ألمانيا تعاني من قلة استخدام ماء الشرب


 

موقع الإمــام الشيرازي

25/شعبـــــــان/1430

لو كانت "الثقة الكبيرة" متجذرة بين الشعوب الحرة والواعية وحكوماتها الأمينة والمسؤولة لأصبح من الممكن تجاوز أكبر الأزمات وأخطرها ولتحققت أعظم الإنجازات وأعلى درجات التقدم والتنمية والرفاه.. لكن لو كانت (الوعود الكاذبة وأدوات التعذيب والسجون والمعتقلات وقمع الحريات وهدر ثروات البلاد وسرقتها) فقط هو الذي يذكر الشعب بصورة حكومته ومسؤوليها فسيكون الأمر داكناً ودموياً ومريراً.. لكن ما يثير الإعجاب أكثر أن تتحول تلك الثقة الى استغراق في السخاء والحرص على الصالح العام وهو ما كان في ألمانيا: 

يرفع دعاة البيئة في كافة أرجاء العالم شعار تقنين صرف الماء العذب في محاولة لإنقاذ العالم من ظاهرة هدر ماء الشرب والتصحر والتلوث. لكن، إذ يعبر خبراء البيئة الألمان عن رضاهم عن الوعي العام الداعي لتقليل هدر مياه الشرب، فإنهم يحذرون في ذات الوقت من عواقبه الصحية على الناس.

ويقول بودو فايغرت، من اتحاد حماية البيئة الألماني، إن معدل صرف الفرد الألماني من مياه الشرب، وبفضل التوعية البيئية، انخفض بنسبة 15% بين 1999 ـ 2005. وفي حين ارتفع معدل صرف الفرد في برشلونة الإسبانية خلال نفس الأعوام وبلغ حاليا 400 لتر يومياً، انخفض معدل صرف الفرد الألماني إلى 123 لتر يومياً. مع ملاحظة أن معدل الصرف في بلدان الاتحاد الأوروبي يبلغ 200 لتر يومياً (عام 2008).

يُعلِّم الألماني طفله منذ الصغر ضرورة أن يسد حنفية الماء، بينما ينظف أسنانه بالفرشاة ولا يتركها تهدر الماء. وفي حين تنتشر ظاهرة تجميع مياه الأمطار لاستخدامها في السقاية وغسل السيارات وتنظيف التواليتات، يجري تعليم الصغار في رياض الأطفال على ضرورة عدم رمي المخلفات والمواد الكيماوية في المجاري خشية اختلاطها بالمياه الجوفية ضمن دورة المياه الطبيعية.

ومع ذلك، وكما هو معروف، فإن هناك عاملاً اقتصادياً هاماً أيضاً يدعو المواطن للتفكير ألف مرة قبل أن يفتح صنبور المياه على الآخر. فالضرائب على صرف الماء، وبالتالي على كلفة تصريف اللتر الواحد من المياه إلى البالوعة، أعلى من سعر لتر الماء نفسه في ألمانيا. وهذا يعني أن المبذرين بالمياه يدفعون أضعاف الكلفة الحقيقية لما يستخدمونه من ماء.

ولهذا فقد حذر المركز الاتحادي لاقتصاد الماء والطاقة من عواقب انخفاض صرف الماء في ألمانيا. ويقول رودغر روزنتال، من الاتحاد المذكور، إن ألمانيا لا تعاني من مشكلة شحة المياه أو هدر الماء، لكنها تعاني من مشكلة التقلص المستمر في الصرف. فقلة الصرف يعني سيلان الماء ببطء في شبكة الأنابيب، وهذا يعني حدوث «ركود» نسبي في الأنابيب وتزايد احتمالات نمو الطفيليات والبكتيريا فيها. من ناحية أخرى سيؤدي انخفاض الصرف إلى تآكل الأنابيب بشكل سريع وحصول تسربات وخسائر إضافية. وحسب معلومات روزنتال ربما ستعجز الحكومة الألمانية، في ظل الأزمة الاقتصادية السائدة، عن تنظيف وصيانة الشبكة خلال الأعوام المقبلة.

ويعرف العلماء أن نوعية الماء، والمخاطر المتأتية عنه في الأنابيب، تزداد كلما زادت فترة بقائه داخل شبكة الأنابيب. وينصح الأطباء المواطنين عادة بعدم شرب دفقة المياه الأولى التي تنطلق من الحنفية عند الصباح، لأن المياه تكون قد ركدت لساعات طويلة في الأنابيب. كما يحذر الأطباء من استخدام هذه المياه في تحضير حليب الطفل أو طعامه.

وتواجه الكثير من المناطق الألمانية حالياً مشكلة التعامل مع كيلومترات من شبكة المياه التي تضررت بفعل قلة وبطء سيلان المياه داخلها. وتضطر السلطات هناك لمعالجة مشكلة الروائح وتراكم البكتيريا، ومن ثم استبدال الكثير من خطوط الشبكة، من خلال وقف إسالة الماء وغسل الأنابيب بالمواد المعقمة، وهذا يسبب كلفة إضافية لا تجد السلطات مخرجاً منها إلا عن طريق فرضها كضرائب إضافية على السكان.

والمشكلة هي أن وعي الاقتصاد بصرف الماء ازداد لدى المواطن إلى حد أن الصناعة صارت تنتج باستمرار الأجهزة والمعدات التي تقتصد باستخدام الماء. وهذا سيؤدي مستقبلاً إلى انخفاض إضافي في صرف الماء في ألمانيا. فغسالات الصحون والملابس اليوم تقتصد كثيراً في الماء والطاقة، وتنتشر خزانات ماء المطر التي تستخدم في كافة الأعمال عدا عن الشرب. ويتركز صرف الماء حالياً لدى المواطن الألماني على الاستحمام، الذي يكلف 120 لتر ماء كل مرة في البانيو، و40 ـ 60 لتر كل مرة تحت الدش. ويصرف الموامن مياه أقل في الشرب والطبخ وتبلغ كمعدل 5 لترات يوميا.

والحديث هنا يجري بالطبع عن مياه الشرب القادمة عبر شبكة الأنابيب، ولهذا فأن صندوق البيئة الدولي يعتقد أن صرف المياه أعلى بكثير مما هو معلن في بلدان العالم. فالمياه المخصصة لصناعة المشروبات والقهوة، والمأخوذة من الينابيع والأنهار مباشرة لا تدخل ضمن الإحصائية. وكمثل فإن كل ألماني يشرب يومياً 2.8 قدح من القهوة يومياً، وعدة زجاجات مشروبات يومياً، إضافة إلى استهلاك مواد أخرى، وهو ما يرفع الصرف إلى 320 لتراً للإنسان كل يوم. ويبقى هذا الارتفاع نسبياً بالمقارنة، كمثل، مع ما تصرفه البرازيل من مياه على زراعة وتحضير القهوة. وتشير إحصائية صندوق البيئة الدولي إلى أن البرازيل تصرف 10 مليارات متر مكعب من الماء سنوياً في زراعة وصناعة القهوة.

والمشكلة الرئيسية التي صارت تواجه دوائر البيئة الألمانية حالياً هي ضعف وعي الألماني بالاستهلاك "غير المباشر" للماء في الحياة الاعتيادية. فمثلاً، لا يعرف المواطن أن سروال الجينز يحتاج إلى 8000 لتر من الماء كي يصل إليه بهذه الصورة. فالقطن من أكثر النباتات «العطشى» في العالم، وبالتالي فهو من أكثر النباتات المستهلكة للمياه في العالم. كما يجهل حتى حماة البيئة أن البلاستيك أكثر رأفة بالبيئة من القطن، لأنه أقل استهلاكاً للماء وأسهل في عمليات التدوير. هذا ناهيكم عن أن الطاقة والمياه المستهلكة في إنتاج البلاستيك تقل كثيرا عن الطاقة والمياه المستخدمة في إنتاج قميص "تي شيرت" قطني. وتشير دائرة البيئة الاتحادية إلى المزيد من الإحصائيات التي تكشف فرط الاستهلاك غير المباشر للماء في الحياة اليومية. منها أن وجبة الغداء الاعتيادية تستهلك 1000 لتر من الماء في تحضيرها. وأن قطعتي خبز تتطلبان 100 لتر من الماء (من ضمنها المياه المستخدمة في سقاية الحنطة) إلى حين وصولهما إلى منضدة الإفطار. ويستهلك الإنسان كمية تقدر بـ 1000 لتر من الماء حينما يتناول قطعة من لحم البقر عند الغداء، يضاف إليها 150 لتراً من المياه المستخدمة في سقي وحصاد وتنظيف وتحضير قطع البطاطا التي تقدم مع وجبة "الستيك". وقد يرتفع استهلاك الماء في وجبة الغداء إذا ما استبدل الإنسان البطاطا بالأرز لأن الأخير أكثر استهلاكاً للمياه أثناء زراعته (500 لتر). ولا تقل كميات المياه المستخدمة في مسلسل إنتاج المواد الغذائية عنها في إنتاج المواد المكتبية. ومن يستهلك 50 ورقة يومياً في أجهزة الطباعة والفاكس والاستنساخ يستهلك في الواقع أكثر من لتر من المياه المستخدمة في صناعة الورق والأحبار.

كما أن هناك عاملاً آخر في ظاهرة انخفاض صرف الماء في ألمانيا، حسب رأي صندوق البيئة الدولة، وهو تحول ألمانيا لاستيراد الكثير من المواد بدءا بالطماطم من إسبانيا وانتهاء بالبيبسي كولا من هولندا عبوراً بالأقمشة القطنية (أكبر مستهلك للمياه) من مصر والصين والهند.

منذ سنوات والعلماء يدعون السلطات الألمانية إلى استبدال شبكات الأنابيب الحالية بشبكات من النحاس، وخصوصاً بعد الدراسات العلمية التي أشارت إلى دور النحاس في قتل البكتيريا في الأنابيب ومنع تراكمها في مياه الشرب. وكشفت دراسة لمعهد فراونهوفر الألماني أن الكثير من أنواع البكتيريا المرضية لا تنمو على النحاس كما تنمو على المعادن الأخرى. ودعا المعهد إلى استخدام النحاس في شبكات المياه في المستشفيات، وفي صناعة الأدوات الجراحية، وفي إنتاج مقابض الأبواب التي تنقل العدوى في المستشفيات.