بواعث سن القانون في دولة المؤسسات والحقوق

  كريم المحروس(1) 

تختلف جذور الحقوق عند المذاهب الفلسفية أو العقائدية. فالإلهيون يرون أن الجذور تنشأ من الإله سبحانه وتعالى، الذي هو واضع الحقوق بلا واسطة، بينما بعض الايديولوجيات الاخرى ترى أن الله سبحانه فوض جعل الحقوق للبشر، كما هي الحال عند بعض المذاهب المسيحية التي ترى أن قيصر فوض من قبل الرب تحديد الحقوق، فهي تـنتهي عندهم إلى الله سبحانه وتعالى بالواسطة لا مباشرة.

وتقسم الحقوق حسب الآراء المختلفة إلى ثلاثة:

الأول: أن الفرد هو الاصل في الحقوق، وأن المجتمع متطفل عليه اضطرارياً أو من جهة الفطرة.

الثاني: أن الاجتماع هو جذر الحقوق، وإنما الفرد شيء بسيط في هذا الجهاز العام.

الثالث: أن كليهما جذر الحقوق، فليس أحدهما اصلاً والآخر فرعاً. وإذا تعارض حق الفرد وحق المجتمع تلاحظ مسألة الأهم والمهم، فان لم يكن هناك مهم وأهم فاللازم اتباع التقسيم بين الجانبين أو الاقتراع لترجيح جانب على آخر. وما أشبه ذلك.

ويرى الالهيون أن الغرض من وضع الحقوق وتحديدها، تأمين حالة الفرد بكل أبعاده وعلى الأخص بعداه الفردي والاجتماعي، اضافة إلى بعده الكوني الشامل للدنيا والآخرة. ويشمل الحق بالمعنى المعروض كلاً من الله عز وجل والانسان والحيوان والنبات والجماد، لكن الحق على الله سبحانه ليس بمنزلة الحق على غيره.

هذه البحوث وغيرها من متعلقات الحقوق يستعرضها كتاب (الحقوق) للمرجع الديني الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي وهو من أروع الكتب في مجاله، ليس لكونه عرضاً اسلامياً لباب مهم من ابواب العلاقة بين الإنسان وخالقه، بل لأنه الكتاب الذي يذهب إلى تفصيل وقائع الحقوق، ودمج نظرياته بالحقائق المعاشة لدى بني البشر، موضحاً بدقة شؤوناً في غاية الاهمية.

إذ يتطرق في مقدمة الكتاب لتعاريف ومصطلحات مختلفة. ثم يستخلص تعريفا كاملا للحق، وهو عبارة عما يلزم الإنسان له أو عليه فردا أو في المجتمع، فإذا الفرد أيضاً له الحق كالانتفاع من أشجار الغابة وحيوان البر والجو وعليه الحق كحق الله سبحانه وحق نفسه على نفسه وحق الحيوان وحق الجماد. ويعتبر هذا التعريف مبتكرا، لأنه بمعنى أوسع عندما يعتبر الحق شاملا لأربعة أقسام هي: الملك والمنفعة والانتفاع وملك أن يملك.

وفي جانب آخر من مقدمة الكتاب يعرف السيد الشيرازي الحق بأنه: شيء للفائدة أو على الضرر، والأول يسمى حقا والثاني واجباً. مستـنتجا أن القانون يجب أن يتكئ على أحد الثلاث: العدل، أو النصفة، أو الاحسان. لا على القدرة سواء كانت قدرة السلاح أو الرجال أو المال أو الجمال مثلا، فوقـتـئذ لا يحترم القانون ولا ينظر إليه عاقل بمنظار الشرعية.

وتنقسم الحقوق عند الامام الشيرازي إلى حقين:

الأول: الحقوق الفطرية، وهي التي تلائم الإنسان والحيوان والنبات والجماد حسب رتبتهم الكونية، بل يمكن أن يقال بتلك الحقوق لخالق الكون أيضاً حيث أن له سبحانه مكانته الخالقية وتلك المكانة لها حقوقها من الاطاعة والشكر ونحوهما.

الثاني: الحقوق الموضوعية، وهي تلك التي يضعها الإنسان بزعم أنها تطابق الحقوق الفطرية. ويستظهر آية الله الشيرازي أن (الحرية) هي من الحقوق الفطرية، ويتحدث عن تطور الفقه ومدى قدرته على تلبية متطلبات العصر الحديث، ويقول:

إن الحقوق عبارة عن الفطرة، ثم ما لا تصل الفطرة إليه وهي الشريعة، والفطرة وإن كانت متطابقة في الكليات مع الشريعة إلا أن الإنسان حيث لا يكون محيطاً لابد وأن يقف مكتوف الايدي أمام كثير من الأحداث فلا يتمكن من جعل القانون لها بخلاف الله سبحانه المحيط بكل شأن من الشؤون، ولذا نشاهد أن بتقدم العلوم تظهر فلسفة بعض الأحكام مما كان الإنسان لا يدركها في وقت تشريعها.

اما المدارس الأخرى القائلة بان مستند القانون شيء آخر من العدالة أو التجربة أو الاجتماع، فإنهم وإن استدلوا لآرائهم ببعض الأدلة إلا أنها ليست تامة. فعلى سبيل المثال استدل أصحاب مدرسة العدالة بأن الإنسان عادل في طبيعته وهذه العدالة هي مبعث التقنين، واستدل أصحاب مدرسة التجربة بأن القانون هو انعكاس من التجارب، أما مدرسة الاجتماع فرأت أن القوانين تتبع العرف والعادة ولذا تختلف باختلاف الاعراف والتقاليد.

غير أن الامام الشيرازي يتقدم ببحث مسألة في غاية الاهمية، لكنها موضع جدل بين فقهاء الحقوق الإلهيين والماديين، فضلا عن المهتمين والناشطين في مجال الحقوق والقانون. فعلماء الحقوق استدلوا بأن الإنسان ولد حرا ويبقى حرا، ولا يمكن لأحد أن يسلب حريته، بينما الدين الالهي يؤطر بعض حرية الإنسان في مصلحته أيضاً في دنياه أو آخرته، وأن حريته محدودة بحرية الآخرين إذ تقف أمامها، والدولة وغيرها يتوجب عليها أن تحمي هــــذه الحرية، فلا يحق لأحد أن يضر بالآخرين أو أن يسلب حرياتهم وكذلك العكس، ومن هذا المنطلق تكون وحدات كالاقتصاد والسياسة والاجتماع والدولة والعقود وغيرها كلها تابعة للانسان، فالكل يدور مدار الإنسان.

ففي حقل الاقتصاد يكون المعيار (دعه يعمل دعه يسير) وفي حقل السياسة هو حر في نشاطه السياسي كالانتخاب والترشيح إلى أبعد الحدود، وفي حقل الاجتماع له أن يجتمع مع أن يشاء وأن يتزوج ممن يشاء، وفي حقل العقود والتجارة له أن يبيع أو يرهن أو يؤجر أو يستورد ويصدر دون قيود جمركية وما أشبه، وفي حقل الثقافة له أن ينخرط في أية ثقافة، إلى غير ذلك مما يحفظ كرامة الإنسان وحريته الفردية.

وعلى ذلك فوظيفة نظام الحقوق جعل القوانين لحفظ التنسيق بين الافراد الذين يتكون منهم المجتمع. والعدالة هي الاطار الذي ينظم سن قوانين الحقوق والحريات على أساس المبادئ الشرعية والثوابت الدينية.

وفي مجالات النظرية الفردية يرى آية الله الشيرازي أن النظرية الفردية أقرب إلى العقل والمنطق وإلى الفطرة، حسب الأدلة المتوافرة في المقام الشرعي حسب شروط محددة هي:

1 ـ أن يكون حقه، فلا يحق لإنسان استغلال آخر ولو بالاكراه الاجوائي، مثلا: الانتاج حاصل من العمل والعمال ورأس المال والادارة وصاحب المال، فاللازم أن يوزع الربح على الخمسة حسب حقوقهم العادلة في نظر العرف وبذلك لا تتحقق الرأسمالية الغربية، بل الرأسمالية بمعناها الإسلامي حيث قال عز من قائل : (لكم رؤوس أموالكم).

2 ـ أن لا يقع ضرر على الآخرين، وهذا الشرط عبارة عن تحقق الموضوع لأن حق الفرد محدود بحدود الآخرين كما أسلفنا، كما أن حرية كل فرد محدودة بحريات الأفراد الآخرين.

3 ـ تقسيم حقه بين جانبيه الفردي والاجتماعي، فإن الإنسان فردي من ناحية واجتماعي من أخرى، ولذا فاللازم أن يقسم سعيه بين الجانبين، فإعطاء المجتمع شيئاً من سعيه ليس بمعنى أن الاجتماع سلبه حقه أو أن الدولة هي الحالة والاصل والفرد هو المحكوم والفرع، بل بمعنى منح جانبه الاجتماعي حقه أيضاً، وحق المجتمع عبارة عن حفظ النظام وتقدمه إلى الإمام.

4 ـ التكافل الاجتماعي، وهذا يعود إلى الفرد ذاته أيضاً حين عجزه وضعفه، وأحيانا لا يعود إلى نفسه إلا من جهة الضمير والوجدان، فالتكافل الاجتماعي نوع من احترام المجتمع والانسانية.

ولا يستـثـني الإسلام أهمية المجتمع أيضاً، فعلم الحقوق وجد أيضاً لأجل تنظيم المجتمع ووضع الموازين والضوابط، فالحقوق جملة من ضوابط وأحكام تحكم الافراد بما هم مرتبطون بالمجتمع، وضامن اجراء هذه الحقوق الدولة، والدولة ـ حسب نظرية شورى الفقهاء الشيرازية ـ بيد الفقهاء العدول ثم عدول المؤمنين.

ويتناول المرجع الديني كمثال على اطروحته القانونية، البعد الاقتصادي كمثال يطرحه في خصوص العلاقة بين المشرع والمنفذ والقاضي، فعلى المشرع أن يهتم في سنه للقوانين بأمور منها:

5 ـ وجوب سريان القواعد التشريعية أو التاطيرية على كل فعاليات الوحدات الاقتصادية سواء كانت في إطار القطاع العام أو الخاص أو من تعاون أمر القطاعين.

6 ـ وضع القواعد المساعدة لنمو ودوران العجلة الاقتصادية، بحيث يغدو القطاع العام قطاعا مهيمنا على جميع قطاعات وفروع الاقتصاد الإسلامي إذ يفترض أن يلعب الدور الاساسي والرئيسي في عملية التنمية الشاملة، مع ملاحظة عدم الاخلال بحرية القطاع الخاص على حسب ما قرره الإسلام.

7 ـ وضع القواعد المنظمة لحل الخلافات التي يمكن أن تـنشب داخل الوحدات الاقتصادية.

8 ـ فتح آفاق لتطور القطاع المشترك (العام والخاص) باتجاه تحقيق خطط التنمية الإسلامية.

9 ـ ضمان تعبير السياسة السعرية عن محتوى اقتصادي واجتماعي ينسجم مع الطبيعة الإسلامية.

10 ـ توفير مستلزمات البناء للاقتصاد الإسلامي.

ويصل السيد الشيرازي في هذه العلاقة إلى عرض عشرين نقطة مهمة جدا. بينما يفصل بعد ذلك في الحديث حول الدولة وشؤون الحقوق فيها في ما يتعلق بالفرد والمجتمع والضمانات التي يجب أن توفرها الدولة للفرد والمجتمع، وأهمية التزام الحاكم الإسلامي بالنصوص الالهية في تنظيم الحقوق والواجبات في كل المجالات. معتبراً في هذا الشأن أن ثمة حقوقا للدولة باسم (الحقوق العمومية) وحقاقاً أخرى للأفراد والمؤسسات ونحوها. منتقدا في الوقت ذاته الانظمة الحاكمة التي تضع قيوداً وأغلالا تقف حائلة دون اطلاق الحريات والحقوق.

 

1 ـ باحث في مركز التثقيف الإسلامي ـ لندن.