الفهرس

التفسير وعلوم القران

الصفحة الرئيسية

 

(95)

 ۞ سورة التين  ۞

 مكية

ثمانية آيات

فلسفة أَيمان الله

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَ لَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ)(1).

اليمين لا تكون إلا بشيء مقدس: كالله، والنبي، والقرآن... أو بعزيز: كالعينين، والنفس، والأولاد... ولا يوجد مقدس ـ بمعنى التقديس ـ عند الله تعالى، ولا يوجد بالنسبة إليه عزيز ـ بمعنى العزة ـ ، فكيف يحلف الله.

الجواب، يتلخص فيما يلي:

1ـ الأشياء ـ كلها ـ عند الله سواسية. فالله الذي يخلق كل شيء بمجرد إرادة، لا يفرق بين سهل وصعب. لأن السهل هو: ما دون الطاقة، والصعب ما في مستوى الطاقة، والمستحيل: ما فوق الطاقة. وكل شيء دون قدرة الله. فلا سهل... ولا صعب... ولا مستحيل بل كل شيء أسهل من السهل.

ثم: لا فرق بين كبير وصغير، فالذرة والمجردة ـ عند الله ـ سواء، لأنه ـ بإرادة واحدة ـ يخلق أيهما شاء. فلو وجد إنسان يكون طلب الشاي بالنسبة إليه كإسقاط رئيس بمجرد كلمة، يكون الأمران لديه سواء.

2ـ إن الله هو يعطي القداسة والعزة، كالأنبياء، والملائكة، والكعبة... فلو أراد التأكيد ـ على قدر عقول الناس في التأكيد باليمين ـ فبأي شيء حلق، أعطاه القداسة والعزة. فيحلف بأشياء، لتركيز الإهتمام عليها.

انسجام السورة

وترابط الآي، يكون كالتالي:

التين والزيتون، لهما تركيبات علمية ذات أهمية، للأهمية المادية. وسيناء، لهما أهمية مؤقتة، ومكة، لها أهمية دائمة. فهما، مثلان للمادة التي لها صفة معنوية. والإنسان ـ بتركيبته العلمية، وبصفاته المعنوية ـ أهم من الجميع.

وأجر المؤمنين غير مقطوع، لأن الملائكة تكتب له ـ في الهرم، وبعد الموت ـ كلما تعود من الصالحات. بينما الكافر ينطقع أجره الدنيوي بإنقطاعه عن العمل، فيسقط عن التكريس أو الإنتاج.

الخط العام للسورة

بعد هذه الأيمان التي توجه إلى دقة النظام الكوني العام، الذي يتجسد ـ تكوينياً ـ في كل شيء، حتى في النبات: كالتين، والزيتون. وفي الجيولوجيا = طبقات الأرض: كطور سيناء (سيناء، هذه القطعة الاستراتيجية، التي وقعت عليها ستة آلاف حرب في التاريخ المكتوب، وتنزل عليها الوحي. ولا نعلم ـ بالضبط ـ ما هي المكونات العظيمة، التي جعلتها هكذا...) وفي الجغرافيا: كمكة: (وَهذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ).

بعد هذه الأيمان المركزة، يبين القرآن: أن دقة النظام الكوني العام تشمل الإنسان أيضاً، وبصورة أكثر دقة وإحكاماً:

(لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ).

وكما أن كل شيء يتقدم نحو مداه في الكمال، حتى إذا بلغه يتراجع إلى الوراء منسحباً، ليفسح مجال التجربة لغيره، كذلك الإنسان: فهو ـ أيضاً ـ خاضع لنفس النظام، ولا يستطيع ـ رغم قواه الإضافية، ومميزاته الكثيرة ـ أن يستمر في خط الصعود، ولا ـ حتى ـ أن يبقى في قمته، فلا يبلغها حتى يأخذ في الانحدار نحو الشيخوخة، التي هي وجه آخر للطفولة. فكل إنسان يشيخ، وتهرم طاقاته الروحية كما تهرم طاقاته الجسدية، ويتوتر أمله كما يضعف عمله. فكل إنسان يهرم، إلا المؤمن، فالمؤمن لا يهرم، أي: لا يهرم روحياً، فلا تترسب على روحه مظاهر الشيخوخة.

(إِلاَّ: الَّذِينَ آمَنُوا، وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ. فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ):

فالذي يؤمن ويعمل الصالحات، إنما يزود نفسه بعناصر الفتوة والبقاء، فلا يهرم، لأنه لم يهمل نفسه حتى يتأثر بالمؤثرات التي تأكل الأحياء تدريجياً. فالمؤمن العامل، له أجر إستمرار شبابه. وهذا... أجر أكتسبه ـ هو ـ بجهد إيمانه وعمله، الذي أمد شبابه الطبيعي بشباب معنوي هو الناتج من الإيمان والعمل الصالح. فهو أجر غير منون، إذ لا منة لأحد عليه به.

فالإيمان والعمل ـ اللذين قننهما الإسلام ـ جزء من نظام الكون العام، يمد النظام المادي بالشق الثاني منه. فكما يمد شباب الفرد ويمدده، كذلك: يمدد شباب كل شيء. فهو إذن ـ بالنسبة إلى النظام المادي: الشق الثاني، وبالنسبة إلى النظام الكوني العام: جزء مكمل، وهو الجزء الأهم.

فبعد ذلك: كيف تكذب بالدين، وأنت لا تكذب بالنظام المادي، الذي هو الجزء غير الأهم؟! وأولاً تصدق أن الله الذي قرر هذا النظام بشقيه، هو: أحكم الحاكمين؟!

الإنسان، والإنسان المؤمن

(لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ.

ثُمَّ: رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ.

إِلاَّ: الَّذِينَ آمَنُوا، وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.

فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)(2).

1ـ (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ): فزودناه بكل الطاقات، التي تؤهله للقيام بدور الإنسان، عبر رحلة البلورة والنضوخ، في الحياة الدنيا. زودناه بكل الطاقات: الفكرية، والروحية، والعضلية... التي يجمعها إطار اسمه: (الشباب). ومن أبرز تلك الطاقات:

أولاً: الطاقة الفكرية، القادرة على: التلقي، والهضم، والإنتاج. والمسماة بـ : (الذاكرة).

ثانياً: الطاقة الروحية، الموحية بالأمل عبر العقبات، والنكسات، لمواصلة السير التكاملي. ويمكن التعبير عنها بـ : (الطموح).

ثالثاً: الطاقة الروحية التضحوية، التي تلخص الاهتمام في الهدف، وتقلص الاهتمام بكل شيء دونه، ويعبر عنه بـ : (الإيثار) ـ بمحتواه الواسع ـ .

رابعاً: الطاقة الجسدية على احتمال الخطوب برحابة. ويصح التعبير عنها بـ :(الصمود)، أو بـ : (الصبر).

فالله تعالى، خلق الإنسان ـ أول ما خلقه ـ مزوداً بهذه الطاقات، التي تمكنه من ممارسة الحياة، بالشكل المناسب لنداءات الحياة.

2ـ (ثُمَّ: رَدَدْناهُ) من ذلك المستوى المتناسب مع الحياة (أَسْفَلَ سافِلِينَ) فسحبنا منه تلك الطاقات، فإذا هو هرم، فاقد الطاقات التي تؤهله للقيام بدور الإنسان، عبر رحلة البلورة والنضوج، في الحياة الدنيا. فاقد لكل الطاقات: الفكرية، والروحية، والعضلية... الإيجابية. وتضور فراغها، ولد ـ عنده ـ صفات سلبية، يجمعها في إطار اسمه: (الهرم). ومن أبرز تلك الصفات.

أولاً: النسيان: فقد، فقد الطاقة الفكرية، القادرة على: التلقي، والهضم، والانتاج. وتولدت ـ عنده ـ صفة النسيان، التي أفقدته الكثير مما اختزنته ذاكرته في عنفوان حياته.

ثانياً: وأصبح ـ مع الأيام ـ يشعر بانتهائه، وان ما بقي ـ من أيامه ـ تعد بالأشهر، وربما بالأيام. ففقد الأمل في مستقبله، فلا يشده الطموح بالأهداف العالية البعيدة. وإنما يسمره الخنوع في الأرض، شأن اليائسين.

ثالثاً: وينظر إلى نفسه فقط، فلا تمتد آماده إلى أبعد من حدود قميصه، فلا يرى هدفاً يهتم به أو لا يهتم. فكلما يحاوله هو: أن يقضي بقية أيامه في رخاء وعافية، فلا يضحي بنفسه، ولا يؤثر على نفسه، بل يضحي لنفهس، ويستأثر على حساب غيره.

رابعاً: وتوانت عضلاته، فلا يتحمل ما يعانيه إلا بضيق وجزع.

وهكذا... استبدل الذاكرة بالنسيان، والأمل باليأس، والإيثار بالاستئثار، والصمود بالجزع.

وبتفاعل هذه الصفات ونتائجها، يوجد ـ عند الفرد ـ شعور بالانهزام الحياتي، الذي يطبع كل نبضاته... وتصرفاته... فيكون سلبياً، ويوجد ـ في قرارته ـ مركب النقص، فيتحسر كلما صدمته حركة رشيقة من أحد الشباب الآخذين في الارتفاع، وتتحكم فيه عقدة الحسد التي تتحرك لكل مظهر من مظاهر الشباب فإذا من استخدم سمع ذاكرته، حسده، لأنه كان ـ أيضاً ـ يستخدم ذاكرته، ثم خسرها... وإذا عرف طموحاً من منطلق عبر نكسة، حسده، فقد كان هو ـ مثله ـ يذلل العقبات، ثم فقد طموحه وإذا بلغه إيثار من مضح، حسده، فهو ـ كذلك ـ كان يؤثر، ولا يقدر الآن على الإيثار... وإذا رأى صابراً، حسده، فقد كان صبوراً، ثم غدى جزوعاً....

وهذه الخسائر الكبيرة، التي تكبدها بدون إرادته، تترك ـ في واقعه ـ فراغاً ملحاً، يستوحش منه في كل محاولة حياتية. لأنه طالما تعود تجربة المحاولات الحياتية، وكانت تأتيه النجدة من رصيده الوفر من طاقات الشباب، وهو الآن يجرب المحاولات الحياتية ـ كما كان يجربها سابقاً ـ ثم لا تأتيه النجدة، فيستوحش من الفراغ الملح، الذي تركه رصيده من طاقات الشباب. فيشعر بالفقر والإفلاس، ويحاول أن يملأ ذلك الفراغ بكل ما يمكن أن يملأه، فلا يجد ما يملأه، وهل يوجد شيء يملأ فراغ طاقات الشباب؟! فيحاول ـ عبثاً ـ أن يملأه بما يمكن أن يحصل عليه من مال وجاه، فتستحكم فيه عقدة الحرص.

واسترسالاً مع مولدات الانهزام الحياتي، تتوالد... وتتسلسل... فيه العقد التي ترفض أي علاج، حتى تجعل منه ـ جسدياً ـ لحماً ناشفاً، وعظاماً نخرة، و ـ روحياً ـ تافهاً، مؤذياً، لا يطيق احتماله أشفق الناس عليه. فهو (هرم) بكل دلالات (الهرم).

ولكن المؤمن لا يهرم. فطاقات الشباب تسلب من كل من تجاوز سن الشباب، فيردّ أسفل سافلين.

3ـ إِلاَّ: الَّذِينَ آمَنُوا، وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فإنهم لا يهرمون بما للهرم من دلالات. ففيما تذوي أجسادهم تبقى أرواحهم شابة.

لا تحمل شيئاً من مظاهر الهرم، لأنهم، كلما اقتربوا من نهايتهم في الحياة الدنيا، كلما اقتربوا من مستقبلهم العظيم، الذي جندوا له الوفر من طاقاتهم، فألحوا على السير، وتأكدوا من صدقهم... وإخلاصهم... حتى لا يخطأوا الهدف. فمن يعرف نفسه في (الجهاد الأكبر)(3). ضد نواقصه ـ كما في بعض الحديث ـ ، وقد وصل إلى الساعة الحاسمة، ينزل بكل طاقاته إلى المعركة، ومن نزل بكل طاقاته، إنتصر... أو أعذر...

وبذلك: يبقى المؤمن ـ مهما كبر سنه ـ شاباً، لا يحتمل شيئاً من آثار الشيب فيه:

أولاً: فالطاقة الفكرية، تبقى لديه شابة، وتنمو، لأنه لا يهملها. والطاقة الفكرية ـ كأية طاقة ـ تنميها الحركة، ويبذلها الإهمال.

ثانياً: والطاقة الروحية الموحية بالأمل، تبقى فيه شابة، وتزداد لديه عنفواناً... ونهماً... لأن الأمل يتفتح كلما اقترب من الهدف.

ثالثاً: والطاقة الروحية التضحوية، تبقى فيه شابة، وتتبلور حماساً... واندفاعاً... لأن الذي يتقاعد عن ممارسة الحياة، تهون عليه التضحية، وخاصة: بالنسبة إلى من تعود التضحية والحياة صاغرة له، فكيف به والحياة مستنكفة عنه.

رابعاً: والطاقة الجسدية على احتمال الخطوب برحابة، تبقى فيه شابة، وتتوفر عليه. لأن الطاقة الجسدية على الاحتمال برحابة، أقل ـ لدى الإنسان ـ من الرحابة بقفزة ذبابة... أو قرصة بعوضة... وإنما تنبعث هذه الطاقة، وتحدد، بمقدار ما يتوقعه الإنسان من مكاسب. فتوقع المكاسب، هو الذي يبرر احتمال الخطوب. وبمقدار ما يزداد التوقع، يزداد الاحتمال، وبرحابة مطلقة، حتى أقصى التضحيات التي يتلاشى دونها الجسد، والتاريخ يجند ألف دليل... ودليل... لذلك، بدءً من الإمامين: علي، والحسين (عليهما السلام)... ومروراً بعمار بن ياسر، وميثم التمّار... ولا انتهاء لهذه المثل إلا بانتهاء الحياة.

وبتلاقح هذه الصفات ـ صفات الشباب ـ في المؤمن، رغم الشيخوخة، تتولد فيه نتائجها الإيجابية، فيشعر بالإنتصار الحياتي، ويبقى إيجابياً، ولا تتعلق به صفات الشيوخ، فلا تتولد فيه نتائجها السلبية، فمثلاً: لا يركبه الشعور بالنقص حتى يحسد، ولا يتسرب إليه الشعور بالخسارة حتى يقاومه بالحرص.

فالمؤمن لا يشيب رغم الكبر.

(1) ـ سورة التين: آية 1 ـ 8.

(2) ـ سورة التين: آية 4 ـ 6.

(3) ـ بحار الأنوار ـ ج19 ـ ص 182 ـ حديث(31) ط ـ مؤسسة الوفاء.