مذابح الأرمن .. وما بعدها


 

 

موقع الإمام الشيرازي

 

في كل عام، وفي الرابع والعشرين من شهر نيسان/ أبريل، يحتفي الأرمنيون بالذكرى السنوية لمذابح الأرمن، وتعرف أيضاً باسم (المحرقة الأرمنية والمذبحة الأرمنية) أو الجريمة الكبرى، تشير إلى القتل المتعمد والمنهجي للسكان الأرمن، من قبل الدولة العثمانية، خلال وبعد الحرب العالمية الأولى، وقد تم تنفيذ ذلك من خلال المجازر وعمليات الترحيل، والترحيل القسري والتي كانت عبارة عن مسيرات، في ظل ظروف قاسية مصممة لتؤدي إلى وفاة المبعدين.

يقدّر الباحثون أعداد الضحايا الأرمن بين (1) مليون و (1.5) مليون شخص. فخلال هذه الفترة، قامت الدولة العثمانية بمهاجمة وقتل مجموعات عرقية مسيحية أخرى، منها السريان والكلدان والآشوريين واليونانيين وغيرهم، ويرى العديد من الباحثين أن هذه الأحداث، تعتبر جزء من نفس سياسية الإبادة التي انتهجتها الدولة العثمانية ضد الطوائف المسيحية.

على نطاق واسع، فإن مذابح الأرمن تعتبر من جرائم الإبادة الجماعية الأولى في التاريخ الحديث، ويؤكد ذلك الطريقة المنهجية المنظمّة التي نفذت في عمليات قتل كان هدفها القضاء على الأرمن.

 

اعتراف دولي

مصطلح الإبادة الجماعية وُجد من أجل وصف عمليات القتل التي تقع وهدفها القضاء على مجموعة بشرية، وقد أطلقت الرابطة الدولية لعلماء الإبادة الجماعية على الحملة العثمانية التي قام بها الأتراك ضد الأقليات المسيحية في الدولة العثمانية بين عامي 1914 و1923 إبادة جماعية.

وتوجد اليوم العديد من المنشآت التذكارية التي تضم بعض رفات ضحايا المذابح، ويعتبر يوم 24 نيسان من كل عام ذكرى مذابح الأرمن، وهو نفس اليوم التي يتم فيه تذكار المذابح الآشورية، وفيه تم اعتقال أكثر من 250 من أعيان الأرمن في إسطنبول.

بعد ذلك، طرد الجيش العثماني الأرمن من ديارهم، وأجبرهم على المسير لمئات الأميال إلى الصحراء وحدود سوريا الحالية، وتم حرمانهم من الغذاء والماء.

كانت المجازر عشوائية، وتم قتل الكثير من الأرمن، بغض النظر عن العمر أو الجنس، وتم اغتصاب والاعتداء الجنسي على العديد من النساء. واليوم فإن أغلبية مجتمعات الشتات الأرمني هي نتيجة الإبادة الجماعية.

تنفي تركيا، الدولة التي خلفت الدولة العثمانية، وقوع المجازر التي تؤكدها الأمم المتحدة؛ وفي السنوات الأخيرة وجهت دعوات متكررة لتركيا للاعتراف بالأحداث بأنها إبادة جماعية.

حتى الآن، اعترفت أكثر من عشرين دولة رسمياً بمذابح الأرمن بأنها إبادة جماعية، ويقبل معظم علماء الإبادة الجماعية والمؤرخين بهذا الرأي.

وتَعتبر أغلبية المؤسسات الأكاديمية أن ما قامت به الدولة العثمانية بحق الأرمن، يرتقي الى الإبادة الجماعية، ومن بين هذه المؤسسات الجمعية الدولية لعلماء الإبادة الجماعية، والتي أصدرت في 2007 ثلاثة اعترافات، تشمل أيضاً المذابح بحق الآشوريين، والمذابح بحق اليونانيين البنطيين، والتي قامت بها الدولة العثمانية، على أنها إبادة جماعية.

 

نبذة تاريخية

عاش الأرمن منذ القرن الحادي عشر، في ظل إمارات تركيا متعاقبة، كان آخرها الدولة العثمانية، وقد اعترف بهم العثمانيون كملة منفصلة كاملة الحقوق. وبحلول القرن التاسع عشر أصبحت الدولة العثمانية أكثر تأخراً من غيرها من الدول الأوروبية، حتى أنها لقبت بـ "رجل أوروبا العجوز". وخلال هذه الفترة، العديد من الشعوب نالت استقلالها منها، كاليونان والرومانيون والصرب والبلغار. كما ظهرت حركات انفصالية بين سكانها العرب والأرمن والبوسنيين، مما أدى إلى ردود فعل عنيفة ضدهم.

يُتهم عبد الحميد الثاني بكونه أول من بدأ بتنفيذ المجازر، بحق الأرمن وغيرهم من المسيحيين، الذين كانوا تحت حكم الدولة العثمانية. ففي عهده نفذت المجازر الحميدية، حيث قتل مئات الآلاف من الأرمن واليونانيين والآشوريين، لأسباب اقتصادية ودينية متعددة. وبدأت عمليات التصفية بين سنتي 1894-1896، وهي المعروفة بالمجازر الحميدية. كما قام عبد الحميد الثاني بإثارة القبائل الكردية لكي يهاجموا القرى المسيحية في تلك الأنحاء.

فخلال فترة الحرب العالمية الأولى، قام الأتراك بالتعاون مع عشائر كردية (تركية) بإبادة مئات القرى الأرمنية، شرقي البلاد، في محاولة لتغيير ديموغرافية تلك المناطق، لاعتقادهم أن هؤلاء قد يتعاونون مع الروس والثوار الأرمن. كما أجبروا القرويين على العمل كحمالين في الجيش العثماني، ومن ثم قاموا بإعدامهم بعد انهاكهم. غير أن قرار الإبادة الشاملة لم يتخذ حتى ربيع 1915، ففي 24 نيسان 1915، قام العثمانيون بجمع المئات من أهم الشخصيات الأرمنية في اسطنبول، وتم إعدامهم في ساحات المدينة.

بعدها أمرت جميع العوائل الأرمنية، في الأناضول، بترك ممتلكاتها والانضمام إلى القوافل التي تكونت من مئات الالآف من النساء والأطفال في طرق جبلية وعرة وصحراوية قاحلة. وغالبا ما تم حرمان هؤلاء من المأكل والملبس. فمات خلال حملات التهجير هذه حوالي 75% ممن شارك بها وترك الباقون في صحاري بادية الشام.

ويروي أحد المرسلين الأمريكيين الذين كانوا يتواجدون في مدينة الرها: «خلال ستة أسابيع شاهدنا أبشع الفظائع تُقترف بحق الآلاف.. الذين جاؤوا من المدن الشمالية، ليعبروا من مدينتنا. وجميعهم يروون نفس الرواية: قتل جميع رجالهم في اليوم الأول من المسيرة، بعدها تم الاعتداء على النسوة والفتيات بالضرب والسرقة وخطف بعضهن، حراسهم كانوا من أسوأ العناصر، كما سمحوا لأي من كان من القرى التي عبروها باختطاف النسوة والاعتداء عليهن. لم تكن هذه مجرد روايات، بل شاهدنا بأم أعيننا هذا الشيء يحدث علناً في الشوارع.»

وقد قام أحد أفراد منظمة الطاشناق بمحاولة فاشلة لاغتيال السلطان عام 1905 بتفجير عربة عند خروجه من مسجد، ولكن السلطان عفا عنه. أدت هذه الحادثة والإنقلاب على حركة تركيا الفتاة في 1908 إلى مجازر أخرى في قيليقية كمجزرة أضنة التي راح ضحيتها حوالي 30,000 أرمني.

 

والى اليوم .. مذابح

إن المذبحة الأرمنية، وما وقع بعدها من مذابح، ومنها التي قام بها صدام ضد الشيعة والكرد، والحرب الوحشية في الجزائر وسقوط أكثر من 400 ألف قتيل، وحرب القتل والدمار والتجويع التي تشنها، منذ عامين، السعودية والإمارات ضد الشعب اليمني، وحرب الإرهاب التكفيري في العراق وسوريا، وأيضاً في لبنان، والتي أكثر شررها وحقدها على الشيعة، فضلاً عن الإرهاب الذي وقع في 11/سبتمبر، والاعتداءات في باريس ولندن ومدريد وعمان والقاهرة والاسكندرية... والقائمة تطول، كل ذلك القتل، العامل الأكثر فاعلية في انتاجه، هو فكر ديني متطرف، أو ما يُعرف باسم (الوهّابية).

فإن الأزمات الاقتصادية أو الاجتماعية أو الأخطاء السياسية لا تكفي لاحتكار مصدر انتاج الإرهابيين، وبهذا العدد الكبير من المقاتلين والانتحاريين والذباحين، فإن التاريخ مليء بوقائع لا تقل في وحشيتها عما يرتكبه الإرهابيون اليوم أو التي وقعت على الأرمن.

مذبحة الأرمن التي قام بها العثمانيون، هي امتداد لما قام به الأمويون والعباسيون والأيوبيون، وإن عموم (فقه الإرهاب) يقوم ويستند إلى أعمال صحابة، وهذا ما تصرح به فتاواهم وكتبهم، كما أن العمليات الإرهابية التي تقع في العراق وسوريا، قد تبنتها "تنظيمات إسلامية" أعلنت عن "المدرسة الفقهية" التي تنتمي إليها، وهذه "المدرسة" ليست وليدة اليوم، فهي مدرسة لها أصلها الفقهي وعمقها التاريخي، وهنا تكمن عقدة الأزمة، "قراءة شاذة" للفقه والتاريخ.

إذن لابد من تجفيف منابع هذا "الإرهاب الديني" المتصاعد في أرجاء العالم، فإن المستنقع المتعفن حاضنة فعّالة لانتاج بعوض الملاريا، والحلول في هذا المجال، أن يكافح هذا البعوض كـ"حل سريع"، ثم يجفف ذلك المستنقع الآسن، ويردم بالتراب النظيف، بعد ذلك يُزرع بالأزهار الجميلة، وهذا هو "الحل الاستراتيجي".

إن مواجهة الإرهاب تحتاج إلى جهود كبيرة، مطلوبة الآن من علماء وقوى الاعتدال الأخوة السنة، لمواجهة تصاعد موجة الكراهية التي تبثها مؤسسات ومنابر تكفيرية معروفة، كما ينبغي النهوض بالذات (حكومات ومجتمعات) لرفع إمكانيات المواجهة والإنجاز والانتصار، وتكثيف الضغط "الحكومي والمؤسساتي والشعبي" على المجتمع الدولي، لردع ومحاسبة الدول التي تغذي الإرهاب بشكل أو بآخر، فإن "العصابات الإرهابية" لا يمكنها إسقاط مدن كبيرة واحتلال مساحات شاسعة في دول، دون دعم مخابراتي ودولي كبير ومباشر، وأيضاً، جهد إعلامي يروج للفتنة ويحرّض على الكراهية.

كما أن مؤتمرات مكافحة الإرهاب والمواجهة العسكرية لوحدها لا تفي بالغرض، فإن الإرهاب سيظل ما دامت منابعه الفكرية باقية، خصوصاً في ما يتعلق بشرعنة أفكار التكفير والقتل والذبح، لذا لا مفر من تجريم "الفقه" المنتج للتنظيمات الإرهابية، عبر قانون أممي، كالذي جرّم الفكر النازي بعد الحرب العالمية الثانية.

 

28/ رجب الأصب/1438هـ