معالم المجتمع المدني في منظومة الفكر الإسلامي



موقع الإمام الشيرازي

صدر حديثاً كتاب (معالم المجتمع المدني في منظومة الفكر الإسلامي)، لمؤلفه سماحة آية الله السيد مرتضى الحسيني الشيرازي، ومن تقريرات الدكتور هيثم الحسيني الحلي، ويأتي هذا الإصدار النوعي، استكمالاً وتواصلاً مع جهد سماحته، الذي تمثل في موسوعيته المعرفية والفكرية، في تناول موضوعات ساخنة، تستجيب لحاجات معرفية وعلمية ملحة، في المكتبة العربية الإسلامية، فضلاً عن المتطلبات المجتمعية والإنسانية.
يتناول الكتاب بالبحث والدراسة، موضوعاً حيوياً، كونه يرتبط برؤية الفكر الإسلامي، في رؤيته الأكثر اتساعاً وشمولية، بما يعكس أهداف المنظومة المجتمعية ومكوناتها، ومهامها ومسؤولياتها، لجهة بناء المجتمع السليم، وتأمين الخدمات الضرورية له، وتوفير الموازن الاستراتيجي للدولة، الذي يحول دون الاستبداد الحكومي ومصادرة الحريات الأساسية، لضمان الحقوق والواجبات والوظائف الاجتماعية، في كمّها ونوعها، فضلاً عن اتجاهاتها المجتمعية، التي تتشابك ضمن رباعية الفرد، والجماعة، ثم مجموع الجماعات، والدولة.
وكدأبه فقد سلك السيد المؤلف منهج الإستضاءة بالنص القرآني المقدس، في وحدة الموضوع، وفق آية (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ)، التي تمثّل الأساس الحقوقي لهيئات المجتمع المدني ومؤسساته، ويستكمل منهجه النقلي التحليلي، في استقصاء الروايات المعتبرة، في السنة الشريفة.
وبذلك يؤسس الباحث المؤلف، لمنهج بحثي رصين، يعتمد النص القرآني في تأصيلاته، ويتفرع في منهجياته، بما يلامس منهج التحليل والتركيب الاستنباطي، والمنهج الاستقرائي والعقلي، ضمن رؤيته الشخصية للاستقراء، وفق اشتراطاته في رفض الشكل "الناقص" منه، لإيغاله في الظن، وعدم التحدد في شكله "الكامل" لاإستحالته، ومن ثم قبوله بالاستقراء المعلل، كونه يلبي المتطلبات البحثية والمنهجية، المعقولة والموضوعية، والقدر المقبول من القطع.
يبسط المؤلف رؤاه وتصوراته، في هذا الموضوع، اعتمادا على الفكر الإسلامي، في استناده الى النص المقدس، وفق منهجه "التفسيري"، المرتبط بمادة الموضوع، وكذا يستكمل المنهج النقلي، أبعاده الدراسية البحثية، في استقصاء الروايات المعتبرة، في السنة الشريفة، التي شكلت المادة التفصيلية، في استباط أحكام الموضوع ومبانيه، بما يجعله ملامساً للبحث الفقهي والعقدي.
تعد مادة الكتاب، من الموضوعات المجتمعية المعتبرة، ذات البنية الاستراتيجية، التي تخلص لتأصيل البناء الأساس، لمؤسسات المجتمع المدني، ويأتي إصدار هذا الكتاب، إضافة نوعية، للمكتبة الفكرية العربية الإسلامية، لجهة الفراغ الفكري الملموس، ضمن الموضوع، في الفضاء العلمي والمعرفي، ولتحصين الفكر والثقافة العربية الإسلامية، في محاكاته لنظرة الفكر الفلسفي والمجتمعي الغربي، لمكونات المجتمع المدني.
لقد اهتم الكتاب، في طرح الرؤية الفكرية الإسلامية، حول مؤسسات المجتمع المدني، "الإيماني والإنساني"، وفق إطار معرفي منفتح، ينبع عن نظرة الإسلام الى المجتمع وحقيقته، وموقفه من المدارس المجتمعية المتنوعة، إذ يرفض المؤلف، التعريف الغربي للمجتمع المدني، الذي يستثني "الأسرة" من مكوناته، والتي يعدها المؤلف، الوحدة الأساس في البناء المجتمعي، ومن ثم تتبعها الأسرة الكبيرة والعشيرة، فضلاً عن رفضه التحديد حصراً، في المؤسسات غير الربحية، ضمن المكونات المجتمعية.
تستند الرؤية الفكرية النقطوية في الكتاب، الى أن الجماعة في صيغتها الفردية والجمعية، تشكّل البناء الأساس لمؤسسات المجتمع المدني، التي يرى المؤلف تسميته بـ(المجتمع الإيماني) أو (المجتمع الإنساني)، إذ يُشْكل على تسميته بـ(المدني) حصراً، كونها "= هذه التسمية" لا تعبّر عن مضمونه وجوهره ومسؤولياته، مما اقتضى البحث المفصّل في الوظائف والمهام البينية، بغرض استقصاء الرؤية الإسلامية، التي تضمن تنمية المجتمع واستقراره وازدهاره، وعلاقته المتوازنة بالدولة.
وللمسؤولية التي ينهض بها السيد المؤلف، وموقعه واهتماماته، وإيمانه بضرورة تبيان مسؤوليات المكونات المجتمعية، في المجالات الكمية والنوعية والاتجاهية، وضرورة تنميتها إيمانياً، ضمن المجتمع الإسلامي، وحتى إنسانياً، في الإطار المجتمعي الأوسع، وفق الأطر القانونية والشرعية لها.
فقد جهد سماحته، في نشر هذه المفاهيم والرؤى، ضمن محاضرات متسلسلة، ولأهميتها الرائدة، سواء للفرد أو للهيئات المجتمعية، ولمؤسسات الدولة، فقد جرى تضمينها في كتاب، بعد إعادة تحريرها ومنهجيتها وترتيبها المنطقي، وفق متطلبات الكتاب الشكلية والهيكلية، وقد وسم بعنوان "معالم المجتمع المدني في منظومة الفكر الإسلامي".
وقد سلك الكتاب في منهجه ومنهجيته، مساراً علمياً وتطبيقياً، وقدم دراسة تحليلية نقدية، تعكس أهداف المنظومة المجتمعية ومكوناتها، ثم وظائفها ومهامها، وذلك بما يتوافق مع المنهج الإسلامي في رؤيته الراقية والشاملة والمتعمقة للمجتمع، إنْ في المدى الأفقي أو المدى العمودي، لجهة استيعاب كافة مكونات المجتمع وألوانه، من حيث الحقوق والواجبات والوظائف الاجتماعية، وكذا من حيث تنفيذ المهام والواجبات، بما يؤمن توسع الفائدة منها في كمّها ونوعها، فضلاً عن إتجاهاتها.
يستجيب الكتاب في غاياته وأهدافه، لحاجة معرفية وعلمية ملحة من جهة، فضلاً لمتطلبات مجتمعية قائمة، تتجاوز الجهد الإكاديمي، الى البحث التطبيقي، الذي تشكّل مخرجاته، مشروعاً مجتمعياً متكاملاً، يقدم حلولاً ناجعة، تعبر عن تطلعات الفرد والمجتمع، وبضمنها الدور التضامني والمكمّل إجتماعياً، للمرأة والطفل المميّز.
إذ يتبع الكتاب منهجاً تحليلياً استقصائياً، في استقراء واقع جزئيات المجتمع المدني ومعوقاته، ومن ثم استباط المسالك المثلى لمعالجتها وتقويمها، أو حتى لبناء أسس المجتمع إبتداء، لتشكّل مخرجاته الكلّية البحثية، مجموع الوظائف والمهام والمسؤوليات، التي تلقى على عاتق المنظومة المجتمعية، وبالتالي وضع البرامج والمناهج التفصيلية، لبيان الطريق الأمثل، الذي يتطلب أن تسلكه هذه المنظومة، لتحقيق أهدافها وغاياتها.
تأسس الكتاب في مادته، على أصل محاضرات ألقيت تباعاً في الموضوع، ونشرت بشكل حلقات متسلسلة، وقد أعيد تحريرها ومنهجيتها وترتيبها المنطقي، بما يلائم ومتطلبات بناء الكتاب وهيكليته، وقد صدر الكتاب عن مؤسسة التقى الثقافية، وهو بـ(344) صفحة، من القطع كبير المتوسط، واحتوى على مقدمة منهجية وعشرين فصلاً.
بينت المقدمة المنهجية أهمية البحث، وعرّفت بموضوعه ومعضلته، التي جعلت من الدراسة فيه، أمراً ضرورياً وحاجة بحثية ملحة، وأشارت الى نطاق البحث وغايته وأهدافه، ومن ثم منهج البحث ومنهجياته وهيكليته، التي تبين موضوعات فصوله. كما وتضمن غلاف الكتاب، تقديماً موجزاً تعريفياً به، وقد تصدّر الكتاب بكلمة للمؤسسة الناشرة.
الفصل الأول من الكتاب، قدم مقاربة في المدارس المجتمعية وعنوان المجتمع المدني، أو تسمياته المفترضة والمثلى، فيما يتناول الفصل الثاني للجوانب الكمية والكيفية والاتجاهية في المجتمع المدني، وتنصرف الفصول من الثالث الى الخامس، لبيان المسؤوليات الاتجاهية المجتمعية، لكل من الفرد والدولة والجماعة، تجاه بعضها في منظومة الفكر الإسلامي.
بينما يبحث الفصلان السادس والسابع، في مسؤوليات الجماعة، تجاه الجماعات الأخرى، في المجالين المجتمعي والاقتصادي أو القطاع الخاص، باعتبارها تعبر عن عنوان البحث، وبصفتها تمثل الوحدة البنائية لمؤسسات المجتمع المدني، وبضمنها مبحث عن مبنى الولاية المتبادلة في مهام المجتمع المدني، والفصل الثامن يبحث في مسؤوليات مؤسسات المجتمع المدني تجاه الدولة.
وينصرف الفصل التاسع الى مسؤوليات المرأة والطفل المميز، والولاية المجتمعية لهما في الرؤية الإسلامية، أما الفصل العاشر، فيبحث في مهمة المجتمع المدني في درء التداعيات الداخلية والخارجية، بينما ينصرف الفصل الحادي عشر لتبيان حكم العمل والعامل في الإسلام، والفصل الثاني عشر، لبيان العلاقات البينية لمؤسسات المجتمع المدني وضوابطها، والفصل الثالث عشر، للبحث في سبل معالجة المؤسسات الهدامة للمجتمع المدني.
أما الفصل الرابع عشر، فيبحث في مسؤوليات المجتمع المدني في مستقبل الأمة ومقدمات مسؤوليته تجاه الجميع أو المجموع، بينما يتعمّق الفصل الخامس عشر، في تفاصيل هذه المسؤولية، تجاه مجموع الأمة والروح العامة لها.
يبحث الفصل السادس عشر، في دراسة "الأصل" الاجتماعي بين الفرد أو المجتمع والمبنى اللغوي لهذه المفردة، بينما يبين الفصل السابع عشر، مسؤوليات الجماعة تجاه الأفراد، باعتبارها تشكل وحدة "مؤسسة المجتمع المدني"، ويبحث الفصل الثامن عشر، عن الأصالة بين "الفرد" و"المجتمع" في التشريع الإسلامي، والأخطار المجتمعية في "الليبرالية" أو التحررية الحديثة، وما يعبر عنها "النيوليبرالية" والمؤسسات التخريبية.
ويبحث الفصل التاسع عشر، في التوكيل والتفويض في "الولاية"، وبضمنه مبحث عن تكامل العناوين الاعتبارية، مقابل التزاحم فيها. أما الفصل العشرون والأخير، فيكمل البحث في المسؤوليات الاتجاهية للمجموعات المجتمعية، في مناقشة المسؤوليات المجتمعية "للمجموع"، ضمن دراسة محوري الكواشف عن روح الأمة وتجسيداتها، وبؤر التركيز فيها، وهو تعبير عن مخرجات البحث في الكتاب.
وقد شكّل العنوان الأخير، خاتمة الكتاب، المتعلقة بمسؤوليات المرجعيات العظمى في الأمة، في النهوض بأدوار المجتمع المدني ومهامها، باتجاه تحقيق غاياتها وأهدافها.
وقد اعتمد السيد المؤلف، منهجاً نقلياً وعقلياً واستقرائياً، وانصرف لمقاربة المفردات المستهدفة في البحث، بما يوائم النخب الفكرية والتخصصية، فضلاً عن حاجة المتلقي المعرفيه والتثقيفية، مما يحيط بمباني المادة، المعتمدة أكاديمياً ومؤسساتياً، وذلك بموضوعية علمية، لا تستثني تبيين المدركات المقبولة فيها، ونقد المرفوض عقلاً أو نصاً، مما شكّل إضافة كمية ونوعية، في تراث سماحته العلمي والفكري، وإثراء فكرياً، للمكتبة العربية الإسلامية.

3/شوال/1436