كيف نذلل المشكلات في طريق طلب العلم؟*

«نصائح لطلاّب العلوم الدينية»

   بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

قال الله تعالى: «ألا بذكر الله تطمئن القلوب»[1].


مقدمة


قيل: «لكل شيء آفة وللعلم آفات» وهذا القول يؤيده الاعتبار، أي أنّه صحيح خارجاً. فإنّنا نلاحظ في الواقع الخارجي أنّ أكثر من 60٪ ممّن بدأوا طريق العلم والدراسة بإصرار وصدق وإيمان لم يواصلوا الشوط حتى نهايته، وإنّ أقل من 40٪ هم الذين استطاعوا التغلّب على المشكلات الكثيرة الموجودة في طريق طلب العلم.

لقد كانت المشكلات في هذا الطريق كثيرة، ولا تزال كذلك، بل إنّها اليوم أكثر مما مضى. فأكبر مشكلة في السابق كانت تتلخّص بعدم وجود الكتاب، وكون الكتب مخطوطة. فكان طالب العلم الذي يريد أن يقتني كتاباً كالشرائع مثلاً، أمام أحد خيارات؛ إما أن يستعير نسخة خطية أو مستنسخة ثم يقوم بنسخها من أوّل الكتاب إلى آخره؛ أو أن يدفع ثمناً باهضاً لشراء نسخة من الكتاب، وهذا لم يكن ميسوراً لأكثر الطلاّب، فلا نبالغ إذا قلنا: إنّ تسعين بالمئة منهم لم يكونوا قادرين على توفير هذا الثمن؛ أو أن يجد مَن يتبرع له بثمن الكتاب، وهذا أصعب الخيارات وأندرها تحققاً.

أما اليوم فبإمكان كل طلبة العلوم الدينية اقتناء نسخة من الكتاب الذي يرغبون وبأثمان يستطيع أغلبهم دفعها. إذن يمكن القول: إنّ مشكلة صعوبة الحصول على الكتاب لم تعد اليوم موجودة.

ومن المشاكل التي كانت موجودة في السابق وقد قلّت اليوم إلى درجة كبيرة هو الحصول على مدرّس. أما اليوم فقد زالت هذه الصعوبة إلى حدٍّ كبير وخاصة في الحواضر العلمية التي نعيش فيها.

أجل هناك مشكلات استجدّت ولم تكن في السابق؛ ومنها مثلاً كثرة العطل. فلم تكن بهذه الكثرة، ولم تتجاوز - على ما أتذكر - الحالات الثلاث الآتية: شهر رمضان كله، وثلاثة عشر يوماً الأولى من شهر محرم، ووفيات ومواليد المعصومين عليهم الصلاة والسلام [والعيدين]. ولم تكن عندنا عطلة صيفية ولا عطلة أخرى غيرها. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ بعض وفيات ومواليد المعصومين كانت تقع في أيام الجمع ما عدا تلك التي تقع في أيام شهر رمضان فإنّ مجموع الأيام التي كنا نعطّل فيها الدرس لم تزد على الشهرين في السنة. مع أنّنا كنا نستغلّ حتى أيام العطل في تلقي دروسٍ خارج المنهج الحوزوي المقرر كدروس الأخلاق والتفسير ونهج البلاغة والعقائد والرياضيات والهيئة والخطابة والكتابة، ولم تكن حتى ليالي الجمع وأيامها مستثناة من ذلك.

وبتعبير آخر: لقد عبّأنا كل طاقاتنا ولم يصل أغلبنا إلى الغاية المرجوة، فكيف بالوضع اليوم، حيث قد نقل لي أحد المدرّسين أنّه أحصى كل الأيام التي درّس فيها خلال إحدى السنوات الأخيرة فوجدها لا تزيد على التسعين!

فإذا كانت المشكلات في طريق طالب العلم كثيرة، وكان طالب العلم لا يريد صرف عمره هكذا عبثاً ثم يكتشف بعد مرور ثلاثين سنة أو ربما خمسين سنة أنّه لم يصل إلى شيء ولم يحصل على نتيجة، فما هو الحل العملي للتغلب على هذه الصعاب؟

الحل الجذري يتمثّل بالآية الكريمة: «ألا بذكر الله تطمئن القلوب». والمقصود بذكر الله تعالى في الآية - كما قال المفسّرون - الذكر اللساني والقلبي معاً. والمقصود بالذكر القلبي التوجّه إلى الله تعالى، فإنّ الممارسات العبادية التي نؤديها لله تعالى لا ينبغي أن تكون طقوساً جامدة لا روح فيها بل علينا أن نتفاعل معها، ونشعر من خلالها أنّنا نقف بين يدي الله تعالى ونتعامل معه.

صحيح أنّ الواجب يسقط بالامتثال وفق الشروط المذكورة في كتب الفقهاء، حتى مع عدم حضور الذهن والتفاعل القلبي، وأنّه لا تجب الإعادة على الشخص الذي أدّى صلاته - وهكذا سائر عباداته كالصيام مثلاً - بصورة صحيحة من حيث الأحكام، وإن كان مشغول الفكر عنها من أوّلها إلى آخرها؛ تخفيفاً من الله عزّ وجلّ، على عباده ولكن النتيجة المطلوبة من العبادة لا تحصل، ولهذا فهي لا تسجّل له صلاة - وكذا سائر العبادات، كما في مستفيض الأحاديث -.

أي إنّ مَن اكتفى بأداء العبادة كطقس وعادة دون توجّه القلب لله، لا يحصل على نتيجة لا في الدنيا ولا في الآخرة، بل قد يصبح عمله هذا وبالاً عليه كما ورد في بعض الأحاديث.


التغيير ممكن


كان الشيخ علي القمي أحد العلماء المعروفين في العراق، يمر اليوم على وفاته زهاء نصف قرن ولا يزال أولاده موجودين بعضهم في قم وبعض في شمال إيران، ولقد رأيت شخصياً بعضهم.

نُقل أنّ الشيخ على القمي (رحمه الله) عندما أراد الزواج يوم كان شاباً طلب نوعاً من القماش الفاخر الذي كان الشباب المتأنق في تلك الأيام يخيطون منه بدلة الزواج، [ولنقل: إنّه كان قماش الموضة أو الموسم] وكان هذا القماش يستورد من الشام. و حيث إنّ طلبة العلوم الدينية كانوا أكثر تواضعاً ووقاراً في زيهم وملبسهم من سائر الشباب، إذ ينبغي أن يكونوا قدوة للآخرين، حاول بعض زملاء الشيخ أن يثنوه عن هذا المطلب. ولكنّه كان مصرّاً لدرجة أنّه أجّل زواجه عدة أشهر لأنّ ذلك القماش كان مفقوداً آنذاك في الأسواق.

وما يثير العجب أكثر أنّ هذا لم يكن حال كل الشباب آنذاك فما كان يهتم بمثل هذه المظاهر إلاّ المنهمك في الدنيا. ولا نقول: إنّه كان حراماً ولكنّه كان يعبّر عن اهتمام زائد بالدنيا، وربما كان لماعاً أو ما أشبه مما لا يناسب طالب العلم الديني (الروحاني)، ولذلك كان زملاؤه يحاولون ثنيه، ولكنه كان يجيبهم بالقول: مادام غير محرّم فهو زينة والله يقول: «قل مَن حرّم زينة الله التي أخرج لعباده»[2]. وصار يوصي المسافرين إلى المدن الأخرى في العراق ككربلاء والحلة وبغداد بالبحث في أسواقهاولكن بحثهم كان دون جدوى، حتى اتّفق أنّ بعض أصدقائه نوى السفر إلى الشام وبعد عودته جلب له من ذلك القماش، ثم تزوّج بعد ذلك!

لقد ذكرت لكم هذه القصة لتعرفوا أنّ التغيير ممكن. فإنّ هذا الشيخ نفسه الذي كان هذا مستوى اهتمامه في شبابه، تحوّل تحوّلاً عجيباً حتى صار مضرب المثل في الزهد والتقوى في عامة العراق وإيران رغم وجود العشرات بل المئات من الزهاد والمتقين في ذلك الزمان! فلقد سمعت قصصاً عن الشيخ علي القمي (رحمه الله) أكتفي هنا بنقل اثنتين منها:

يقول والدي (رحمه الله): إنّه كان في النجف الأشرف يومذاك تسعون رسالة عملية، وهذا يعني أنّ المجتهدين كانوا بالمئات، لأنّ الذين عندهم رسائل عملية لا يشكّلون في العادة عشرة بالمئة من كل المجتهدين. فهكذا كان وضع النجف وحوزتها، غير قم وكربلاء وخراسان!

ولا أعلم اليوم بوجود تسعين رسالة عملية على وجه الكرة الأرضية كلها!

يقول الوالد: إنّه بالرغم من وجود العشرات من المراجع في النجف الأشرف في ذلك اليوم، وبالرغم من وجود المئات من أئمة الجماعة من المتّقين والزهاد، كان أغلب الناس - والعلماء أيضاً - لا يطمئنون إلاّ بالصلاة خلف الشيخ علي القمي، لأنّه كان مسلّم العدالة عند الكل.

وبتعبير أدق: لو كان بعض الناس يصلّون خلف فلان من العلماء ولكنّهم يستشكلون بالصلاة خلف عالِم آخر، وكانت فئة أخرى تصلّي خلف الثاني وتستشكل بالصلاة خلف الأوّل، فإنّهم جميعاً كانوا يتّفقون على عدالة الشيخ علي القمي ويطمئنون بالائتمام به. فما أعظم التحوّل الذي حدث في حياة الشيخ علي القمي حتى بلغ هذه الدرجة، بعد أن كان على ما سمعتم في شبابه!

أما القصة الأخرى من القصص التي تروى عن الشيخ علي القمي (رحمه الله)، فهي أنّه أُصيب في أخريات عمره بمرض حصر البول، وهو مرض مؤلم جداً وقد لازمه هذا المرض - كما ذكر لي بعض أبنائه - زهاء عشر سنوات حتى توفي (رحمه الله). يقول ولده: طيلة المدة التي كنت معه لم أسمع منه كلمة آه، كان إذا اشتدّ به الألم قال: لا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم، أي أنّه كان ينفّس عن نفسه بذكر الله. كان يأسى أن يصرف هذه الثواني من عمره في قول كلمة آه، بل كان بدلاً من ذلك يُصدر تألمه بقول لا إله إلاّ الله، سبحان الله، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.

إنّ الإنسان إذا تألّم لا يمكنه إلاّ أن يقول: آه، ولكن إذا ربّى نفسه تمكّن أن لا يقولها بل يقول بدلاً منها: لا حول ولا قوة إلاّ بالله.

لا شكّ أنّ التأوّه بنفسه ليس مذموماً بل لقد ورد في الأحاديث أنّ المريض إذا تأوّه كتب له ثواب، ولكن لا شكّ أيضاً أنّ قول: لا إله إلاّ الله أكثر ثواباً! إذن لا ينبغي أن ننهى مريضاً من التأوّه، ولكن المطلوب منا أن نربّي أنفسنا بحيث نقدس الله ونحمده ونسبّحه ونكبّره بدلاً من ذلك.

وما نخلص إليه من حالات الشيخ علي القمي (رحمه الله) أنّه استطاع أن يغيّر نفسه حتى تحوّل ذلك التحوّل الذي جعل منه قدوة لنا في عدالته وفي ذكره لله عزّ وجلّ.


الخطوات العملية


1. تقوية الرابطة مع الله

فلنحاول من الآن إذاً أن ننفخ بعض الروح في ممارساتنا العبادية شيئاً فشيئاً، وذلك بأن نلتفت إلى معاني عباداتنا، فمثلاً إذا وقفتَ بين يدي الله في الصلاة، وشرعت بقراءة سورة الفاتحة، فكّر في معاني مفردات السورة واستحضر مفهوماتها، ولا تدع فكرك يهرب هنا وهناك، ولو حصل ذلك عُد به سريعاً ولا تدعه يسرح، ولا تيأس حتى لو شرد ذهنك خمسين مرة، بل أرجعه حتى يصبح حضور الذهن مَلَكة عندك، فتعرف ما تقول وتلقّن نفسك معانيه، فإذا قلت: "إياك نعبد" استحضرت في ذهنك أنّ العبادة لله وحده وأنّك في حال أدائها، وإذا قلت: "وإياك نستعين" جدّدت استعانتك به في كل أمورك وبخاصة في عبادتك.

ولا شكّ أنّ العربي يفهم معاني هذه الكلمات أفضل من غيره، فهي بِلغته وعنده انطباع عنها، فكيف إذا كان من طلاّب العلوم الدينية وقد قرأ الألفية وشروحها وجامع المقدمات؟!

فهذا هو الأساس «ألا بذكر الله تطمئن القلوب»، والتوفيق من الله تعالى. وأنتم بحمد الله تعلمون أنّ العلم ليس بكثرة التعلّم بل نور يقذفه الله في قلب مَن يشاء - كما في النبوي الشريف -. فبمقدار ما تقوّي الرابطة بينك وبين الله تعالى يأتيك التوفيق بنفس النسبة.

2. أصلِح ما بينك وبين الناس

تناولنا في النقطة الأولى تقوية الرابطة مع الله وذكر الله على كل حال، أما في هذه النقطة فالمطلوب تقوية العلاقة مع المجتمع؛ وذلك عن طريق الالتزام بالأخلاق الإسلامية كالتواضع والوقار والبِشر والكرم والعفو والرحمة وصلة الرحم.

هذه الأخلاق تعرفونها لأنّكم أهل علم وهي موجودة فيكم - والحمد لله - بنسب متفاوتة، ولكن المطلوب تعميقها وترسيخها والاستزادة منها. فمثلاً حاوِل أن تخالف هواك في كل الأمور، فإن كنت لا ترغب في أمر رغم اعتقادك بصوابه، حاوِل أن تخضع له بكل رحابة صدر، وإن كنت مختلفاً مع صديقك وواجداً عليه، حاول أن تصله بزيارته أو بإلقاء التحية عليه كلما لقيته. هب أنّه قد لا يردّ جوابك ولكن أدِّ أنت ما عليك فإنّك إذا كنت تريد أن تصبح عالِماً ومرشداً ينبغي أن تكون قدوة في الخُلق والحلم وكظم الغيظ، لا أن تثور بسرعة أو تتوتر أعصابك لأتفه الأسباب.

تصرّف أنت بالنحو الصحيح واستفد من حياتك بصورة صحيحة ولا يهمّ بعد ذلك إن كان قد استفاد الآخرون منك ومن تعاملك معهم أو لا؛ فإنّ الله تعالى يقول: «يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضرّكم مَن ضلّ إذا اهتديتم»[3]. ولا توجد عبارة أكثر صراحة من هذه الآية في لزوم ضبط النفس وكظم الغيظ. فإنّ كلمة «عليكم» اسم فعل بمعنى «الزموا»، فإن بدأت نفسك فربما اهتدى العشرات بأسلوبك.

3. الاهتمام بالكيف أكثر من الكمّ

رأيت أحداً يقول: لديّ اثنا عشر درساً في اليوم. ومثل هذا لا هو يستفيد ولا بإمكان غيره أن يستفيد منه وإن كانت دروسه تبلغ الخمسين إلاّ أن يكون عبقرياً أي استثناءً من الناس.

ونقل والدي أنّ أحد الطلبة كان يقول: لماذا أنتم معاشر الطلبة تدرسون كل يوم من الصبح إلى الظهر ثم من العصر حتى الليل، وأنتم في حركة ودوي مستمرين، إنّ الأمر لا يتطلّب كل هذا، بل يكفي أن يكون لطالب العلم درس واحد أو درسان في اليوم ولا يلزم أكثر من يومين أو ثلاثة في الأسبوع.

وهذا أيضاً لا يمكن أن يصل إلى نتيجة، فأيّ كاسب يكتفي بالذهاب إلى السوق ساعة أو ساعتين في يوم أو يومين من الأسبوع فقط، ثم يكون تاجراً ويحصل على المال الوفير؟ إلاّ أن يكون تاجراً قد بلغ مرحلة يعتمد في عمله على عوامل وخطوط، وهذا أيضاً لم يأت من فراغ بل لابدّ أنّه عمل في أوّل حياته ست عشرة أو ثماني عشرة ساعة في اليوم وستة أيام في الأسبوع على الأقل!

على طالب العلم أن يبذل الوقت المناسب، ولكن الأمر المهم هو الكيف وليس الكم، وأعني بالكيف الإتقان. فلو درستم تاريخ حياة العظماء من العلماء - كالشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي والمحقق الحلي والعلاّمة الحلي والسيد بحر العلوم والشيخ الأنصاري رحمهم الله - لرأيتم أنّ اهتمامهم بالكيف ونوعية الدراسة وإتقانها كان أكثر من اهتمامهم بالكمّ.

فلو أنّك خصصت وقتاً لدراسة كتابين فقط في الفقه ولكن بإتقان، ستستفيد أكثر مما لو بذلته في دراسة عشرة كتب دون اتقان. بل يمكن لمَن يتقن كتابين تخصّصيين في الفقه أن يصبح حاملاً لفقه آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، أما لو شتّتَّ ذهنك ووقتك في عشرة كتب فربما لا تتذكر شيئاً منها.

نستنتج مما تقدم أنّه يجب الاهتمام بكيفية الدرس، ولا نعني بذلك أن يكتفي الطالب بدروس قليلة ويترك سائر أوقاته هكذا هملاً وبلا استثمار، بل المقصود الإتقان والتقدّم، وبذلك يستفيد الطالب كما يستفيد المجتمع منه أكثر.

والتكرار ينفع

هناك أبيات شعرية باللغة الفارسية في قواعد علم النحو‘ مسطوره في حاشية كتاب جامع المقدمات تسمّى العوامل المنظومة.. حفظتها عندما درست الكتاب وكنت أطبّق الكتاب مع الأبيات التي كنت أترنّم بها وأنا أمشي، وربما أخطأت وصحح لي والدي (رحمه الله). ولكن حيث إنّ حفظي لها كان حفظاً جيداً تراني اليوم مازلت أتذكرها رغم مرور أكثر من خمسين سنة!

يوصي الشهيد الثاني (رحمه الله) في كتاب «منية المريد» طلاّب العلوم الدينية أن يكرّروا الدرس سبع مرات. ولو أوصيتكم بتكرار دروسكم سبع مرات لما قبِل ذلك مني أحد، ولكني أقول لكم: كرّروا كل درس أربع مرات على الأقل، وعلى النحو التالي:

**     مرة بمطالعته والتحضير له قبل طرحه من قِبل الأستاذ، ولو مطالعة إجمالية بحيث يعلق في الذهن خمسون بالمئة منه، فإنّ ذلك كفيل بإعطاء الفكر حرية أثناء الدرس لكي ينصب على الخمسين بالمئة الأخرى، بدلاً من أن يتوزّع خلال مدة الدرس المقررة على كل المادة. فما فُهم أثناء التحضير يكرر في قاعة المحاضرة، وما لم يفهم يتم ثمة فهمه بشكل جيد.

**    أما المرة الثانية فهو الحضور في الدرس، وقد أُشير إليه ضمن النقطة الأولى.

**    ثم تتحقق المرة الثالثة بمراجعة الدرس الذي تلقاه بعد ذلك.

**    لتأتي المرة الرابعة من خلال مباحثة مع زميل حول مادة الدرس.

وهكذا يتحقق تكرّر الدرس أربع مرات.

السيد محمد كاظم اليزدي مثالاً

يروي حفيد السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي (صاحب العروة الوثقى) أنّ جدّه راجع كتاب «الجواهر» من أوّله إلى آخره ستّ مرات، وذلك أنّه كان يباحث الكتاب مع زميل له مرتين في اليوم، فكانا يتباحثان صباحاً مثلاً ثم يبحثان الصفحة أو الصفحات نفسها مرة ثانية عصر ذلك اليوم. فهاتان مرتان.

وكان السيد يطالع المادة نفسها مرة قبل المباحثة الأولى، ومرة بين المباحثتين، ومرة بعد المباحثة الأخيرة فالمجموع خمسة، ولو أضفنا محاضرة الدرس ألتي كان يلقيها أصبحت مجموعها ستّ مرات.

أتعلمون ماذا أثمرت هذه المطالعة السداسية للجواهر من قِبل السيد اليزدي (رحمه الله)؟ لقد أثمرت كتاب «العروة الوثقى» الذي صدرت بعده مئات الرسائل العملية من مئات المراجع، ومازالت (العروة الوثقى) الرسالة العملية الحائزة على هذا الكمّ الهائل من شروح وتعليقات الفقهاء، حتى أنّك قد لا تجد فقيهاً له رسالة عملية دون أن يكون له إلى جانبها تعليق على العروة. هذا مع أنّ "العروة" ليس دورة كاملة في الفقه، بل لا نبالغ إذا قلنا: إنّه لا يحتوي على أكثر من ربع مادة الفقه، ففيه كتاب الطهارة والصلاة والصوم والزكاة والخمس وحوالي عشرة بالمئة من كتاب الحج، ثم كتاب المضاربة، وشذرات من الكتب الأخرى فكتاب النكاح لا يوجد منه سوى زهاء عشرة بالمئة، أما كتاب البيع فلم يتطرق إليه، كما أنّ كتب المعاملات أغلبها غير موجودة وكذا الديات والقضاء، وربما ثلاثة أرباع الفقه غير موجود فيه، ومع ذلك لا ترى مرجعاً لم يعلّق ويهمّش عليه حتى اليوم، وما ذلك إلاّ لإتقانه.

وهكذا نلاحظ أنّ كل مرجع يموت تموت رسالته معه وكذلك تعليقته على العروة الوثقى فيما العروة الوثقى باقية يعلّق عليها العلماء رغم مرور هذه المدة الزمنية على وفاة صاحبها، متميزة بذلك على سائر الرسائل العملية!

هذه هي نتيجة دراسة الجواهر بتلك الكيفية المتقنة. أما القراءة العابرة ومجرد الطنين فلم تكن لتنتج شيئاً من هذا القبيل.

قد يتعب الطالب نفسه أربع سنوات في المباحثة في كتاب الجواهر ولكنها لا تشكّل له سوى خلفية فقهية، أما تلك الاستفادة التي حصل عليها السيد اليزدي فلا يمكن تحقيقها إلاّ بذلك الإتقان.

4. الاهتمام بالخطابة والكتابة

على طلاّب العلوم الدينية أن يعنوا بهذين البعدين في شخصيتهم باكراً؛ لأنّهما من لوازم الشخصية العلمية والقيادية الناجحة، فكل الأنبياء والقادة والمصلحين يتمتعون بموهبة الخطابة، كما أنّك قلّما تجد عالِماً مبرزاً لم يعنَ بالكتابة منذ شبابه. فالإنسان في شبابه أكثر قدرة على التركيز والمجال مفتوح أمامه أكثر والمشكلات التي يعاني منها أقل - في الغالب -، فغير المتزوج مشكلاته أقل من المتزوج، والمتزوج أقل مشكلات ممن ليس عنده أولاد، وذو الولد الواحد مسؤوليته أقل من ذي الولدين، وهكذا كلّما تتقدم بالإنسان الحياة تقل الفرص أمامه وتكون مسؤولياته أكثر. ولهذا ينبغي المبادرة إلى تنمية هذين البعدين - الخطابة والكتابة - فبل فوات الأوان. وهاهنا ثلاث نقاط جديرة بالاهتمام:

أ. تقبّل النقد البنّاء

والناس في طريق رقيهم العلمي - ومنها الخطابة والكتابة - على طوائف:

فبعض الأشخاص يستاء لو وجّهتَ نقداً لعمله وإنتاجه كما لو نبهته على وجود أخطاء في كتابه أو أمور غير سائغة في خطابته، وبعض يتقبل النقد، وهناك طائفة ثالثة تطالب الآخرين بالنقد وترحب به من أجل تطوير عملها.

روي أنّ صاحب الجواهر كان يطلب من تلاميذه أن يذكروا له كل نقد يأتي إلى أذهانهم على المادة التي يلقيها عليهم في درس الخارج يومياً، ولهذا كانت دروسه (رحمه الله) تتميز بالفاعلية والنشاط، فهذا (الطالب) يناقش استاذه في سند الرواية التي ذكرها، وذاك يستفسر عن صحة اللفظ وثالث يعترض على مداليله، وآخر يشكك في الإجماع المدّعى مثلاً، وهكذا كان الشيخ يجمع علوم الناس إلى علمه.

وفي أحد الأيام لاحظ الشيخ (رحمه الله) أنّ أحداً من طلابه لم ينتقد الدرس الذي ألقاه، فتعجب وتوجه إليهم بالقول: لم أسمع اليوم مَن يوجه نقداً فهل كان ما ذكرناه اليوم وحياً من‍زلاً أم ماذا؟! فأجابه الطلاب: كلا أيها الأستاذ، ولكنا لم نطالع الدرس ونحضّر له أمس بسبب كثرة الحشرات وحرارة الجو، فدعنا نراجع المادة اليوم لنرى إن كان كل ما قلته صحيحاً أم لا.

ونحن لا نقول: إنّ كل النقد الذي كان يوجّه للشيخ كان صحيحاً، ولكن لو افترضنا أنّ نسبة منه - مهما قلّت - كانت صحيحة، فإنّ الشيخ كان يستفيد منها. إذن لندع الآخرين ينقدوننا ونشجّعهم ثم نطوّر قابلياتنا بالاستفادة من وجهات النظر الصحيحة من بينها.

ب. البحث عن مدرّسين أو دورات للخطابة والكتابة

إنّ الاعتماد على الأستاذ والاستفادة من خبرته وإرشاداته والكتب التي يرشّحها، والتدرّب لديه، يعني الوصول إلى الهدف بصورة أفضل وأسرع. ولا ينبغي اليأس بسرعة من الحصول على أستاذ، لأنّ ذلك يتطلّب بحثاً (ومَن جدّ وجد)، ومَن عجز عن الحصول على أستاذ وهو في هذه الحوزة التي هي مجمع الحوزات كلها اليوم، فإنّه سيكون في غيرها أعجز. إنّ المسألة تتطلّب المتابعة والمثابرة وعدم اليأس.

ج‍. تخصيص جزء من الوقت لحفظ النصوص

وهذه المسألة تنفع في الدروس الأساسية أيضاً - فضلاً عن الخطابة والتأليف ­- فإنّك حتى لو درست المادة الفقهية كالشرائع ودرسته عشرات المرات، قد تنسى قسماً كبيراً منه بعد مرور عشرين سنة، أما إذا حفظت منظومة فقهية إلى جانب ذلك، فإنّ ما يبقى عالقاً في الذهن سيبقى هو الأكثر، وهكذا الحال مع المواد الأخرى كألفية ابن مالك في النحو، وغيرها في غيره، ولا داعي لأن تثقل كاهلك بل يكفي أن تحفظ كل يوم عدة أبيات ستبقى معك في المستقبل.

إنني أعرف شخصياً مرجعاً مبرزاً، لو قسمنا الناس في الذكاء إلى عباقرة ومتوسطي الذكاء وأغبياء، ثم قسمنا متوسطي الذكاء إلى درجات، لا يُعد ضمن الدرجات المتقدمة في متوسطي الذكاء - بنظري - ولكنّه مع ذلك مرجع تقليد معترف به بلا إشكال، وقد بلغ هذه المرتبة بفضل حفظه المتقن للمسائل الشرعية، فهو مثلاً يحفظ متون الإرث وطبقاتها والمقادير والنسب التي يخص كلاًّ منها، وعدد الحاجبين ومَن هم، رغم أنّها متشعّبة كثيراً.. وهكذا الحال مع كل الفروع الفقهية حتى ذات الفروع والتشعبات الكثيرة كالزكاة والحج وغيرهما.

فلو استطعت أن تحفظ أمهات المسائل والأصول والخطوط العامة حفظاً جيداً بحيث يمكنك استحضارها متى شئت، فإنّك يمكن أن تبني عليها وتصل إلى نتائج جيدة. فإنّ ما ذكرنا من أمور متقدمة إذا عمل بها طالب العلم، استطاع - رغم كل المشكلات المعيقة - أن يحصل على نتائج في الدنيا والآخرة، وعلى رأس تلك الأمور ذكر الله تعالى باللسان والقلب، أعني التوجه الدائم إلى الله سبحانه وتعالى، «ألا بذكر الله تطمئن القلوب».

أسأل الله تعالى أن يوفّقني وإياكم لذلك.

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.


[1]ـ  سورة الرعد: 28.

[2]ـ  سورة الأعراف: 32.

[3] سورة المائدة: 105.

*  من محاضرات سماحة المرجع الديني آية الله العظمى الحاج السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله الوارف).