شهر رمضان شهر بناء النفس والمجتمع*

خلال استقباله جمعاً من طلبة العلوم الدينية في أواخر شهر شعبان، تحدث سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله) عن دور شهر رمضان في جهاد النفس وبناء الذات، وكذلك في الدعوة والتبليغ وتغيير المجتمع، قائلاً:


مقدمة


في الخطبة التي خطبها رسول الله صلّى الله عليه وآله في استقبال شهر رمضان المبارك وردت عبارة ذات أهمية قصوى وهي قوله صلّى الله عليه وآله: «وجعلتم فيه من أهل كرامة الله»، فإن كلمة «كرامة الله» لم تستعمل في لسان الروايات كثيراً، ولم ترد إلا في موارد خاصة وذات أهمية في نظر أهل البيت سلام الله عليهم، مثل قول الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه في بعثة النبي صلّى الله عليه وآله: «حتى أفضت كرامة الله سبحانه وتعالى إلى محمد صلى الله عليه وآله فأخرجه من أفضل المعادن منبتاً»[1]، وقول النبي صلّى الله عليه وآله للإمام علي سلام الله عليه في تزويجه بالزهراء سلام الله عليها: «إن الله تعالى أكرمك كرامة لم يكرم مثلها أحداً»[2]، وهكذا ما ورد في الروايات الشريفة بشأن زائر الإمام الحسين سلام الله عليه.

وإذا كان بعض الناس – وهم قليل – قد بلغوا هذه المرتبة، أي صاروا أهل كرامة الله، فإن كل مؤمن في هذا الشهر الكريم (شهر رمضان المبارك) قد جُعل من أهل كرامة الله تعالى. وهذه الكرامة لا تخصّ الصائمين فقط بل هي لكل مؤمن، سواء أكانت وظيفته الصيام فصام، أم لم تكن وظيفته الصوم كالمسافر والمريض. إن هذه الكرامة هي لهذا الشهر الكريم، للياليه وأيامه، وكل ساعاته. فالعناية الإلهية تشمل الجميع، ولكن من صفات الله تعالى المهمة وأسمائه الحسنى «الحكيم» أي إنه تعالى يضع الشيء في موضعه، وهذا معناه أن التوفيق الإلهي وإن كان شاملاً في شهر رمضان لكل العباد، ولكن قدراً منه يرتبط بمقدار همتنا وتوجهنا وجهدنا.

أذكّر في هذه المناسبة بموضوعين، الأول منهما عام وإن كنا نحن أهل العلم مشمولين به أيضاً، وهو بناء النفس، والثاني خاص ويتعلق بنا نحن أهل العلم في الغالب، وإن كان الآخرون يشملون به بدرجات متفاوتة، وهو التبليغ.


1 - شهر رمضان فرصة مناسبة لبناء الذات


إن شهر رمضان المبارك هو شهر بناء الذات وتغيير النفس، وهذا الأمر مطلوب من الجميع، يستوي في ذلك أهل العلم وغيرهم، ومهما يبلغ المرء درجة في هذا الطريق فثمة مجال للرقي أيضاً.

يقول النبي صلّى الله عليه وآله: «فإن الشقي من حُرم غفران الله في هذا الشهر العظيم». وهذا معناه لو أن أحداً أهمل بناء نفسه في هذا الشهر المبارك وقصّر حتى مرّ عليه ولم ينل المغفرة الإلهية التي هي في هذا الشهر أوسع وأسرع وأعظم منها في سائر الشهور، فإنه هو الشقي حقاً. هذا هو المستفاد من الروايات، لأن بناء الذات واجب عيني في حد أداء الواجبات وترك المحرمات. فعلى الإنسان أن يحاول في هذا الشهر المبارك أن يعمل حتى يبلغ مرحلة يعتقد فيها أنه تغيّر فعلاً وأنه أصبح أحسن وأفضل وأن فرقاً حصل عنده.

لاشك أن كل إنسان يتمنى لنفسه التغيير نحو الأفضل، ولكن المسألة ليست بالأماني، فبالأماني وحدها لا يتحقق التغيير، بل هو بحاجة إلى عزم وتصميم ومتابعة ومثابرة وجدّ واجتهاد. فمن لم يقصّر في المقدمات يوفَّق لا شك في ذلك ولا شبهة؛ لأن هذا هو الهدف الأصلي لخلق الإنسان، وهو صريح القرآن الكريم؛ يقول الله تعالى: «وما يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم»[3] أي ليرحمهم. فهل يعقل أن يضع الإنسان نفسه موضع الرحمة بأن ينبري لطاعة الله والتقرب إليه، ثم لا يرحمه الله؟! حاشا لله، فهذا محال في منطق الحكمة والعقل، ولا إمكان له، فضلاً عن الوقوع، ولكن على الإنسان أن يصدق مع نفسه ويسعى في هذا المجال. يقول الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه: «من طلب شيئاً ناله أو بعضه»[4].

إن الصلوات والأدعية والزيارات والأعمال الواردة في شهر رمضان المبارك بنفسها معدات لتحقق بناء الذات، بيد أن المرء قد لا يسعه الوقت للقيام بها كلها، بسبب تزاحم مشاغل قد تكون هي الأخرى مطلوبة كالتبليغ مثلاً، فليس هناك طريق للتوفيق أسهل من طريق محاسبة النفس، لأنّها مطلوبة جداً ولها تأثير كبير على الإنسان، ففي كتب الروايات كالكافي والبحار وغيرهما باب مستقل في محاسبة النفس، وهناك روايات معتبرة وصحيحة سنداً عن الأئمة المعصومين سلام الله عليهم مضمونها أنه ليس منا من لم يحاسب نفسه كل يوم إن عمل خيراً استزاد وإن عمل شراً استغفر.

فليخصص المرء كل يوم من شهر رمضان بعض وقته يخلو فيه، ويراجع ما مضى منه خلال الساعات الماضية، فينظر ما عمل وما قال وما سمع وما رأى وما أخذ وما أعطى، وكيف تصرف مع زوجته وأطفاله وأصدقائه وزملائه؟ وباختصار فيم صرف وقته؟ فيصمم على أن يزيد من حسناته ويقلل من سيئاته.

وهذا الطريق بنفسه يمكن أن يصل بالمرء في هذا الشهر إلى موقع بحيث يستوى عنده الدينار والمليار دينار بما هو دينار ومال، فلا يركض خلف الثاني كما لا يركض خلف الأول بالدرجة نفسها، وفي المقابل يهتم بفقدان الثواب مهما كان ضئيلاً، فلا يتهاون عن الإتيان بالفضائل التي يمكنه الإتيان بها، لا تختلف عنده إن كانت الفضيلة قول (استغفر الله) مرة واحدة أو الاستمرار على تكرارها طيلة الشهر الكريم كله!!

يمكن للإنسان أن يصل عن هذا الطريق لمراتب عالية، وقد وصل كثيرون درجة لم يعد يزيد الترغيب من اندفاعهم ولا يقلل منه التثبيط، مع أنهم بشر لهم شهوات ورغبات ويدركون معنى الترغيب والتثبيط ولكن الإدراك شيء والقبول والتأثر بهما شيء آخر.

قد يكون الترغيب مفيداً في حالات التزاحم والتفاضل، ومثاله: أن تكون مواظباً على قراءة دعاء ما في كل ليالي شهر رمضان، ولكن صوّر لك شخص أن ذكراً آخر أكثر ثواباً في ليلة ما من ليالي الشهر، ولم يكن عندك وقت لأداء الاثنين، فههنا يمكن أن يدفعك الترغيب للتخلي عن الدعاء الأول لصالح الثاني، فالتأثر بالترغيب هنا يختلف عما لو كنت متكاسلاً عن التوجه للدعاء أصلاً فيرغبك شخص بالقول إن ثوابه عظيم فلا تدعه، أو العكس بأن يثبطك آخر فيدعوك للسمر وترك الدعاء قائلاً إنك قد قرأته في أغلب الليالي فدعه الليلة. مثل هذا الترغيب والتثبيط يكونان سواء عند بعض الأشخاص في عدم التأثير في ترك العمل أو الإتيان به، فلا الترغيب يدفعهم أكثر ولا التثبيط يُضعفهم ويقلل من اندفاعهم.

ولا شك أن بلوغ هذه المرحلة يحتاج إلى عمل كثير ومواظبة؛ فللشهوات أثرها السلبي كما للشياطين آثارها السلبية، وكذا أصدقاء السوء والمشكلات، ولكن إذا اقتنع الإنسان بإمكانية الوصول وتوكل على الله تعالى، فإن هذا الاعتقاد بنفسه سيوصله، ومن مفاتيحه السهلة محاسبة النفس؛ بأن يكون الشخص ملتزماً بتحديد أوقات طيلة اليوم يراجع فيها نفسه وما عمله، وأن يكون الوقت مناسباً، فلا يكون عند الجوع ولا الامتلاء ولا انشغال الذهن بأمر آخر يحول دون التأمل والتفكير جيداً بل يكون في وقت يمكنه الاختلاء بنفسه ومراجعة ما صدر منها.

يقال: إن بعض الأفاضل طلب من أستاذه العالم أن ينصحه نصيحة تنفعه طيلة عمره، وكان على وشك الفراق منه، فقال له العالم: خصص لنفسك كل يوم وقتاً تحاسب فيه نفسك وإن قلّ. يقول ذلك الفاضل: عملت بنصيحة أستاذي العالم حتى أصبحت محاسبة النفس حاضرة في ذهني ما دمت مستيقظاً. وهذا يدل على ارتكاز الحالة في ذهنه حتى لكأنها صارت ملكة عنده.

أرأيت نفسك إذا كنت تترقب وقوع أمر محبوب لك، كتعيينك في منصب مثلاً، فإن هذا الأمر لا يغيب عن ارتكازك حتى تنام، يشير إلى هذا الارتكاز عمله وفاعليته، فإنك تحاول أن لا تعمل خلال هذه المدة كل ما من شأنه أن يحول دون تحقق ذلك الأمر المحبوب، وتنجح في ذلك لأن القضية حاضرة في ذهنك مادمت مستيقظاً، ويعود الارتكاز بمجرد استيقاظك من النوم مرة أخرى، والدليل على ذلك عودته إلى التأثير في تصرفاتك وعدم القيام بما يتعارض معه.

هكذا هو حال من كان الله تعالى حاضراً عنده دائماً، فإن محاسبة النفس لا تغيب عنه ما دام مستيقظاً، وهذا ممكن بترويض النفس بأن يخصص المرء وقتاً من يومه يزيده قليلاً كل يوم، يراجع فيها نفسه وينظر إلى أعماله ونواياه، فكلما رأى خيراً استزاد أي طلب من الله الزيادة وسعى هو أيضاً في الإكثار منه، وكلما رأى شراً استغفر الله منه وحاول الإقلاع عنه.

وشهر رمضان خير فرصة لهذه التجربة، ولو أضيف إليه عشرة أيام من شوال لتصبح أربعين يوماً فذلك خير؛ إذ إن الحالة قد تقترب من الملكة، ويصبح التخلي عنها بعد ذلك مستبعداً، لأن الشخص يحس عندها بلذة لا تضاهيها اللذة التي يحصل عليها من تناوله ألف طعام لذيذ أو أية لذة مادية أخرى. فلو وضعت كل اللذات المادية الدنيوية في جانب، ووضعت إحدى اللذات المعنوية في جانب آخر لرجحت الأخيرة، لا بل اللذة المعنوية واقعية والماديات كلها خيال ووهم.

روي عن بعض من وُفِّق لزيارة ولقاء الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف أنه كان يقول: «لقد بلغتُ مرحلةً المرض أحب إلي من الصحة، والفقر خير لي من الغنى». ولقد كان صادقاً في قوله لأنه كان يلتذ باللذات المعنوية بدل اللذات المادية.

ولكن القول الأصح هو حديث أئمة آل البيت سلام الله عليهم، وهو: «الرضا بما قدّر الله» فإنهم سلام الله عليهم لا يريدون المرض ولا الصحة، ولا الفقر ولا الغنى بل ما قدّر الله، فهو مرادهم أيضاً.

فليصمم كل واحد منا منذ أول شهر رمضان المبارك على تخصيص وقت لمحاسبة نفسه كل يوم، وليدعوا الذين وفقوا لذلك، لمن لم يوفقوا أو قلّ توفيقهم، عسى الله أن يوفقنا جميعاً.


2 - رمضان شهر التغيير الاجتماعي


أما المسألة المرتبطة بنا نحن أهل العلم في الغالب، وإن كانت عامة أيضاً ولكن بمراتب، فهي مسألة التبليغ والدعوة إلى الله تعالى. يقول الإمام الصادق سلام الله عليه: «كونوا زيناً ولا تكونوا شيناً»[5]. والزين على درجات ومراحل. فتارة يسعى أحد أهل العلم أن لا يفعل ما من شأنه أن يسيء للإسلام، فهذه مرحلة، وهي مرحلة مهمة أيضاً ولا بد منها. وتارة يسعى أحدهم لأن يتصرف بنحو يؤثر في الناس أيضاً من خلال سلوكه وتعامله مع الآخرين. وهذه مرحلة أعلى، وهي المعنية بقول الإمام سلام الله عليه في رواية صحيحة: «كونوا دعاة الناس بأعمالكم». [6] وهذا لا يعني ترك الدعوة القولية، بل عدم الاكتفاء بها فهي مطلوبة أيضاً، ولكن الدعوة العملية أفضل آلاف المرات.

لو لاحظ ذوونا وزملاؤنا أنا نسعي لأداء صلواتنا في أوقاتها فإنهم سيلتزمون بذلك في الغالب حتى لو لم ندعهم بألسنتنا. وهذا لا يعني عدم وجود استثناءات ولكن التبليغ العملي والتربية والدعوة العملية بطبيعتها تؤثر أكثر آلاف المرات من الدعوة القولية. فما فائدة أن تدعو ابنك لأداء صلاته أوّل الوقت وهو يراك لا تكثرت أنت بذلك؟!

إن الذين عايشوا أشخاصاً اعتقدوا بصلاحهم - لما لاحظوهم يسعون أن لا تختلف أفعالهم عن أقوالهم - هم أفضل في الغالب من الذين استمعوا آلاف المواعظ وربما قالوها أيضاً، ولم يروا نماذج عملية.

في رواية صحيحة أخرى أن الإمام سلام الله عليه قال: «كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم»[7]. إذن ليكن الفرد منا مبلّغاً في أعماله إلى جانب أقواله وقلمه.

أعرف اثنين من أهل العلم، كلاهما توفيا رحمهما الله، وكان أحدهما مقدماً على زميله في كثير من المجالات، كالمستوى العلمي والذكاء والأساتذة و... ولكن زميله كان أكثر تأثيراً في المجتمع بمراتب كثيرة.

أذكر نموذجين من عملهما رحمهما الله؛ كان الأول أي المتفوق علمياً، جالساً في أحد الأيام في إحدى المشاهد المقدسة منشغلاً بالزيارة أو الدعاء، وكان المكان مزدحماً بالزوار، فجاءه شخص من عامة الناس وبيده مصحف وطلب منه أن يستخير الله تعالى له، ولم يكن ذاك العالم يحب أن يقطع أحد عليه خلوته ودعاءه، فأشار إلى الشخص أن يذهب إلى غيره، ولكن الشخص لم ينتبه فتصور أن العالم لم يلتفت، فتقدم إليه بالمصحف قليلاً وأعاد طلبه. ومرة أخرى أشار له العالم بالذهاب إلى غيره. ولم يلتفت الرجل أيضاً، لأن من عنده مشكلة، لا يلتفت بالإشارة وما أشبه عادة. فاقترب أكثر وكرر طلبه. فغضب العالم ولكنه لم يكلّم الرجل لأنه رأى أن الوقت الذي ستستغرقه الاستخارة ربما يكون أقل. وعندما أخذ منه المصحف رآه مقلوباً، وهنا لم يتمالك نفسه وشرع يصرخ في وجه الرجل: لقد شغلتني عن قراءتي وقطعتني عن توجهي، وما أشبه من هذه الكلمات، ولكن ذلك الرجل كان غارقاً في همومه غير ملتفت إلى الموضوع أصلاً، فعجب منه وانصرف.

أما ذلك العالم الآخر- أي زميل هذا العالم – فطالما رأيته في شدة الظهيرة، والعرق يتصاب من وجهه، إذ يقبل عليه شخص، فيطلب منه سؤالاً أو استخارة، وربما كان السائل صبياً أو طفلاً صغيراً، فكان رحمه الله يجيبه وهو في مكانه ولا يطلب منه التحول إلى الظل رغم أنه لم يكن يبعد أكثر من مترين!

ومثل هذا الإنسان بطبيعة الحال أسعد حالاً، وأقلّ معاناة من غيره في الحياة الدنيا، لأنه لا يفكر عند النوم إلا في همّ آخرته، أما الدنيا فلا يكترث بها، فروحه لا تشعر بالألم وإن كان بدنه في بعض العناء. وهذا لا يعني أنه لا يشعر بالمشاكل المادية ولا يفكر في حلها، ولكنها لا تشغل ذهنه ولا تعذّبه. ولتوضيح الحالتين نضرب مثالين: إذا سقط ابن جار لك من على السطح أو وقع فريسة مرض عضال فإنك قد تهرع لمساعدته ولا تقصر في تقديم المعونة له، ولكن حالتك النفسية والروحية تختلف عما لو كنت أنت المبتلى أي كان المريض ولدك، فإنك في الحالة الثانية تتعرض لضغط روحي وآلام نفسية قد لا تشعر بها في الحالة الأولى.

إذا سنحت لكم الفرصة قوموا بزيارة لمستشفيات الأمراض العقلية؛ هل ترون فيهم مؤمناً حقاً؟ راجعوا التاريخ هل تجدون بين المنتحرين مؤمناً حقيقياً؟ وليس المقصود بالمؤمن من يصلي ويصوم فقط بل «الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون»[8]. إنك قد تجد في مرضى المصحات العقلية الشاب القوي والمرأة الجميلة، والوزير والرئيس والمليونير، ولكن لا تجد فيهم مؤمناً واحداً؛ وذلك لأن المؤمن لا يتحطم إلى تلك الدرجة؛ فما أعظم قيمة الإيمان!

وهذا بحد ذاته هو التربية العملية والدعوة العملية التي نتحدث عنها. ولذلك تراني أتذكر اليوم قصة هذين العالمين رغم مرور عشرات الأعوام عليها.

وهكذا قد يتذكر الإنسان في الشدائد بعض المواقف العملية بسرعة ولا يتذكر أياً من الآيات والروايات أو المواضيع التي قرأها أو سمعها أو قالها.

فلنسع لتقديم النماذج العملية للناس وهو ما أراده وطلبه منا الأئمة الأطهار سلام الله عليهم أجمعين، ولا يقتصر دورنا في هذا المجال على أنفسنا بل علينا أن نحول دون ابتعاد الناس من الإسلام وعلماء الدين. فإذا ما صدر من أحد أهل العلم تصرف مشين نسعى لتداركه ولا نقولن إنه تصرفه ولا علاقة لنا به، بل علينا أن نحاول تداركه لئلا يبتعد الناس عن الدين والمذهب.

ولنا في أئمتنا سلام الله عليهم أسوة. فهذا أمير المؤمنين سلام الله عليه قد ترك حقه مخافة أن يرتدّ الناس، فإن كنا مأمومين للإمام سلام الله عليه - ولكل مأموم إمام يقتدي به - فلنقتد بإمامنا سلام الله عليه في هذا المجال أيضاً.

ولنا في موقف الإمام الحسين عليه السلام مع الحر وأصحابه في كربلاء قدوة أيضاً، فإن الإمام سلام الله عليه سقاهم الماء مع أنه كان يعلم أنهم – إلا الحر – قاتلوه بعد ساعة! وكانت مأموريتهم تسليم الإمام سلام الله عليه لابن زياد، فكانوا أظهر مصاديق البغاة والمنافقين والمحاربين والخوارج والنواصب لا شك في ذلك ولا شبهة! وكانوا مسلحين لكي يجبروا الإمام على التسليم والاستسلام وإن لزم الأمر باللجوء إلى القوة.

ولكن تصرف الإمام سلام الله عليه هو الذي أبقى التشيع حياً وجعلنا شيعةً هذا اليوم. فلم يكن مهماً عند الإمام أن يسقي القوم حتى وإن اقتصى أن يترجل ويسقي العاجز منهم بنفسه أو يأمر أصحابه بترشيف الخيل كما تقول الروايات، إنما المهم عند الإمام هو الإسلام ودعوة الناس إليه.

وهكذا كان تصرف النبي صلّى الله عليه وآله مع مشركي بدر إذ سقاهم، وكذلك سقى الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه أصحاب معاوية في صفين.

كلكم سمعتم بقصة خالد بن الوليد وما فعله مع بعض القبائل المسلمة، ولكن الرسول صلّى الله عليه وآله لم يكتف بالبراءة من صنع خالد، وإنما أرسل الإمام علياً سلام الله عليه ليديهم:

«عن فضالة عن أبان عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر الباقر سلام الله عليه قال بعث رسول الله صلى الله عليه وآله خالد بن الوليد إلى حي يقال لهم بنو المصطلق من بني جذيمة وكان بينهم وبينه وبين بني مخزوم إحنة في الجاهلية، فلما ورد عليهم كانوا قد أطاعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وأخذوا منه كتاباً فلما ورد عليهم خالد أمر منادياً فنادى بالصلاة فصلى وصلوا. فلما كان صلاة الفجر أمر مناديه فنادى فصلى وصلوا، ثم أمر الخيل فشنوا فيهم الغارة فقتل وأصاب. فطلبوا كتابهم فوجدوه فأتوا به النبي صلى الله عليه وآله وحدثوه بما صنع خالد بن الوليد. فاستقبل صلى الله عليه وآله القبلة ثم قال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد.

ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله بر ومتاع، فقال لعلي سلام الله عليه: يا علي ائت بني جذيمة من بني المصطلق فأرضهم مما صنع خالد.

ثم رفع صلى الله عليه وآله قدميه فقال: يا علي اجعل قضاء أهل الجاهلية تحت قدميك.

فأتاهم علي سلام الله عليه، فلما انتهى إليهم حكم فيهم بحكم الله، فلما رجع إلى النبي صلى الله عليه وآله، قال: يا علي أخبرني بما صنعت؟ فقال: يا رسول الله عمدت فأعطيت لكل دم دية ولكل جنين غرة ولكل مال مالاً، وفضلت معي فضله فأعطيتهم لميلغة كلابهم وجلة رعاتهم وفضلت معي فضله فأعطيتهم لروعة نسائهم وفزع صبيانهم، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لما يعلمون و لما لا يعلمون، وفضلت معي فضله فأعطيتهم ليرضوا عنك يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وآله: يا علي أعطيتهم ليرضوا عني؟ رضي الله عنك يا علي! إنما أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي»[9].

هذا هو الإسلام. فلنسع أن نصلح وإن خرّب غيرنا. ونقول للناس: إن النبي والأئمة سلام الله عليهم لم يكونوا هكذا بل كانوا صلحاء ومصلحين، فلا تتأثروا بما يصدر من غيرهم.

في رواية صحيحة – عن الإمام الصادق عن الإمام الباقر سلام الله عليهما – أن الإمام السجاد سلام الله عليه كان مديناً لشخص بأربعمئة دينار ثم وفاه بعد ذلك. إلا أن الشخص كان قد أنكر على الإمام ذلك وطالب بالمبلغ مجدداً أو أن يحلف الإمام بالله تعالى أنه وفاه، ولكن الإمام أمر ابنه الباقر سلام الله عليهما أن يعطيه المال ولم يكن مستعداً لأن يحلف. وكان الدينار الواحد يمكن أن نشتري به خروفاً يومذاك، ما يدل أن المبلغ لم يكن قليلاً، ومع ذلك لم يحلف الإمام وهو صادق، ولم يقل مثلاً: دعنى اُقسم صادقاً ثم أتبرع بالمبلغ للفقراء، بل علمنا التبليغ العملي.

نسأل الله تعالى ببركة أهل البيت سلام الله عليهم، وراعينا حضرة بقية الله الأعظم أرواحنا لمقدمه الفداء، أن يوفقنا جميعاً. وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.


[1]  نهج البلاغة، الخطبة 94.

[2] بحار الأنوار، 16/ 48.

[3] سورة هود / 119.

[4] نهج البلاغة، من قصار الخكم.

[5] الكافي 2 / 77.

[6] بحار الأنوار 5 / 698.

[7] بحار الأنوار 67 / 303.

[8] سورة الأنفال / 2.

[9] بحار الأنوار 106 / 423.

* من محاضرات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظلّه)