ثمن الجنة*

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

عن الإمام الصادق عليه السلام: «ثلاث من أتى الله بواحدة منهن أوجب الله له الجنة: الإنفاق من إقتار، والبِشر لجميع العالَم، والإنصاف من نفسه»[1].

إنّ المفهوم من هذا الحديث أنّ مَن كان يحمل واحدة من هذه الصفات وبها خُتمت حياته فهو يستحق الجنة، وهذا لا يعني أن يكون الشخص مستحقاً للنار ومع ذلك يجعله الله من أهل الجنة، بل يعني أنّ مَن توجد فيه هذه الصفات فلا شكّ أنّه من ذوي النفوس المؤهّلة للجنة؛ وذلك لأنّ أعمال الإنسان وتصرّفاته تنبعث عن نفسه. فالأعمال الصالحة والخصال الحميدة إما أن تصدر عن نفسٍ هي كذلك كنفوس المعصومين عليهم الصلاة والسلام وأولياء الله تعالى، أو عن نفسٍ ملكَ صاحبها زمامها، كما أنّ المعاصي لا تصدر إلا عن نفس خبيثة أو غير مسيطَر عليها، فصاحبها عبدٌ لشهواته وليس سيدها، ومن الطبيعي أنّ مثل هذا الإنسان لا يتمكن من الاتّصاف بالصفات التي من شأنها أن تورده الجنة. أما الإنسان المالك لزمام نفسه فسينتقل من خير إلى خير حتى يكون من أهل الجنة. وهذه الخصال التي عدّدها الإمام (عليه السلام) لا تتوفر إلاّ عند النفوس السامية.


الخصلة الأولى: الإنفاق من إقتار


ويمكن تقريب معنى هذه الخصلة من خلال القصة التالية:

عن مروان أبى حفصة قال: «كان المنصور قد طلب معن بن زائدة الشيباني طلباً شديداً وجعل لمن يأتي به مالاً، فحدثني معن باليمن أنه اضطر لشدة الطلب إلى أن نام في الشمس حتى لوحت وجهه وخفف عارضيه ولبس جبة صوف غليظة وركب جملاً من الجمال الثقالة وخرج عليه ليمضي إلى البادية، وكان قد أبلى في حرب يزيد بن عمرو بن هبيرة بلاءً حسناً فخاف فاغتاظ المنصور وجدّ في طلبه، قال معن: فلما خرجت من باب حرب تبعني عبد أسود متقلداً سيفاً حتى إذا غبت عن الحرس قبض على خطام الجمل فأناخه وقبض عليّ، فقلت: ما لك؟ قال: طلبة أمير المؤمنين. قلت: ومَن أنا حتى يطلبني أمير المؤمنين؟ قال: أنت معن بن زائدة. فقلت: يا هذا اتّق الله وأين أنا من معن؟ قال: دع هذا عنك فأنا والله أعرَف بك منك. فقلت: فإن كانت القصة كما تقول فهذا جوهر حملته معي بأضعاف ما بذله المنصور لمن جاء بى فخذه ولا تسفك دمي. فقال: هاته. فأخرجته إليه فنظر إليه ساعة وقال: صدقت في قيمته ولستُ قابله حتى أسألك عن شيء فإن صدّقتني أطلقتك. فقلت: قل. فقال: إن الناس يصفونك بالجود فأخبرني هل وهبت قط مالك كله؟ قلت: لا. قال: فنصفه؟ قلت: لا. قال: فثلثه، حتى بلغ إلى عشره فاستحيت وقلت: أظن أنى فعلت هذا. فقال: ما أراك فعلته وأنا والله راجل ورزقي من أبى جعفر عشرون درهماً، وهذا الجوهر قيمته ألف دينار وقد وهبته لك، ووهبتك لنفسك وجودك المأثور بين الناس لتعلم أن في الدنيا من هو أجود منك فلا تعجبك نفسك، ولتحتقر بعد هذا كل شيء فعلته، ولا تتوقف عن مكرمة، ثم رمى بالجوهر في حجري وخلّى خطام البعير وانصرف، فقلت: خذ ما وهبته إليك فإني عنه غني. فضحك وقال: أردتَ أن تكذّبني في مقالي هذا، والله لا آخذه ولا آخذ للمعروف ثمناً أبداً ومضى. فوالله لقد طلبته بعد أن أمنت وبذلت لمن جاءني به ما شاء فما عرفت له خبراً وكأن الأرض ابتلعته»[2].

فمَن كان يحمل بين جوانحه نفساً كهذه فهو مرُشِّح لأن يتحول ويكون إنساناً صالحاً.

■ الإنفاق من إقتار أفضل من الإيثار

نحن - طلبة العلوم الدينية - لسنا أصحاب أموال "في الغالب" ولا تذوّقنا طعم الثروة والمال، لأنّ نشأتنا وتوجهنا كان على عدم السعي وراء المال منذ البداية. فكل ما قرأنا وسمعنا وكتبنا فهو عن ترك الدنيا والاستخفاف بها؛ ولهذا ربما لا يجد بعضنا صعوبة كبيرة في التخلّي عن المال، وكذلك حال بعض الناس إذ تراه كريماً باللسان عندما يكون معدماً، ولكن ما إن يثرى حتى يتبدّل وضعه، وهناك الكثير من القصص التي تحكي مثل هذه الحالات على مرّ التاريخ سواء ما وقع منها في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الأئمة المعصومين (عليهم السلام) أو ما وقع في زمن الأنبياء السابقين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

فالإنفاق صعب ولكن الإنفاق من إقتار أصعب، ولابدّ أن يتوفر صاحبه على نفس رفيعة أو سيطرة على نفسه وشهواته وهي التي تنقذه حقاً.

إن الإنفاق من إقتار أعلى درجة من الإيثار، ومثاله الإنفاق الذي قام به الإمام أمير المؤمنين والسيدة الزهراء والحسنان (عليهم سلام الله) حين قدّموا إفطارهم إلى المسكين واليتيم والأسير ثلاث ليالٍ متواليات وبقوا جائعين. أما الإيثار فقد لا يكون مع شدة حاجة المؤثر إلى ما يؤثر به غيره، ومثاله أن يؤثر المرء بعباءة لا يملك غيرها ولكنه قد لا يحتاجها الآن أو أنّه يستطيع شراء غيرها، أما الإنفاق من إقتار فهو كما لو أنفق المرء عباءته مع أنّه لا يملك غيرها ولا يستطيع شراء بديل لها، وحاجته فعلية وشديدة إليها، كما لو كان الفصل شتاءً وهو يدفع بها البرد عن نفسه. فهذا يسمّى إنفاقاً من إقتار.


الخصلة الثانية: البشر لجميع العالم


ومعناه أن يكون الإنسان طلق الوجه باسم الثغر مع كل مَن يلقاه سواء كان قريباً أم بعيداً، مسلماً كان أم كافراً، تربطه به علاقة ما أو لا تربطه. وهذا أيضاً أمر صعب جداً. ولو قرّر أحد أن يجرّب هذا الأمر لَلمِسَ صعوبته. فكيف يتمكن الإنسان أن لا يضجر ولا يتبرّم ولا تظهر عليه آثار الاستياء مع أنّ في مجتمعه وبيئته الأذواق المختلفة والسلوكيات المتباينة، ناهيك عن الأحقاد والعداوات والمشاحنات والمشاكسات، فهذا يحسدك وذاك يعاديك، والآخر لا يتّفق مع ذوقك في الطعام والشراب أو الدرس أو غير ذلك. فربما ظهرت من صديق فلتة لا ينساها صديقه رغم مضي خمسين سنة ويظل يتألم منها كلما تذكرها.. فما أعظم الشخص الذي ينكر نفسه ويقاومها رغم كل ذلك ويظلّ ضاحك الوجه باسماً!

ولا شكّ أنّ الضحك [بصوت عالٍ، أو القهقهة] مكروه خلافاً لطول التبسّم، إنّما المقصود من كلمة "ضاحك" هنا أن يكون المرء ضاحك الوجه وليس ضاحك الفم.

وهذا أيضاً أمر صعب ويعود إلى نفس الإنسان وإمكانية السيطرة عليها لكي تواجه كل الحالات بصدر رحب ووجه طلق وبِشر وبشاشة. فإنّ ضبط النفس يحتاج إلى همّة عالية وتمرين ورياضة.

■ السيطرة على النفس أمر صعب يحتاج إلى تمرين

كان أحد العلماء المغمورين يقول عن نفسه إنّه كان زميلاً لمرجع معروف، قطعا الأشواط الدراسية والعلمية معاً، وإنّه لا يقلّ ذكاءً وعلمية عن زميله المرجع ولكن عيبه الوحيد الذي حال دون شهرته وارتقائه مقام المرجعية هو أنّه ينطوي على طبيعة ساخرة، فهو لا يستطيع أن يضبط نفسه إذا رأى أدنى ما يثير انتباهه، بل يسخر ويستهزئ بكلّ مَن يلقاه.

يقول هذا الرجل: آلمني وضعي فقرّرت يوماً مع نفسي أن أضع حداً لحالتي هذه التي جعلتني متأخراً، فيما تقدّم غيري. فعزمت على أن لا أُظهِر ما يثيرني على لساني بعد اليوم، وبالفعل واجهتني عدة حالات فضبطت نفسي إزاءها واستطعت بشق النفس تجاوزها الواحدة تلو الأخرى، ولكني بعد فترة وجدت أن نفسي من‍زجرة برمة، فقلت: لا أريد أيّ شيء بعد الآن فلأنطلق وأدع نفسي حرة على سجيتها (أطلق لها العنان لما تشتهي)، وعدتُ إلى شخصيتي السابقة. وها أنا اليوم - يقول ذلك العالِم - لم أجد إلا التكسّب من صلاة الاستئجار التي أقبض ثمنها من ذلك المرجع الذي كان زميلي في الدراسة.

وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ السيطرة على النفس أمر صعب لا ينبغي الاستهانة به.

كانت الوالدة (رحمة الله عليها) توصينا دائماً بأن نبتلع الكلمة - على حدّ تعبيرها - سبع مرات قبل أن ننطق بها، أي لا نستعجل في إطلاقها بل نفكر فيها سبع مرات أوّلاً حتى لا نندم بعد ذلك. وهذه الكلمة تعبّر عن حكمة استلهمت من حكم الإمام أمير المؤمنين علي كقوله (عليه السلام): «لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه»[3]. أي أنّ العاقل يفكّر أوّلاً ثم يتكلم بعد ذلك. أما الأحمق فيتكلم ثم يفكّر بعده في الكلمة التي قالها وما هي أضرارها وما فوائدها ولماذا قالها؟ أما العاقل فلا يعرّض نفسه للاستجواب وقول: «لماذا» بعد صدور القول منه، لأنّه فكّر في الأمر قبل ذلك عدة مرات.

أما عدد السبعة أو السبعين المذكور في مثل المورد فهو من باب المبالغة - في اللغة- وليس على نحو التحديد، فربما كفت الستة أو الخمسة أو احتيج إلى المرة الثامنة.

لا شكّ أنّ مَن يفكّر في عواقب أموره عدة مرات يتمكن من إتقانها ولا يخطئ فيها غالباً. كما أنّ مَن يكرّر مطلباً يتقنه ويتفوّق فيه.

يقول الشهيد الثاني (رضوان الله عليه) في كتابه (منية المريد في آداب المفيد والمستفيد) فيما يوصي به طالب العلم: «ثم يحفظه - أي الدرس- حفظاً محكماً، ثم يكرره بعد حفظه تكراراً جيداً، ثم يتعاهده في أوقات يقررها لمواظبته، ليرسخ رسوخاً متأكداً، ويراعيه بحيث لا يزال محفوظاً جيداً»[4]، وبالفعل مَن كرّر درسه كذلك لا يحتاج إلى عشرة كتب بل يكفيه الكتاب الواحد المقرَّر إلاّ أن يكون بليداً!

وهكذا الحال بالنسبة لتعويد النفس على الخصال الحسنة ومنها البِشر مع كل العالَم، فإنّ للناس - كما قلنا - أذواقاً مختلفة وقد يواجه المرء يومياً عشرات الأشخاص والحالات فربما يتأثر من بعضهم، ولكن ينبغي أن يضغط على نفسه لكي لا يظهر التأثر في وجهه وملامحه. فإن نجح في تكييف حياته بهذه الصورة فهذا معناه أنّه مسيطر على نفسه.

ينقل المرحوم الوالد (رحمه الله) أنّ أحد أساتذته كان يتبرم بسرعة وربما أغلظ على الطلاب. يقول السيد الوالد: ناقشت هذا الأستاذ يوماً في مسألة ما وبقيت ألفّ معه، وكلّما أجابني رددت عليه وناقشته حتى تأثّر كثيراً، فوكزني بظهر كفه بقوة في صدري ضربة بقيت أعاني منها لمدة ثلاثة أيام حتى أنّني استعملت اللصقة الطبية من شدة الألم.

يبدو أنّ الأستاذ لم يملك نفسه فتصرف هكذا، مع أن النقاش المثمر هو طريق تنمية القوة العلمية ولا يهم ما كان السبب فكل أستاذ ربما يتألم من تلميذه لأنّه لم يفهم الدرس بسرعة أو لأنّه يفهم ولكنه يراه مشاكساً مع ذلك. إنّما النقطة المهمة هي أن يسيطر الإنسان على نفسه ويتمالك أعصابه، ويلقى بالبِشر كل العالم.

نقل لي أحد الأطباء أنّ أربعة عشر عصباً في وجه الإنسان تستعمل وتقلص عند الضحك، أما العابس فهو يحتاج لأن يستعمل ويقلص أكثر من أربعين عصباً.

هذا مضافاً إلى أنّ الإنسان العابس مهموم دائماً أما الذي بشره في وجهه فهو يعيش عيشة راضية تخلو من عبارات «ليت» و «لو» مثل ليتني عملت كذا أو ما عملته أو قلت كذا أو لم أقله، ولو كان كذا لحصل كذا، ومن ثم فهو لا يأسف على بِشره خلافاً للعابس الذي يندم على عبوسه.

وهكذا تبيّن أنّ الإنسان الذي يلقى الآخرين بالبِشر هو إنسان ضبطَ نفسه وربّاها حتى بلغت هذه الدرجة.

■ المؤمن هش بش

وقد فُسّر ما ورد في الحديث الشريف: «المؤمن هش بش» أنّه ضاحك الوجه باسم الثغر. فقد مُثل للشيء الهش بالبطيخ الأحمر ينفطر عن آخره بمجرد أن تضع السكين فيه وقبل أن يبلغ نهايته، أي ينفلق بسرعة. وهكذا المؤمن يكون منفلق الوجه والمحيّى وإن كان متألماً، وهذا يتطلب إرادة قوية ونفساً متربية، لأنّ النفس بطبيعتها لا تترك الإنسان هكذا، بل تدعوه للعبوس في وجه أحداث الحياة والحالات المختلفة التي لا ترتاح لها إلاّ إذا كان الإنسان مؤمناً فإنّه يكون هشاً بفعل الإيمان وتأثيره؛ ولذلك ورد أيضاً عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في وصف المؤمن أنه قال: «حزنه في قلبه وبشره في وجهه»[5].

ولا عجب إن كان التوفر على هذه الحالات صعباً لأنّها ثمن الجنة، والجنة لا تثمّن بل إنّ اللحظة الواحدة فيها لا يعدلها ملايين ولا المليارات من كنوز الدنيا؛ لأنّها تختلف عن الدنيا بالكلية، وهي مقترنة بالإحساس بالخلود!

ولذلك قلنا إنّ معنى الحديث الذي صدّرنا به المحاضرة هو أنّ صاحب النفس التي تتمتع بإحدى الخصال التي ذكرها الإمام (عليه السلام) هو المستحق للجنة. وقلنا أيضاً إنّ ذلك بحاجة إلى تمرين وترويض كثير للنفس، وإن ّمَن توفرت عنده إحدى هذه الخصال جاءته البقية تباعاً؛ لأنّها صفات متلازمة.


الخصلة الثالثة: إنصاف الناس من نفسه


ومعناه أنّه لو اكتشف الشخص أنّ الحق ليس معه بل مع مقابله - سواء كان أستاذه أو تلميذه أو صديقه أو قريبه أو زميله أو المتعامل معه أو أيّ شخص آخر- يقرّ له ويتراجع، وهذه الخصلة أيضاً لا تكون إلاّ في نفس خاضعة للعقل.

يقول الله تعالى في وصف النفس غير الخاضعة للحق: «وإذا قيل له اتّقِ الله أخذته العزّة بالإثم»[6]، وهذا حال معظم الناس إلاّ مَن روّض نفسه على خلاف هذا الأمر. فلو قيل لشخص ما «اتّق الله» فإنّه يشعر بذلٍّ لأنّ ذلك معناه أنّ ما ارتكبه معصية ولم يكن يعلم بذلك أو أنّه كان يعلم ومع ذلك عصى! فإن لم يكن الشخص مؤمناً حقاً أخذته العزة وكابر.

كنت في بعض الأيام أتمشى مع صديق في إحدى البلاد الإسلامية فرأينا شخصاً يسبّ الله - والعياذ بالله - فنهره صديقي وردعه. ولكن ذلك الشخص التفت إلينا وقال: أنا أشعر وأعني ما أقول ولست جاهلاً أو غافلاً! وهكذا أخذته العزة بالإثم.

فمن النادر أن تلقى أحداً يتقبّل النصيحة من أعماقه. ولا أعني بالنصيحة الموعظة العامة كالحديث الذي يلقيه الخطيب والمحاضر ويستمع إليه الحاضرون، بل المقصود بها النصيحة المباشرة والمناسبة لشخص ما في موقعها وإن كانت بالأسلوب الصحيح وباللطف واللين. فإنّ النفوس في الغالب لا تخضع في إظهار الانصياع للحق ولا تذعن في أنّ موقفها لم يكن صحيحاً، بل كلٌّ يحاول أن يُظهِر أنّ موقعه كان صحيحاً وأنّه لم يكن جاهلاً وأنّها كان يعلم بحقيقة الأمر. أما أن يقبل من الآخر فهو شيء صعب جداً، كالخصلتين السابقتين وهي كلها أمامكم وبإمكانكم أن تجرّبوا أنفسكم فيها وتروا بأنفسكم إن كانت سهلة أم صعبة، وإن كانت النفوس مختلفة فيما بينها وإزاء كل من هذه الخصال حسب المحيط والتربية والأجواء التي عاشتها والمراحل التي قطعتها، ولكن تبقى الصعوبة موجودة عند كل النفوس وإزاء كل واحدة من هذه الصفات، غاية الأمر أنّ بعضها أصعب لدى بعض وبعضها أقل صعوبة.

■ طلاب العلوم الدينية أحرى من غيرهم بالتفكير في الجنة

لقد ذكر الإمام الصادق (عليه السلام) الخصال التي عدّها ثمناً للجنة، ونحن - طلبة العلوم الدينية - أحرى من غيرنا بالتفكير في الجنة والهمّ لنيلها ودخولها؛ وذلك لأنّ المفترض أنّنا تركنا كل شيء من أجل الله سبحانه وتعالى، أو أنّنا لم نكن نملك الدنيا أصلاً.

فلو نظرنا إلى طالب العلم الديني لرأينا أن سبب توجهه إلى هذا المسلك، إما أن يعود إلى أنّ الأبواب الأخرى التي يحصل من خلالها على الدنيا والكسب الحلال قد سُدّت في وجهه، فهو لا يستطيع أن يكون بقالاً أو عطاراً أو تاجراً أو… ورأى هذه الباب مفتوحة في وجهه فسلك هذا المسلك، وربما لأنّه شعر أنّه لا يحصل في مجال آخر على الكرامة أو المكانة والجاه ولكنه يحصل عليها هنا؛ وإمّا أنّ الشخص كان يحصل على هذه الأمور في مجالات أخرى ولكنه مع ذلك توجه إلى طلب العلم وترك كل شيء من أجل الله وإخلاصاً له.

وفي الحالتين ينبغي لطالب العلم أن يفكّر أكثر من غيره في الجنة؛ لأنّه إن كان ممن لاحظّ له في الدنيا وأقبل إلى هذا المجال فليهتم بحظه في الأخرى وتوفير ثمن الجنة. وإن كانت الدنيا مقبلة عليه ومع ذلك تركها من أجل الله والآخرة، فهو أَولى من الجميع بذلك.

عرضتُ على أحد الشباب مرة أن يكون من طلبة العلوم الدينية لما رأيت من تدينه وقابلياته، فأجابني: إنّي أكسب كذا من المال في اليوم الواحد فيكون مجموع ما أحصله بالشهر كذا - وذكر مبلغاً كبيراً - وقال: إن وفّرت لي هذا المبلغ فإنّي سألتحق بصفوف طلاب العلوم الدينية غداً.

لا شكّ أنّ مثل هذا الشاب لا يصبح من طلاب العلوم الدينية إلاّ إذا كان عنده إخلاص مئة بالمئة، ولا شكّ أنّ كثيراً منا لو لم يكن من طلبة العلوم الدينية لكان وضعه المالي والاقتصادي أحسن. إذن مادمنا تخلينا عن الدنيا وبعناها - ولو إلى حد ما - فلنركز قليلاً ونهتم ليكون المثمن الجنة. فإنّ الله تعالى لم يخلق الجنة لكي يمنّ بها على هذا أو ذاك بل خلقها للمؤمنين الخيّرين المخلصين، ونحن - الطلبة - قد قطعنا نصف الشوط باختيارنا هذا المسلك فلنكمل النصف الباقي. وقد تحملنا نصف التعب فلنتحمل الباقي، والمجال متاح أمامنا لكي نجرّب حظنا، فلنجرب من الآن ولنبدأ بأسهل الخصال ثم نرتقي، فنبدأ بالبِشر للعالم فهو أسهل نسبياً من الإنفاق من إقتار ومن إنصاف الناس من أنفسنا.

لنحاول أن تكون وجوهنا باسمة لا أن تكون مكفهرة تجعل الناظر إلينا يظن أنّ عليه أن يدفع كفارة لذلك - على حد تعبير المثل العامي المشهور -.

وأكرر مرة أخرى أنّ ذلك لا يعني أن نكون ضاحكين دائماً فإنّ الله تعالى يقول: «فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً»[7]. أما البِشر فمعناه إخفاء الأحزان والهموم الناشئة من المشاكل الكثيرة التي قد يواجهها الإنسان في الحياة، ومقابلة الناس بوجه طلق.

لنجعل وجوهنا مستبشرة بحيث لو رآنا المهمومون لقللنا من همومهم لا أن نضاعفها لهم. وهذا التصرف يؤثر في الناس أكثر من القول. فقد تحاول أن تزيح الهم عن صدر أخيك من خلال كلامك معه لمدة نصف ساعة ولا ترى استجابة، ولكن قد يكون لمقابلتك الطيّبة معه ولقائك إياه بالبِشر الأثر الفاعل في تحسن حالته، مع أنّ هذا الموقف قد لا يستغرق دقيقة واحدة. ولهذا ورد في الحديث عن الصادق (عليه السلام) أيضاً: «كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم»[8].

فلنجرب واحداً من الأمور الثلاثة المتقدمة ولنبدأ بأسهلها علينا وهو البِشر مع الناس، فنحاول أن نكون مبسوطي الوجوه مع مَن نلقى - ولا نيأس، فإنّه أمر صعب في الجملة وبحاجة إلى تمرين وعلاج كما قلنا - حتى نكون من أهل الجنة إن شاء الله تعالى.

كان اثنان من أقربائنا - رحمهما الله - بينهما مشكلة، فذهب إليهما قريب لهما - توفي هو الآخر رحمه الله - ونصحهما بطريقة لطيفة، فقال: إنّكما لا ينقصكما شيء إلاّ ما هو موجود [من التخاصم] بينكما، فأنتما بحمد الله مسلمان مواليان لأهل البيت (عليهم السلام) ومن المصلّين الصائمين القارئين للقرآن والعاملين للخيرات والعارفين لأحكام الدين، فلماذا تحتفظان بـ "بعرة الفأر" هذه -كناية عن الذنب الصغير ويريد به ما هو موجود بينهما من التخاصم- في صحيفة أعمالكما؟!

وهذه النصيحة تشبه من باب المثال أن ترى أحداً لا ينقصه شيء في حياته المادية إلاّ أمر صغير قادر على توفيره، فنقول له - مثلاً - أنت بحمد الله تملك بيتاً وزوجة وأولاداً أصحّاء وشخصية مرموقة في المجتمع وبيتك مؤثث بكل ما يلزم إلاّ باب بيتك معيبة فأصلحها فهي لا تتناسب مع بيتك ولا داعي لتركها هكذا خراباً مع أنّها أمر صغير قياساً لما تملك.

وهكذا نصح هذا الرجل قريبيه بقوله: مادام كل شيء منكما جيداً فلا داعي للتمسك بهذه الصغيرة - والتي عبّر عنها ببعرة الفأر - في صحيفة أعمالكما؟!

وأنتم - طلبة العلوم الدينية - الذين تركتم في الغالب معظم اللذات الدنيوية من أجل الله، لماذا لا تكملون صحيفة أعمالكم بجعلها خالصة كلها لله تعالى؟ فما على المرء إلاّ أن يحاول ويبدأ والله تعالى هو الذي يعينه شيئاً فشيئاً حتى يبلغ المقصود.

أما الصعوبة في ذلك فشيء طبيعي ويحتاج إلى تمرين وممارسة واستمرار واستعانة بالله تعالى.

نسأله سبحانه التوفيق لي ولكم.

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.


[1]ـ الكافي: ج2، ص103، باب حسن البشر.

[2]ـ الفرج بعد الشدة، للقاضي التنوخي: ج2، ص372.

[3]ـ نهج البلاغة: ج2، ص153.

[4]ـ منية المريد، الشهيد الثاني،  ص264.

[5] ـ  بحار الأنوار: ج75، ص73.

[6]ـ  سورة البقرة: 207.

[7]ـ سورة التوبة: 82.

[8] ـ الكافي: ج2، ص78.


* من محاضرات لسماحة المرجع الديني آية الله العظمى الحاج السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله الوارف).