شهر شعبان المعظم وفي استقبال شهر رمضان المبارك الكثير من الفضائل، ولكننا سنتناول في بحثنا هذا نقطتين هما؛ الأولى: قوله (صلى الله عليه وآله): «فإن الشقي مَن حُرم غفران الله في هذا الشهر العظيم»[1]. والثانية: الورع عن محارم الله، حيث سأله الإمام علي (عليه السلام) عن أفضل الأعمال في هذا الشهر، فأجاب (صلى الله عليه وآله): «الورع عن محارم الله»[2]. |
|
1- من هو الشقي |
|
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «الشقي من حُرم غفران الله في هذا الشهر العظيم». ويقول علماء البلاغة: إن الجملة هنا تدل على الحصر، أي إن الشقي هو مَن حُرم غفران الله في شهر رمضان المبارك فقط، وليس في أي شهر آخر. فالشقاء منحصر في مَن شُقي في شهر رمضان وحُرم غفران الله فيه، لا غير. هذا هو الظاهر البلاغي للجملة، ومعناه أن الشقيّ كلّ الشقيّ هو الذي يحرم غفران الله في هذا الشهر خاصة. ولا عجب فإن شهر رمضان هو شهر الله سبحانه وتعالى، اختص به دون باقي الشهور، فهو شهر لتنظيم حياة الإنسان والتغيير نحو الأفضل والتطهر من كل دنس، والطاعة لله سبحانه، وفيه يغفر الله للإنسان كل يوم وليلة أضعاف ما يغفر في سواه من الشهور، كما خصّه بليلة القدر التي هي أعظم من ألف شهر، ويغفر الله فيها ما لا يغفر في غيرها من الليالي والأيام، وكذلك يغفر الله في أوله ووسطه وآخره. فشهر رمضان هو شهر «العفو العام». فمن لم يُشمل بالعفو فيه فهو الشقي حقاً. |
|
أقسام الصوم ومراتبه |
|
ونظراً لأهمية الصوم في شهر رمضان المبارك، ودوره في بناء الإنسان المسلم، فقد قسّم علماء الأخلاق الصوم إلى ثلاثة أقسام هي: 1. الصوم العام. 2. الصوم الخاص. 3. الصوم خاص الخاص. الصوم العام: هو الكف عن المفطرات المذكورة في الكتب الفقهية والرسائل العملية من الأكل والشرب والكذب على الله ورسوله، والارتماس في الماء، والبقاء على الجنابة حتى الفجر، والتقيؤ عمداً وغيرها من الأمور التي إن لم يلتزم بها المرء لا يصدق عليه أنه صائم. أما الصوم الخاص: ـ وهو أرقى من الأوّل وأرفع درجة ـ فهو الكف عن المحرمات كلها إضافة إلى ما ذكر، أو ما يسمى بصوم الجوارح مثل: كف السمع عن محرمات السمع كالاستماع إلى الغيبة، وكف البصر عن محرماته كالنظر إلى المرأة الأجنبية بريبة، وكف اللسان عما لا يحل له كالكذب واغتياب الآخرين، وهكذا. وأما الصوم خاص الخاص: فلا يتوقف حتى عند هذا الحد بل يترقى ليشمل النوايا والفكر أيضاً. فالصائم في هذه المرتبة لا يقتصر على الكف عن المفطرات وعموم المحرمات فحسب بل لا يفكر فيها ولا تحدّثه نفسه بها. أي أن هناك فريقاً من الناس لا يتورعون عن المعصية ويكفون عنها وعن المحرمات فحسب بل يتورعون عن التفكير فيها أيضاً، فهم يصومون عن المفطرات العامة، وتصوم جوارحهم عن ارتكاب الذنوب، كما تصوم جانحتهم عن التفكير فيها. وهذا صوم خاص الخاص. وهو أعلى مراتب الصوم وأقسامه. |
|
لنصمم على بلوغ أعلى المراتب |
|
لو أن أحداً صمم وعزم على الالتزام بالقسم الثالث والمرتبة الأعلى من الصوم، أي نوى الكف عن المفطرات وسائر المحرمات وكذلك التفكير فيها أيضاً، فإنه قد يوفق لبلوغ المرتبة الثانية أي ترك المحرمات وصوم الجوارح إلى جانب ترك المفطرات العامة للصوم، فلو راجع نفسه بعد شهر رمضان لرأى أن فكره لم يكن صائماً وأنه ربما تخلف عدة مرات وفكّر في الحرام، لكن جوارحه قد صامت والحمد لله. أما إذا عزم المرء على المرتبة الثانية فيُخشى أن لا يوفق حتى لهذا، ولا يبلغ أكثر من المرتبة الأولى وهي الصوم العام، وذلك لأن الإنسان لا يوفق ـ عادة ـ إلا لما دون ما عزم عليه. يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «مَن طلب شيئاً ناله أو بعضه»[3]. ولا نعني بذلك أن الإنسان مجبر على ذلك، بل هو لا يملك نفسه في الغالب، وهذا أمر قد ثبت بالتجربة. فإن الشخص الذي ينوي مطالعة عشرين صفحة ـ مثلاً ـ قد لا يشعر بالتعب إذا بلغ بضع صفحات (ثلاث أو أربع)، لكنه قد يشعر بالتعب وقد يتوقف إذا بلغ عشر صفحات أو أكثر. أما الذي يعزم على مطالعة ثلاث صفحات فقط فإنه سيتعب بمجرد قراءة صفحتين، وهذا يعني أن الإنسان يشعر بالتعب دون مقصده. وهذا حال أغلب الناس دون النادر منهم الذين لهم توفيق خاص. ومن هنا ينبغي على الإنسان أن يكون ذا تصميم قوي وإرادة فولاذية لكي يوفق إلى طاعة الله عز وجل في أعلى مراتبها ونيل أعلى الدرجات، لا أن يقول حسبي ترك مفطرات الصيام؛ فإنه قد يحرم غفران الله. فليجلس كلّ منا ـ ولو ساعة ـ قبل شهر رمضان يقلب فكّره في هذه الأقسام من الصوم ويتساءل مع نفسه: ماذا يحدث لو عزمت على المرتبة الثانية على أقل تقدير، ولا أترك نفسي دن تحضير واستعداد وعزم على ترك المحرمات قبل أن أواجهها؟ فإن هذه الساعة من التفكير ستلعب دوراً في تغيّر الإنسان تجعله يختلف عن غيره من أوّل رمضان إلى آخره. حتى إذا راجع صحيفة أعماله بعد الشهر الكريم رأى أن سيئاته قد قلّت بدرجة كبيرة واقترب من غفران الله أكثر وابتعد عن الشقاء أكثر. وهذا ليس بالأمر الصعب فهو لا يتطلب أكثر من أن تجلس قبل شهر رمضان ساعة من الزمن تخلو فيها بنفسك وتفكر في مراتب الصوم وتعزم على بلوغ المرتبة الأعلى، فإنّ «تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة» كما في الحديث[4]. ولنحدد المحرمات التي تواجهنا كما علينا أن ننظر ما هي محرمات البصر وما هي محرمات السمع وما هي محرمات اللسان ثم نصمم على الكف عنها، ونحاول ذلك. ففي بعض الأدعية: «إلهي خلقتني سميعاً، فطالما كرهت سماعي، وأنطقتني فكثر في معاصيك منطقي، وبصّرتني فعمى عن الرشد بصري، وجعلتني سميعاً بصيراً، فكثر فيما يرديني سمعي وبصري»[5]. فلننظر ما هي المحرمات التي قد نتعرض لها؛ لأن كل إنسان معرض لقسم من المحرمات، فليصمم على ترك المحرمات التي تواجهه، فرب محرمات لم يكن قادراً على فعلها أو أنها ليست من شأنه. فطالب العلم الديني مثلاً لا يصدر منه شرب الخمر عادة، لأن ذلك ليس من شأنه بل لا يفكر فيه ولا يتصور وقوعه في هذا الفعل الحرام، وهكذا السرقة وتطفيف الميزان وما أشبه، ولكنه قد يقع في الغيبة أو الإيذاء أو إهانة الناس، فليحدد المحرمات التي من هذا القبيل وليصمم على تركها. |
|
وليكن لنا في المتحولين عبرة |
|
ولا بأس أيضاً أن يتذكر الإنسان أن هناك أناساً كانوا عصاة وفساقاً، ولكنهم انقلبوا ـ بسبب قلوبهم المستعدة والرقيقة ـ بموعظة وموعظتين، إلى أناس طيبين وعدول؛ فسوف نتحسر كثيراً يوم القيامة إذ لا مجال لإصلاح أنفسنا عندما نعرف أن إنساناً بعيداً عن المطالب الدينية انقلب طيباً وخيّراً وأصبح أحسن منا عند الله سبحانه وتعالى ولم نغيّر نحن أنفسنا مع أننا كنا نعرف المسائل الدينية أكثر منه. فإن كان التأمل في هذا الأمر يؤلمنا فلنحاول أن نصلح أنفسنا خصوصاً في هذا الشهر الكريم. |
|
2- الورع عن محارم الله |
|
ذكرنا في مطلع الحديث أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: إن أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله. إذن علينا أن نعرف أولاً ما هي الأمور التي حرّمها الله تعالى؛ لأن الورع شيء والمحرمات شيء آخر. فهناك مسألة في الفقه يدور النقاش حولها وهي ما هو حكم مَن تتوفر فيه ملكة العدالة ولكنه لا يعلم كل المحرمات، كالبدوي الطيب الذي لو عرف أن شيئاً بعينه حرام لتركه، ولكنه يجهله، ولنفرض أن جهله كان عن قصور لا تقصير، فهل تترتب عليه آثار العدالة أم لا؟ فلنحتمل الشيء نفسه في أنفسنا. فما أدرانا أنّا عرفنا كل المحرمات؟ ولو عرفناها فما هي حدودها؟ فلعل بعضها غير واضح لبعضنا. إذن علينا ـ لاسيما نحن طلاب العلوم الدينية ـ أن نستفيد من فرصة هذا الشهر الكريم لمعرفة المحرمات. فاحتمال عدم معرفتنا لكل المحرمات يسوقنا إلى أن نوفر بعض الوقت لمعرفتها في هذا الشهر فهو خير فرصة لنا. وإذا كان الورع عن محارم الله أفضل الأعمال في هذا الشهر، فمعرفة هذه المحارم مقدمة له. والورع عن محارم الله أفضل حتى من قراءة القرآن في هذا الشهر، خلافاً لتصور بعض الناس. هناك مَن يختم القرآن حتى ثلاثين مرة في شهر رمضان مع أن هناك فضائل أخرى كالإطعام وهداية الناس ـ المستحبّة طبعاً، أما الواجبة ففي تركها ارتكاب الحرام ـ. وختم القرآن فضيلة عظيمة خاصة في هذا الشهر، وينبغي للإنسان أن يختمه فيه ولو ختمة واحدة. أما أفضل الأعمال ـ كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ الورع عن محارم الله. ويتطلب أوّلاً: معرفة المحرمات ـ كما ذكرنا ـ. ويتطلب ثانياً: مطالعة الروايات التي عدّدت المحرمات، لأن كثيراً من هذه الروايات تؤثر في دفع الإنسان لترك المحرمات، بسبب توفرها على علل التحريم وكذلك العقوبات التي تنتظر مرتكبيها. ففرق بين أن يسمع المرء أن الغيبة حرام وحسب، وبين أن يسمع أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) رأى المغتاب في ليلة المعراج ولسانه يُقرض أو يُفعل به كذا وكذا، فهذا يؤثر في ترك الغيبة أكثر. وهذه الروايات مذكورة في كتب الأخلاق مثل جامع السعادات والكتب التي تذكر آداب المحرمات كحلية المتقين، والآداب والسنن في بحار الأنوار… ويتطلب ثالثاً: الابتعاد عن كل المناهي؛ لأن من المناهي ما هو حرام ومنها ما هو مكروه، لاسيما إذا لم يتضح لنا بعد أن الأمر الفلاني مكروه أو حرام؛ فإن ذلك من مقتضيات الورع. أرأيت الذي يسير في أرض شائكة كيف يحتاط في رفع قدمه ووضعها لئلا تصيبه شوكة بل حتى ما يشك أنها شوكة. ولذلك قال العلماء: إن الورع درجات. سئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن أورع الناس فقال: ((الذي يتورع عن محارم الله ويجتنب هؤلاء فإذا لم يتق الشبهات وقع في الحرام وهو لا يعرفه))[6]. إن الورع عن المحرمات أدنى درجات الورع، نسأل الله سبحانه أن يوفقنا لأعلى درجاته ولما يحب ويرضى. وصلّى الله علي محمد وآله الطيبين الطاهرين. |
|
[*] من محاضرات سماحة المرجع الديني اية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله). [1] وسائل الشيعة، ج10، ص313، باب18، ح13494. [2] المصدر نفسه. [3] نهج البلاغة، ص544. [4] بحار الأنوار، ج66، ص292، ب37. [5] إقبال الأعمال، السيد ابن طاووس الحسني، ج1، ص 89. [6] وسائل الشيعة، ج12، ص162، ب27. |