فهرس الفصل الثالث |
|
التشكيلات أو المؤسسات الإدارية |
لابد أن هذه المؤسسات الإدارية تتمّ تحت مظلة المركز الشرعي، ومنه تستوحي قيمها وأخلاقياتها المحركة لها، ولكنها ليست ثابتة في كل زمن ومكان، بل هي وسائل تقوم بمهمة تحويل المجتمع ونقله إلى مستوى آخر من الحضارة والتقدم والرفاهية والتفاعل الحضاري مع دول العالم وشعوبه. وهذا المستوى الآخر بدوره سيؤدي إلى مستوى ثان، وكل مستوى من هذه المستويات يصطلح عليه علم السياسة بالهدف المرحلي أو الآني، وكل هدف مرحلي يقود إلى هدف مرحلي أكثر منه تطوراً، وهكذا، حتى تصل المسيرة إلى الأهداف الاستراتيجية، وهذه الأهداف الاستراتيجية حين تتحقق تتحول إلى هدف مرحلي يقود بدوره إلى مراحل أخرى تكتمل في أهداف استراتيجية جديدة... وهذا هو منطق الحياة المتجددة دوماً والمتطورة. وهو ما نصّ عليه الفكر السياسي الشيرازي بالصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه، والذي هو عنوان لواحد من أوسع كتب الإمام الشيرازي شهرة وانتشاراً. وقد وصفناها بالتشكيلات والمؤسسات بحكم أنها ليس لها شكل ثابت محدّد، بل هي استجابة طبيعية للمستويات والأهداف التكتيكية (المرحلية) ذاتها، وبالتأثر بالتشكيلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المحيطة بعملية النمو والتغيير والحضارة. وتضمّ التشكيلات الإدارية مؤسسات السلطة السياسية جميعاً، من وزارات، وإدارات، ومعاهد للعلم والتدريب، ومواقف سياسية خارجية، وتحديد رؤى معينة من أمهات قضايا العالم كالإرهاب والسلام والصراع والتكامل، وقضايا أخرى ذات أهمية بالنسبة للمجتمعات الإسلامية جميعاً. وبرغم أننا سمّينا هذه الأنشطة بالتشكيلات فإننا ننبّه إلى أن هذه التشكيلات ليست فوضوية ولا طوباوية، بل هي مستندة إلى المركز الشرعي، وان هذا المركز الشرعي سيرافقها في جميع استحالاتها وتغيراتها، سيكون لها بمثابة (العمود الفقري) الذي يحفظ لها هيكلها واستمراريتها وتطوراتها على وفق القيم والأخلاق والمنظور السياسي للفكر المنظم لها. فتأسيس دائرة معينة، أو فصل وزارة من وزارة، أو دمج وزارتين، أو توسيع صلاحيات مؤسسة من المؤسسات، أو تضييق مجال عملها، وما إلى ذلك هي خطوات تحويلية تساعد على أداء الوظيفة السياسية بشكل أفضل. ومثل ذلك المواقف السياسية من القضايا الدولية، فبرغم أن الخط السياسي واضح ومحدد في دولة من الدول، إلا أن الموقع الجغرافي، وظروف العالم، ومعطيات التاريخ، قد تفرض على تلك الدولة تلوينات خاصة لخطها السياسي، هي غير التلوينات الواقعة على خط سياسي لدولة أخرى. إن التشكيلات الإقليمية وتبدل التحالفات السياسية الخارجية، وتطور العلاقات الدولية، لابد أن تؤثر في ألوان الخط السياسي لأي دولة من دول العالم. ومن الممكن أن يكون هذا التأثير جذرياً، ولكن ليس في الدولة الإسلامية، بحسب وجهة نظر الإمام الشيرازي، لأنه لا يرتضي لتلك الدولة إلا الثبات على المبادئ الإسلامية والأسس الموضوعة لها في مصادر التشريع الإسلامي ذاته. لقد حدث هذا التأثير الجذري في الاتحاد السوفيتي والصومال وأثيوبيا ودول أخرى عديدة. ولكنه لا يمكن أن يقع في دولة إسلامية تنهج نهج الإسلام حقاً وحقيقة، وذلك عائد إلى المركز الشرعي الذي يصاحب التشكيلات الإدارية ويرشد مسيرتها وصيرورتها من غير أن يخلق حالة من الاختناق أو التأزم تستدعي اللجوء إلى التأثر الجذري وتغيير الخط السياسي. المركز الشرعي في الفكر السياسي الشيرازي حفظ لذلك الفكر واقعيته وعقلانيته، ووعيه الدقيق بمستلزمات الوظيفة السياسية ممّا يجنّب البلاد الإسلامية التخبّط والاضطراب، في حالة الأخذ به، وتطبيق رؤاه ومقولاته في واقع الحياة اليوميّة. المركز الشرعي وضع للمؤسسات الإدارية قواعد انطلاق رصينة ذات نمو مطرد، بعيد عن النفاق السياسي والشعارات الخيالية. ويمكن أن نتبيّن تلك القواعد الإنطلاقية في النقاط التالية:
1 ـ رحم الله من أهدى إليّ عيوبي: من المعروف أن الفكر السياسي الذي يستجليه إنسان واثق من نفسه، قوي في ذاته وفي فكره وفي أمته، ومنطلق من مركز شرعي بهدف الوصول إلى غاية سامية، لا يتردد في القيام بعملية نقد مستمر لنفسه وللواقع، من أجل تغييره نحو الأفضل دائماً. ومن الطبيعي، أن السياسيين الذين لا يتحكم في مسارهم مركز شرعي يهربون من نقد الواقع إلى اختلاق (مشاجب) وهمية يعلّقون عليها مشكلات دولهم وشعوبهم، لا في العلاقات الدولية والإقليمية فحسب، بل حتى في العلاقات الداخلية لمجتمعاتهم السياسية. وهذا بالضبط هو ما يرفضه الفكر السياسي الشيرازي، هذا الفكر ذو الرؤية المبنية على نقد الواقع المتخلف والمتناحر والمختلف، باعتبار ذلك الواقع الأساس والجوهر الذي تنبعث منه وعنه المشكلات الكثيرة والمعقدة. ويرى الفكر السياسي الشيرازي أنه كلما توفرت شروط تحسين ذلك الواقع أمكن حل المشاكل والتعقيدات الناتجة عنه بحلول واقعية وسليمة وعلمية، سواء عن طريق الاتفاق الذاتي، أم التوافق الداخلي والإقليمي، أو عن طريق وضع العالم أمام الأمر الواقع نتيجة ذلك. وهذا الاتفاق والتوافق هو ما يسمى بالإجماع الإسلامي، أو الإجماع المحلي والإقليمي على قضية من القضايا. ولكن.. هل يمكن تحقيق ذلك الإجماع الإسلامي؟ الفكر السياسي الشيرازي يدعو ـ وبكل إلحاح ـ إلى ذلك الإجماع، ولكنه لا يخدع نفسه ولا يخدع الآخرين بشعارات تخديرية، بل هو يصرح، وبكل ثقة أن الكثرة العددية للمسلمين في العالم لم تغنِ عنهم شيئاً بعد أن تركوا دينهم وتشتتوا على أرصفة المبادئ والأفكار الدخيلة: (يبلغ عدد المسلمين - حسب بعض الإحصائيات ـ ألف مليون، لكنهم مبعثرون جغرافياً وإقليمياً ولغوياً، ويعيشون تحت سيطرة الاستعمار والاستغلال، أما قوانينهم فقد أصبحت وضعية بعد ما كانت إلهيّة، وإنما أصابهم هذا التبعيض والتشتت لعدم اتخاذهم الإسلام منهجاً عملياً في الحياة، وقد صدق الله، سبحانه وتعالى حيث قال: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال ربّ لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تُنسى)(1). إن الاصطدام بسلسلة من المشاكل هو النتيجة الطبيعية للذين يعرضون عن ذكر الله، ولا يطيعون أوامره في الدنيا، وفي الآخرة الخسران المبين)(2). بل إن الفكر السياسي يصف هذا الواقع السيئ الذي يعيش فيه أتونه العالم كلّه، بأنه واقع مجانين، وأن العالم المعاصر عالم مجنون، ويجد مصاديق كثيرة لهذا التشخيص، كتساؤله: (لماذا يتكدّس المال حتى يملك بعض الأفراد مليارات، بينما الملايين جائعون؟ وبينما الملايين من الأطفال يموتون جوعاً، وهل هذا من التعقل؟)(3). فالنقد الذاتي لواقع المسلمين لم يصدر عن عداء وكراهية، كما يصدر عن أعداء الأمة حين يهاجمونها ويتهمونها بمختلف التهم، ولكنه يصدر من إنسان يحبّ لهم الخير ويريد لهم المستقبل الأفضل تحت ظلال العدالة والمساواة والحرية، لا كشعارات، فحسب، بل كحياة واقعية وحقيقية. تشخيص المرض السياسي، يقتضي معالجته على صعيد الفكر نفسه، وهنا نلاحظ ان الفكر السياسي للإمام الشيرازي يصعّد معالجته للقضية إلى مستوى الواجب الإسلامي، بتوظيف الخبرة الواقعية، والتجربة، للوصول إلى وصف العلاج لذلك المرض السياسي، وذلك لقتامة الظروف التي تمرّ بها الأمة، ففي مثل هذه الظروف تصبح وحدة الهدف، والولاء الثابت الذي لا يتزعزع لقضية الإسلام الكبرى، من أهم مهمات الأمة الإسلامية بأسرها، وفي تاريخ هذه الأمة العريق لم تكن أحوج إلى الوحدة أكثر مما هي أحوج إليها اليوم، ذلك لأن القضايا الخطيرة التي تواجهها الآن على المسرح الدولي تحتّم على كل واحد منا أن يبذل قصارى جهده من أجل الحفاظ على الحرية والدفاع عن الدين الإسلامي الحنيف. ويؤكد هذا الفكر على أن الوحدة لا تنفي وقوع الخلاف في الرأي، فالخلاف في الرأي ووجهات النظر مسألة صحية وطبيعية، وهي سنّة من سنن النشاط الإنساني في أي ميدان كان، ولكن على أن يتم ذلك بروح الأخوة الصادقة والمنزهة عن الحقد، والملتزمة بالعزم الصادق في الوصول إلى الأهداف، وذلك استجابة للعقيدة من جهة، وفهماً عميقاً بنفسيات الشعوب الإسلامية نفسها، من جهة أخرى، فإنه وكما هي الحال بالنسبة لأي أمة فإنه لشيء طبيعي أن تقع خلافات وستظل تقع خلافات في الآراء ووجهات النظر بين المسلمين، ولكل عضو في هذه الأمة الحق لكي يعبر عن آرائه بحرية كلما نشأت الخلافات، لكن حرية التعبير يجب أن تتسم بروح الأخوة الصادقة والمنزهة عن الحقد والضغينة والتنافس وأن تكون مقرونة بعزم مشترك صادق لتحقيق الآمال التي يصبو إليها المسلمون الصادقون جميعاً. بل إنّ الإمام الشيرازي يحرم تحريماً باتاً المهاترات الإعلامية(4). ومن هنا يترتب على الجميع حاكمين ومحكومين أن يدركوا حقيقة أن الشعوب الإسلامية لم تعد بعد الآن قادرة على احتمال الانحطاط إلى مستوى التراشق بالتهم وافتعال الخلافات التافهة فيما بينهم، والتي كانت سبباً في تدهور العلاقات بين أبناء الإسلام. وكم مرت على الأمة أحوال كثيرة كاد النصر أن يكون حليفها، لكنه ما لبث أن أفلت من أيديها ليقع في أيدي أعدائها بسبب هذه التصرفات والمواقف. لذلك يجب ان (تكوين سيرة الدولة الإسلامية والشعب المسلم سيرة تؤدي إلى تفوّق المسلمين على سائر الأمم وتقدّم بلادهم على سائر البلاد في مختلف شؤون الحياة)(5). وفي تشخيص شجاع يحدد هذا الفكر أن المستفيد من الخلافات الإسلامية ـ الإسلامية، هم أعداء هذه الأمة من الذين يريدون تدميرها لصالح مخططاتهم الاستعمارية، والحق أن كل وقائع العالم المعاصر تفرض علينا أن نتساءل: ترى من المستفيد من هذه الخلافات والمنازعات والانشقاقات بين الشقيق وشقيقه؟ وما على المرء إلا أن ينظر حوله ليقف على الجواب، ان المستفيدين هم أولئك الذين يطمحون إلى سيادة العالم، وذلك بجعل عالمنا الإسلامي مسرحاً للصراع السياسي والعسكري لتحقيق مطامحهم. وكإثبات عملي، يستشهد الفكر السياسي للإمام الشيرازي بقضية فلسطين، حيث يرى أن غياب الإجماع الإسلامي قد أضاع كثيراً من الفرص وأنه لا حل لهذه القضية إلا بأسلمتها من جديد(6). وفي معرض دراسته لواقع الأمة الإسلامية عبر ممارسة عملية النقد الذاتي البنّاء والشجاع، يرفض ذلك الفكر جميع صور النفاق السياسي، ذلك النفاق الذي لا يدلّ إلا على غياب الثقة بالذات ومحاولة الهروب من مجابهة الواقع، لأسباب شتى متروكة لمن يهمه استقراء الشواهد من خلال المراقبة السياسية الواعية لمجريات الأحداث التي مرّت على الشعوب الإسلامية، والمواقف المعلنة منها، ومقارنة ذلك بالمواقف الحقيقية، وهذه المقارنة مريرة وشديدة القساوة، لأنها تؤكد أن النفاق السياسي مستفحل على المستويين الخاص والعام. فالواقع الإسلامي واقع مرير، على صعيد السلطات وعلى مستوى الناس، أيضاً. حتى أنّ أهم معوقات التقارب بين المسلمين أنه يوجد بينهم من لا يحبذ العمل الإسلامي المشترك، وكيف يمكن أن يتحقق التعاون بين المسلمين وهناك العديد من الأسباب والشعارات والمزايدات.. هذه الفرقة، وهذه العوامل هي التي تجعل العمل المشترك غير مجد، وهي الشوكة المؤلمة في الجسد الإسلامي. وفي إطار نقد الواقع ورفض النفاق السياسي، يكرر الفكر السياسي للإمام الشيرازي رؤيته الأخلاقية الثابتة للموضوع: (وعليه يلزم أن لا يَغرّ الحاكم التهليل والتصفيق له، والمظاهرات والإضرابات الصاخبة بمجرّد إشارته، فإن كل ذلك علامة سقوطه، قريباً أو بعيداً، لا علامة حبّ الناس ونجاحه)(7). المسألة هنا أن الفكر السياسي الشيرازي، وباعتبار انبثاقه من المركز الشرعي، يطلب الصراحة والوضوح، وهذا يخالف تماماً التوجه السياسي الذي لا يجعل مسيرته على أساس الشريعة، بل مجموعة من المصالح الانية أو الرغبة الإعلامية والدعائية، أو الوقوع في إسار الاحبولة المخادعة السائدة لدى بعض المشتغلين بالميدان السياسي بدون وعي كاف، والتي تتمثل في دعواهم الباطلة من أن العمل السياسي هو عمل لا أخلاقي بطبيعته، كما أنه عمل يخلو من هدف واضح ومحدد، فيصبح هؤلاء أضعف من الأخذ بالصراحة والوضوح، وأعجز من الوصول إلى الحزم والنجاح في الأداء السياسي. وباللغة الواضحة والحازمة، يؤكد الفكر السياسي الشيرازي، على أن الوضع الإسلامي وضع مأساوي ينذر بخطر جسيم، ولذلك يحكم سماحة الإمام بما يلي: (من الضروري توحيد البلاد الإسلامية، كلها، تحت لواء حكومة إسلامية واحدة ذات ألف مليون مسلم. والسؤال هو: ماذا نصنع بالرؤساء الحكام حالياً؟ والجواب: نصنع بهم كما صنع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأهل مكة بعد الفتح. فالحكام لو كان فيهم من تجتمع فيه الشروط ورضيت به أغلبية الأمة يتحتم إقراره في منصبه، وإن لم يكن كذلك عادوا أفراداً عاديين)(8). ولتشخيص سبب هذه الحقيقة، يذهب الإمام الشيرازي إلى أن السبب الرئيس لتفرق المسلمين اليوم يكمن في غياب الوعي، أو بعبارة أكثر دقة، عدم وصوله إلى مرحلة النضج والمسؤولية. وبنفس المنهج المبني على الوضوح والصراحة، يلتمس الفكر السياسي للإمام الشيرازي، مكمن الداء في هذا الواقع الإسلامي المؤسف، حتى لو كان ذلك الداء منبعثاً من ذات المسؤولين الكبار، باعتبارهم السبب المباشر لكل ما يمتاز به الواقع الإسلامي في حالتي تقدمه وانكفائه، فعندما تتكون الحساسية الشخصية تؤثر على وضع العالم الإسلامي، وبهذا هم يتجاوزون المصلحة الكبرى سواء لبلدانهم أو للأمة الإسلامية ككل، وينظرون إليها بنظرة ضيّقة. فعلى زعماء عالمنا الإسلامي أن يدركوا حقيقة أن الشعوب الإسلامية لم تعد بعد الآن قادرة على احتمال الانحطاط إلى مستوى ممارساتهم السياسية البائسة وافتعال الخلافات التافهة فيما بينهم، والتي كانت سبباً في تدهور العلاقات بين دولهم. هذه القراءة الواعية للواقع ومؤدياته المستقبلية تمّ التنظير لها قبل حدوث مشكلة العراق مع إيران والتي جرت إلى كارثة حرب الخليج الأولى، ثم مشكلة العراق مع الكويت التي جرت إلى مأساة مريرة هي حرب الخليج الثانية وما نجم عنها. لقد حدث ذلك التنظير بسنوات عديدة قبل تلك المآسي، سنوات عديدة كان بالإمكان خلالها ـ لو أخذت هذه الحقيقة مداها المفروض في التطبيق ـ أن تتجنب المنطقة الويلات التي حلت بها؛ ولكن الواقع السياسي المعاصر لا يعرف منطلقاً ينبني على (لو). فالحكام الدكتاتوريون، وبحسب رؤية الإمام الشيرازي لا يعترفون بمنطق العقل والعدل، فيقودون الشعوب إلى الكوارث والمآسي التي لا تمسّهم ولا تمسّ كراسيّهم وخدمتهم لمخططات الأجنبي الذي يفتّش عن أهون الذرائع كي يتدخّل بكل قوته وشراسته من أجل إذلال الإسلام والمسلمين. الفكر السياسي الشيرازي لا يكتفي بالتشخيص، وإنما هو يدعو إلى حلّ موضوعي للمشكلة، ويشارك في رسم الطريق لتنفيذ الحل، وذلك من خلال العمل الموضوعي الشجاع لا من خلال الشعارات والمزايدات الديماغوجية ذات المنطلقات الأنانية الضيقة. هذا التشخيص، والتنظير للحل، قدّمه سماحة الإمام إلى العالم العربي ودول المنطقة أثناء الحرب العراقية الإيرانية، وقبل القضية الكويتية بأكثر من عقد من السنين. إن عدم الاستجابة لرؤية الإمام الشيرازي الصائبة لما ستسفر عنه أحداث المنطقة لبعدها عن الإسلام، وانغماسها في الأفكار الضالة والحكام الديكتاتوريين، والأطماع التوسعية، ومحاولة سيطرة القوى الطامعة بخيرات الأمة الإسلامية.. إن عدم الاستجابة لتلك الرؤية أسقطت الأمة كلها في وحول متراكمة من التخلّف والانهيار واشتداد الخلافات بين أبناء الدين الواحد والتاريخ الواحد. وصحيح أن الحلّ بالعودة إلى الإسلام، بحسب ما يراه الفكر السياسي للإمام الشيرازي، إلا أن هذه العودة مرهونة بإرادة الأمة، بزيادة وعيها وإدراكها لمخاطر البعد عن الإسلام. إن الحل في يد الأمة الإسلامية... في أن تتحد كلمتها وأن تتجنب الوقوع في الشراك التي تنصب لها، لكن.. للأسف.. فإن البعض يرى في هذه المآسي مصلحة له على طريقة: مصائب قوم عند قوم فوائد. إن المراقب السياسي المعني بتحليل الواقع الإسلامي، يجد أن هذا النقد الذاتي لواقع الأمة، بما هو واقع وحقيقة معاشة، ورسم الأسباب والمشخصات الموجبة للمأساة المتعددة الأطوار التي مزّقت وتمزق العالم الإسلامي، قد تفرد الفكر السياسي الشيرازي في تشخيصه وبيان شواهده في الأسباب والنتائج، ووضع الحلول الواقعية له. هذه الفرادة في المنحى السياسي الجريء للإمام الشيرازي لا تقتصر ـ في تكوّنها ـ على الانطلاق من الحاضر الإسلامي، وإنما أيضاً، من التراث الأصيل المبني على الصراحة في مجابهة الواقع ومواجهته، نظراً للتكونات النفسية للإنسان المسلم الذي يحتل مكانة عالية في معادلة تكون الفكر السياسي الشيرازي، فيأتي هذا النقد الواقعي العلمي نتيجة طبيعية لامتزاج التراث بكل ما فيه من مقومات عديدة مع الأحداث المعاصرة، الواقعة أو المتنبأ بوقوعها، بأخلاقياتها المختلفة، والتي يأخذ ذلك الفكر منها الشّواخص المنسجمة مع المركز الشرعي والمرتكزات الأخلاقية التراثية والمعاصرة المستلهمة من ذلك المركز الشرعي نفسه. وبالطبع، فإن هذا الفكر، لا يريد النقد، لمجرد كونه نقداً، ولكنه يريده لتشخيص أدواء العالم الإسلامي وعلله، في خطوة تتجاوز الموجود السيىء، إلى التطور والنمو المتّزن باتجاه حلول المشكلات الإسلامية المزمنة والطارئة، ومن هنا تبرز قواعد انطلاقية أخرى، تكميلية، سنلاحظها، لاحقاً، في النقاط الارتكازية للفكر السياسي للإمام الشيرازي. ولا يقتصر هذا النقد على الشأن السياسي الخارجي وحده، بل هو يمتد ليشمل النقد الداخلي المتصل بعمليات التغيير الداخلي في جميع البلدان الإسلامية، مع تقديم البديل المناسب، بترسيخ مفهوم الشورى والوحدة الإسلامية، وبقية أركان النظام الإسلامي. فعن الشورى يقرر الفكر السياسي للإمام الشيرازي وجوب الشورى: * (ولا يكفي للحاكم الإسلامي أن يطبّق مبادئ الإسلام وقوانينه، بدون قانون الشورى)(9). فيجعل الشورى لازمة واجبة. وعن الوحدة الإسلامية كسبيل لإعادة التأثير الإسلامي في حضارة العالم، يقول: * (يجب أن تكون البلاد الإسلامية موحّدة، والوحدة الإسلامية لا تتحقّق في الواقع الخارجي إلا بعد شعور وحدوي في أعماق نفوس المسلمين، فالأمة واحدة والربّ واحد والكتاب واحد والنبي واحد والشريعة الإسلامية قائمة على الكتاب والسنّة، وعلينا أن نتّبعها حقّ الاتباع، وليس الإسلام منحصراً في الصلاة والصيام وتعمير المساجد وما أشبه، هذه أجزاء من الإسلام، وهناك أجزاء أخرى منها توحيد البلاد الإسلامية تحت لواء واحد)(10). فالإمام الشيرازي يضع في هذا النصّ (الوحدة الإسلامية) في منزلة الوجوب الشرعي، كما أنه يرسم لها طريق التحقّق، عن طريق البناء الداخلي لكل فرد مسلم بحيث يحسّ المسلم في هذا البلد أو ذاك بوحدة مع أبناء دينه في البلدان الأخرى، ويغدو معهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى. هذه الرؤية عبر عنها الفكر السياسي الشيرازي، منطلقاً من تشخيص المرض الاجتماعي السياسي المعاصر والذي من ظواهره افتقاد وحدة الموقف، في أيّ شأن من شؤون العالم الإسلامي، وعدم الاهتمام بحلول أيّ مشكلة من مشكلاته، كما في موضوع القضية الفلسطينية، أو من زاوية الحرب العراقية الإيرانية، أو العراقية الكويتية، وما سبقهما، وما تلاهما، حتى أن المراقب السياسي المتمتع بمنهجية فكرية وعلمية يجد في هذه الرؤية استشرافاً لما سيقع من أحداث، لأنها رؤية صافية تنطلق من جوهر الإسلام ذاته، ضمن منظور افتقاد المشاركة الشعبية في صياغة الموقف السياسي لعموم الدول الإسلامية، وبخاصة ما شهدته المنطقة من حروب وعمليات تخريب وإرهاب، وخلخلة في القضية الفلسطينية، بل في مجمل البناء الاجتماعي ـ السياسي للعالم الإسلامي. وبلا شك فإن الأخذ بمنهج (رحم الله من أهدى إلي عيوبي) العقلاني والمتزن من شأنه أن يقدم خدمة عظيمة لشعوب المنطقة، خاصة وأنه ينطلق من تفهم دقيق لنفسيات هذه الشعوب، وخلفياتها الحضارية والتاريخية، المرتكزة على حضارة عظيمة قدّمها الإسلام للعالم، وتعتبر أكثر الحضارات إنسانية ورفعة وسمواً.
2 ـ استقلال المواقف السياسية: يؤمن الفكر السياسي للإمام الشيرازي بما يمكن تسميته بالمصطلح الحديث بالواقعية السياسية المبدئية، أي تلك التي تنبني على أساس المصلحة الإسلامية، والتي نستجليها باستقلال المواقف السياسية للدولة. هذه الواقعية تتحكم في الفكر السياسي للإمام الشيرازي. وهذه الواقعية منطلقة من الشريعة، ومرشّدة بتطبيق تلك النصوص الشرعية على أرض الواقع. ومن البديهي، في علم السياسة، أن استقلال المواقف السياسية، يتمثّل في جعل الواقعية السياسية محكومة بثوابت الشريعة التي يجب أن تقود خطواتها، وتمنحها قيمها الأخلاقية، فترصّن من مسيرتها، وتدفعها إلى تحقيق نفع أعظم وأكبر للمجتمع السياسي محلياً وعالمياً، عبر أساليب العمل السياسي المتزن والذكي، بعد تشخيص عقلاني موضوعي لأمراض الواقع، من خلال الرصد وتنفيذ عمليات النقد الذاتي، باتجاه استشراف السبل العملية الكفيلة بوضع الخطوط العامة، بل والتفصيلية أحياناً، للتحرك السياسي المثمر والناجح والمؤثر محلياً وعالمياً، والمؤدي، بالنتيجة، إلى حلحلة المشكلات والأزمات، بعيداً عن التطرف والشعارات الخدّاعة. أي أن استقلال المواقف السياسية يكون مبدئياً، مادام منبثقاً من المركز الشرعي، وعاملاً على تحقيق الأهداف النبيلة، بضمن الأطر الإنسانية التي تحكم التحرك الحضاري في العالم، بحسب ما رصّنه الإسلام. ويبني الإمام الشيرازي واقعيته السياسية المبدئية على: أ ـ وجادلهم بالتي هي أحسن: يذهب المركز الشرعي في الفكر السياسي الشيرازي إلى أن الحوار يجب أن يكون هو اللغة السائدة بين مختلف الأجناس والأعراق والشعوب، وذلك المركز الشرعي لا يقر الحرب إلا إذا كانت دفاعية، أو بالمصطلح السياسي العسكري الحديث، الحرب الوقائية. بهذه النظرة، وبفهم العلاقات الدولية، والمصالح المتشابكة لدول العالم المختلفة، وانطلاقاً من مشخصات العقيدة الإسلامية ومميزاتها في جنوحها للسلام، والتفاهم على الصعيدين العام والخاص، فقد تبنى الفكر السياسي الشيرازي الحوار المفضي إلى الحصول على الحقوق المشروعة، وهذا يعني ان ذلك الفكر حين يدعو إلى الحوار، فإنما يقصد الحوار المثمر البنّاء، لا الحوار الذي هو مضيعة للوقت، وتوكيد للنفاق السياسي، وإشغال الرأي العام فيما لا منفعة فيه. إن منطقة الخليج، تعرف قبل غيرها، مصداقية هذه الرؤية وصوابيتها، بعد أن عاشت حربين متتاليتين رهيبتين لأسباب عديدة منها افتقاد منهجية الحوار في حل المشكلات، واللجوء إلى لغة الحرب والخراب. وفي الوقت الذي يعيش فيه العالم الإسلامي حالة التشرذم والشتات، وعدم القدرة على بلورة موقف محدد وموحد يستطيع أن يؤثر على مجريات الأحداث لافتقاد الحكومات للقاعدة الفكرية الإسلامية، استطاع الفكر السياسي الشيرازي، واعتماداً على نهجه في تبني الواقعية السياسية المبدئية، رسم طريق الخلاص، على أساس أن الذين يهمهم تحقيق ذلك الهدف يجب أن يكونوا منحازين تماماً للعقيدة الإسلامية والحلول التي تقدّمها في جميع القضايا التي كانت ساخنة ومؤذنة بالانفجار. ويرى المراقبون السياسيون ان ذلك الانحياز، بضمن ظروفه المعروفة، هو من أجل وضع حلول تؤدي إلى تطبيق الإسلام، بمنهجيته التي تكشف عنها كتابات الإمام الشيرازي الذي وضع النقاط على الحروف. الفكر السياسي الشيرازي، أشار بوضوح إلى المخاطر الكامنة في ابتعاد الأمة عن إسلامها وقدم حلوله للمشكلة عن طريق الحوار والدعوة إلى إقامة نظام إسلامي يرتكز على إرادة الناس ويقوى بقوّة الأمة، ووضع على عاتق العلماء مسؤولية شرعية، في إبعاد الحكام الظالمين أولاً، لينفسح المجال أمام المخلصين من أجل التحاور والتشاور لما فيه عزّ الإسلام والمسلمين، ثانياً: (الواجب الشرعي على العالم الديني، كوجوب الصلاة والصيام، أن يهتمّ لإبعاد الحكّام الظلمة عن الساحة الإسلامية، ليقبض زمام الأمة العلماء الراشدون، فيسيرون بالأمة، كما أراد الله، سبحانه)(11). وقد عقد الإمام الشيرازي فصلاً خاصاً للسلام في كتابه الشهير (الصياغة الجديدة) الذي من عناوينه: الحرب أسوأ شيء عرفه الإنسان/ الحرب هي الخيار الأخير/ حروب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت دفاعية/ أقلّ قدر من الضحايا/.. نحو تعميم السلام/ الإسلام يعتبر الحرب حالة استثنائية. فلا أدري أي حرب ستقع بين المسلمين لو أخذوا بهذه الرؤية المستنبطة من أصول الإسلام التي لا يرقى الشك إلى صوابها وصحتها؟! الحوار، في الفكر السياسي الشيرازي، إذن، لا يعرف حدوداً، إلا حدود الوصول إلى تجنب الحرب والدمار وحل المشاكل المستعصية، ولكن بشرط ألا يفرّط الحوار بحقوق الأمة أو إرادة الشريعة، أو مصالح المسلمين. على أننا يجب ان نعيد الإشارة هنا إلى أن هذا الفكر لا يسلم بالحوار بشكل مطلق، بل يأخذ بالحوار المثمر المؤدي فعلاً إلى نتائج إيجابية، وإلا فإن الحوار مع محاور غادر ـ مثلاً ـ لا جدوى منه. ومن هنا يأتي حمل السلاح مرافقاً للدعوة والطمأنينة. ب ـ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة: من البديهيات في عالم السياسة الدولية، ان من يريد أن يدعو الآخرين إلى قيمه الحضارية الأصيلة، وينصحهم بأن ينهجوا نهجاً أكثر علمية وواقعية من مناهجهم، من أجل أن يحصلوا على مبتغاهم في حياة هنيئة لا تنغّصها الجرائم ولا تنهش فيها الأمراض.. يجب أن يعطيهم أنموذجاً حياً من سلوكه الحضاري وتطوره وتقدّمه. وكذا إذا أراد من الآخرين أن يسندوه في معاناة يمرّ بها أو ظرف عصيب يتعرّض له يجب عليه أن يخاطبهم بالانطلاق من خصوصياته المحلية، التي يجب أن يرصّنها بحيث تستطيع تحقيق فرضياتها، وبغير ذلك يفرغ الخطاب من مضمونه السياسي حتى لو كان متدثراً بألفاظ ذات دلالة سياسية، انه يصبح مجرد شعارات لا تجد من يصغي إليها إلا على صعيد الاستهلاك المحلي والنفاق السياسي. وهذه البديهية ـ للأسف الشديد ـ غائبة عن أذهان كثير من المتعاطين مع الشأن السياسي؛ فهم يريدون كسب الرأي العام، ولكنهم ـ في الوقت نفسه ـ يناقضون أنفسهم، حين يتوجهون إلى الرأي العام، إلى العالم، بخطاب غير مرتكز على واقع داخلي صلب رصين، ومن غير مراعاة لخصوصيات مراحل تطورهم الداخلي، أو المجتمعي، وأيضاً من غير فهم ناضج لحركة العالم وقوانين تلك الحركة، على مستوى العلاقات وعلى مستوى المصالح، ومن هنا يبدأ السبب الأكثر أهمية في انقطاع التواصل مع العالم والتأثير فيه، لتبقى الساحة خالية للفضائيات ووسائل الإعلام المشبوهة لزيادة تشويه صورة الإسلام والمسلمين. وقد حدد الفكر السياسي الشيرازي هذه المسألة منذ وقت مبكر، فطالب بضرورة تطوير البلدان الإسلامية، والاستفادة من تأثيرات الإسلام بما يقترب من الأهداف المراد تحقيقها. يرى الإمام الشيرازي أنّ قوة الإسلام هي في حدّ ذاتها إضعاف لأعدائه ولذلك يريدون إضعافه حتى في داخل بلاد المسلمين: (ضرب الأمة الإسلامية في بلاد الإسلام، حيث إن المستعمر يرى أنه لو ترك الأمر وشأنه، قويت القوة الإسلامية المترعرعة، وضربت مصالحه، فيأتي بجملة عملائه إلى الحكم في انقلاب عسكريّ لينوب عنه في ضرب الحركة الإسلامية)(12). الفكر السياسي الشيرازي، ومن هذه القاعدة الثابتة، يقرر أن ثمة ارتباطاً جدلياً بين الداخل والخارج، على مختلف مستويات العلاقات الاجتماعية والعلاقات الدولية(13). كما يحدد ذلك الفكر ضرورة الانطلاق في القضايا الإسلامية من القوة الإسلامية ذاتها، فإن لم تكن متوفّرة يجب توفيرها بدلاً من الضياع على أبواب الدول الاستعمارية أو الأمم المتحدة التي لا تقدّم نفعاً. فالقضايا الإسلامية الكبرى أصابها الفشل والضياع على يد الأمم المتحدة ومجلس الأمن، فإلى متى تُستلب مصالح المسلمين وتُنتهك بلادهم تحت اسم قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن. (ولماذا نصدّق بالأمم المتحدة وهي أوضح مثال على الانحراف، حيث نرى الأمم المتحدة مكاناً لهدر الحقوق) (14). (فإذا لم يكن القانون واحداً بالنسبة إلى جميع الناس لزم التدافع والتناحر والحروب، وما يشاهد في العالم من الحروب والتنازع فهو في كثير من الأحيان بسبب اختلاف القانون في بلد عن بلد، فهذا البلد يريد الاستعمار ويعطي الحقّ لنفسه أن يستعمر الآخرين، وذلك البلد لا يريد الاستعمار، أو يريد الاستعمار أيضاً للبلد الذي يريد البلد الأول استعماره، وبذلك يقع التدافع بين الجانبين وينتهي الأمر إلى التحارب)(15). هذا التحديد يحتاج إلى إيضاح الطريق المؤدي إليه، ويراه الإمام الشيرازي في معطيات محلية أيضاً، متمثلة هنا في توفر قانون واحد لكل العالم، يقدمه المسلمون، وهذا القانون هو القانون الإلهي لا الوضعي، والقانون الإلهي المقصود هو الذي اكتمل في الإسلام وهو موجّه للبشرية كلها، لما فيه نفعها وصلاحها ومصلحتها الآنيّة والمستقبليّة. ولكن هذا الطريق بحاجة إلى إيضاح جزئياته، لأنه إذا كان من السهل الدعوة إلى نبذ الفرقة، وإلى الاجتماع حول كلمة واحدة وخطة واحدة، فليس من السهل إخراج ذلك إلى حيز التطبيق الممكن، ما لم تتوفر نظرة واقعية لجوانب المشكلة، يستطاع عن طريقها بيان جزئيات التطبيق نفسه؛ ولم يغفل الفكر السياسي الشيرازي هذه النظرة، ضمن معطيات الواقع، وفهم جذور المشكلة وثوابتها: (إن ذا القدرة المتمركزة، فرداً كان أو جماعة، يلتفّ حوله جماعة آخرون، يعطونه مزيداً من القدرة، إذ أنهم يرون نجاحه نجاحهم، وسقوطه سقوطهم، فالتفافهم حوله يزيده قدرة، كما أنهم بقدرته المتمركزة، يستمدون منه القدرة؛ مثله ومثلهم، مثل ماء البحر وقطرات الأمطار حيث أن البحر يستمدّ منها مزيداً من القدرة بينما تلك القطرات تصبح ذات قدرة كبيرة باستهلاكها في البحر، وكذلك في قدرة الجيش فإنّ الأفراد الذين ينضّمون إلى الجيش يزيدونه قدرة، كما أنهم يتقوّون به. وتصاعد القدرة بالانضمام هندسيّ لا عدديّ، فإن تفاحة وتفاحة أخرى لا تزيد عن تفّاحتين، أما قدرة وقدرة أخرى تكون أكثر من قدرتين. ولذا الجيش يقدر على فتح المدن، بينما لا توجد هذه القدرة الجديدة، بسبب الانضمام، في كل فرد من أفراد الجيش، فالقدرة كالبذرة إذا زرعت حيث إنها تنمو، وتعطي الأغصان والأوراد والأزهار والثمار، وعليه فالقدرة ذات نماء وأطوار، وليست جامدة محدودة كسائر الجوامد)(16). فمؤدّى هذا الكلام أنّ المسلمين اليوم يستطيعون أن يتملّكوا قدرة إضافية، بالتفاهم حول الفكر الناضج الواعي الذي يقدّم للعالم أمثلة حيّة من الابتكار، بحيث يزداد الفكر قدرة في الذين التفوا حوله. كما لو حدث الالتفاف حول أشياء أخرى فإنهم يعطون تلك الأشياء قدرة مضافة. ومن هذا المنطلق، وهذه القناعة، يرى الإمام أن على المسلمين أنفسهم أن يوحّدوا صفوفهم، ليتمكنوا من مخاطبة الرأي العام العالمي، ضمن منظور أنه لا يمكن الوصول إلى (العالمي) من غير البدء بـ (المحلي) كما يعترف بذلك باحثون غربيون عديدون. ويعتبر المراقبون السياسيون هذه الرؤية، إشارة تحذير متقدمة وواعية للمخاطر الجسيمة التي تتعرض لها القضايا الإسلامية، مثل قضية فلسطين وكشمير وأفغانستان وغيرها، على يد أهلها الأقربين قبل غيرهم، في حالة استمرار نهج الفرقة والتمزق، ذلك النهج الذي لا يخدم ـ سياسياً ـ القضية بأي شكل من الأشكال، بل يمهد لمزيد من التشرذم والشتات. ومهما يكن الأمر فإن الفكر السياسي الشيرازي يرى انه ما لم يتم ترتيب البيت الداخلي، فلا يمكن تحقيق الطموح، باكتساب تأييد الرأي العام العالمي ولا نشر الإسلام.
ج ـ فهم طبيعة العصر: إذا كانت الرؤية الشيرازية تنطلق من الإسلام إلى العالم، ومن الخاص المحلي إلى العام العالمي، بمراعاة منظومة القيم الأخلاقية في الحوار السياسي، وتبادل المنافع، فإنها لم تغفل الدعوة إلى ضرورة فهم طبيعة العلاقات الدولية وطبيعة العصر، والعوامل المحركة، على ما أشار إليه سماحته في أكثر من مكان(17). ويدرك الإمام الشيرازي أن أي سياسة لدى الدول الغربية، والحكومات ذات القوانين الوضعية هي سياسة مبنية على المصالح، ومن هنا يتوجه الفكر السياسي الشيرازي إلى جميع المسلمين، بضرورة المحافظة على مصالحهم هم، فتلك هي أهداف السياسة المعاصرة، فلماذا، إذن، يفرّطون بمصالحهم؟! كما أن الإسلام يأمرهم بالمحافظة على تلك المصالح. هذه الرؤى، تحمل في تضاعيفها فهماً دقيقاً للعلاقات الدولية وما يتحكم في تلك العلاقات، كما أنها توضح على صعيد الفكر والواقع إمكانية مخاطبة الرأي العام بطريقة علمية مدروسة، ومن ثم دخول معترك الصراع الحضاري الحديث، بناء على ذلك الفهم؛ دالة بذلك على النظرية الدافعة لها، ومشيرة إلى القوانين التي تحكّمت في مسار البشرية، تلك القوانين التي يتكلّم عليها الإمام الشيرازي تحت عناوين متعددة، مثل ظهور الأمم واختفائها، حيث يقرر: (وعلى هذا فالأمر بحاجة إلى بحث علمي نزيه، يقسّم الأدوار التاريخية حسب الحضارات والأمم، وقد تعرّض لذلك جمع من علماء المسلمين، وتقسيمهم أقرب إلى النزاه التاريخي والبحث العلمي، وحيث إنّ تفصيل ذلك خارج مهمّة البحث، نتركه لمظانّه، وإنما نقول إن الأمة والتي نحن بصددها الآن، مفهومها في الوقت الحاضر، غير مفهومها في الأديان، حيث إن العهد الحاضر لا يقيم للدين وزناً، ولذا فالأمة عبارة عن القومية الخاصة، أو الذين يعيشون في مكان جغرافي خاص، أو ما أشبه ذلك، بينما الأمة في اصطلاح الأديان، هي كل من قبل ذلك الدين مثل الأمة المسيحية، والأمة الإسلامية)(18). وهذه الرؤية المتفرّدة لصراع الحضارات والتقائها، وأدوار الأمم المختلفة، وتعدد مفاهيم الأمة في العصور المتعاقبة، تقودنا إلى إطار آخر من أطر الفكر السياسي للإمام الشيرازي، ذلك هو إطار المقارنة بين وضع الإنسان الفرد في النظام الإسلامي والنظم الوضعيّة الأخرى، ونقرر أن فهم هذا الموضوع أصبح من الأمور اللازمة لمن أراد أن يفهم منطق العصر، ويتعلم كيفية مخاطبة الرأي العام العالمي، واكتسابه إلى جنب القضايا الإسلامية، أو كسبه إلى الإسلام وإلى الإيمان به، وكذا لمن أراد أن يفهم العصر. يقول الإمام الشيرازي: (ومن الواضح أنّ هذه الأنماط الفكرية والعملية تؤثر في حياة الناس وأسلوب عيشهم، فالاقتصاد في منطق الإسلام هو في خدمة الإنسان، لأن الإنسان هو المحور، بينما صار الإنسان في النظام الغربي والشرقي في خدمة الاقتصاد. كما أن العلم والعلماء في المنطق الإسلامي في خدمة الإنسان، بينما هم في الشرق والغرب في خدمة الاقتصاد، الذي أصبحت أزمته بيد الرأسماليين سواء من التجار كما في الغرب، أم من الحكام كما في الشرق (المقصود المعسكر السوفياتي المنحل) ولذا حرّم الإسلام كلّ اقتصاد وكل علم يضرّ الإنسان بينما أباحهما الغرب والشرق، حيث يدران المال الوفير للرأسماليين الغربيين والشرقيين. مثلاً: الإسلام يحرّم، بالنسبة إلى العلم، السحر والشعوذة والغناء والقيافة والكهانة وكتب الضلال وما أشبه. كما أن الإسلام، بالنسبة للاقتصاد، يحرم الربا والاحتكار وصنع المواد الضارّة والأسلحة المدمرة على الأسلوب الغربي، بينما الغرب والشرق يبيحون كل ذلك، ويجعلون الأنظمة والقوانين المسهلة لكل هذه الأمور)(19). نلمس هذه المعالجات لمسألة علاقة المسلمين بالعصر الحديث، وفهمها وفهم قوانين العلاقات الدولية في كثير من مؤلفات السيد الإمام الشيرازي. وهي جميعاً تدعو إلى ضرورة فهم العصر وقوانينه، والتعرف على القانون الدولي وطبيعة العلاقات بين الأمم والشعوب لا من أجل الخضوع لتلك القوانين والاستكانة للمستعمرين وما يفرضونه على شعوب العالم، وإنما بهدف الدعوة إلى الإسلام ومخاطبة العالم بالمقولات الإسلامية، وباللغة التي تناسب العصر وإنسانه من غير استفزاز ولا إثارة لا مبرّر لها. |
قواعد في الممارسة والسلوك |
إضافة إلى منظومة القيم هذه التي تنبثق من الشريعة، ويتحرك على هداها الأداء السياسي، والقرار السياسي في الفكر الإسلامي المستنير، ما كان يتصل بالداخل الإسلامي وتنميته ونهضته، وما كان يتعلق بالخارج بمواقفه وعلاقاته، وإضافة إلى القيم الأخلاقية من الصدق والأمانة والإخلاص وغيرها، مما رسّخه الإسلام ودعا إليه، فإن الفكر السياسي للإمام الشيرازي وضع جملة من الضوابط الأخلاقية والتشريعية، تتحكم في مسار الوظيفة السياسية للحكومة والمؤسسات العاملة في الدولة، بكل ما في ذلك من معنى يشمل جميع أوجه النشاط الحكومي والشعبي في إطار تكامل أدوار جميع أفراد المجتمع السياسي بغرض الوصول إلى هدف المسيرة التغييرية الإسلامية الحديثة، بحسب رؤى الإمام الشيرازي ذاته. وتنصرف هذه الضوابط الأخلاقية والتشريعية إلى التذكير المستمر بضرورة الشورى والحرية والعدالة والاهتمام بحقوق الإنسان، والسعي الدائم لتطوير البلاد وترسيخ معالم التغيير، والانطلاق نحو المشاركة في صياغة حضارة العالم. وذلك بالتأكيد على ما سبق ذكره فيما مر معناه حين الحديث عن دائرة المركز الشرعي، والأشعة المنطلقة منه، وما يتفرع عنهما من أساليب العمل ومرتكزات التنفيذ. ونلاحظ أن هذه القواعد في الحياة هي مثال حيّ للسلوك الإسلامي، والذي يجب مراعاته في أي عمل تغييري، وهو، بحكم وجوبه ليس موجهاً إلى قطاع واحد من قطاعات الاجتماع، بل هو موجه إلى جميع تلك القطاعات، وإلى الحكومة، وإلى الناس كافّة، كما إلى الدول الأخرى، في النقاط المشتركة للمسيرة الإنسانية. ويمكن أن نقرر أن هذه الضوابط خاضعة للنظرية الإسلامية الأصيلة التي تفسّر المعيار الحقيقي لقياس حياة الشعوب وحيويتها، والتي تقول: (إن إقامة الحكومة الإسلامية العالمية الواحدة واجب شرعيّ كالصلاة والصيام والخمس والزكاة، كما يُستفاد ذلك من الأحاديث الشريفة. والتثقيف هو أحد أهم أركان إقامة هذه الحكومة، فإن الثقافة هي التي تغيّر مسيرة الإنسان إلى الأحسن أو الأسوأ)(20). ذلك أن حياة الأمم والشعوب لا تحتسب بالسنين، وإنما تحصى بالإنجازات التي حققتها على طريق التطور الحضاري، والنمو الشامل في المجالات المختلفة، ومدى تأثيرها في قضايا العالم، والتبشير برؤاها الحيّة. ومن أجل نقل هذه النظرية إلى حيّز التنفيذ، وضع الإمام الشيرازي كثيراً من القواعد السلوكية، التي يمكن أن نقسمها إلى قسمين كبيرين: القسم الأول: الضوابط العامّة. القسم الثاني: الضوابط الخاصّة بالأحزاب، ونفردها في بحث مستقل، فيما بعد، لأهمية موضوع الأحزاب في العصر الحديث.
القسم الأول: الضوابط العامّة: 1 ـ الثقة التي كان المسلمون قد وضعوها في الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت (ع) جعلهم يتقبّلون بالرضا الكامل من يعيّنه لهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته لإدارة شؤون الناس، ونظم أمرهم. وقد كان تقبّل الناس لمن يعيّنهم أئمة أهل البيت (ع) دليلاً على أن أولئك الناس كانوا يعرفون من هم الأحقّ بالحكم. 2 ـ وبالتالي فإن بناء دولة الإسلام يجب أن يتم على الثقة والشرعية الحقيقية. 3 ـ على الحكومة أن تنظر إلى جميع المسلمين على أنهم اخوة وأبناء، تحقيقاً للعدالة والمساواة، فيجب ان لا تدخل القرابة النسبية في حساب أي مسؤول، فكل الأفراد هم اخوة وأبناء. 4 ـ على الزعماء والقادة أن يضعوا موارد بلادهم في خدمة شعوبهم، وان هذا المبدأ يجب أن يتطور لصالح الإسلام والمسلمين والتكامل الحضاري. لذا فإن أبواب واردات خزينة الدولة، وأبواب صرف تلك الواردات موضّحة بكل التفاصيل والدقائق، في كتب الإمام الشيرازي الفقهية. وبحسب هذه النظرية فإن من واجب الرؤساء التأكد من أن موارد بلادهم تستخدم لفائدة شعوبهم، ويجب عليهم الإيمان بضرورة اعتماد هذا المبدأ بشكل موسّع ليشمل نظاماً للتعاون الاقتصادي على نطاق عالمي لمنفعة البشرية جمعاء. فالتقدم التقني الكبير الذي حققته الدول المتقدمة يجب أن يضّم مع المصادر المادية العالمية لتلبية هذه الحاجات، على أن يُنظر إلى المسألة برمّتها بحسب مصلحة الإسلام والمسلمين. 5 ـ على المسؤولين أن يقوموا بأعمالهم في خدمة الناس بما يرضي الله ورسوله، وربما يكون تحقيقاً لآمال القيادة الإسلامية التي اختارتهم، وكذا بما يرضي المسلمين الذين وضعوا ثقتهم في تلك القيادة. سواء كانت تلك القيادة في الحكم أم في خارجه. 6 ـ يجب أن تعمل الحكومة على رفع مستوى الفرد الفكري والمعاشي وتحقيق المساواة والحرية والعدالة بين جميع المواطنين، ضمن قاعدة العمل والجزاء، وأن لا يدّخر المسؤولون جهداً وأن يبذلوا كل ما في وسعهم من أجل العمل على رفع مستوى الفرد الذي يتساوى مع غيره من أعضاء المجتمع في الحقوق والواجبات، كافّة، والذي يأخذ بقدر ما يقدم من جهد وعرق وإخلاص ووفاء لمبادئ دينه. 7 ـ يجب أن توضع جميع هذه الجهود لخير الإنسان المسلم ورفاهيته وتحقيق عزّته وكرامته، وصيانة حقوقه. 8 ـ الشعب هو السند القوي للنهضة الإسلامية، وبناء دولة الإسلام الواحدة، وعليه أن يواصل مسيرته بالعلم والعمل والحرية، بوعي أصيل بقيم المكاسب التي وصل إليها، وبما يريده منه دينه. 9 ـ على القيادة السياسية والدينية أن تعتبر الإنسان المسلم هو رصيدها الأساسي في جميع ميادين العمل من أجل الفكر الإسلامي وتحقيق أهدافه وغاياته، ولذلك يجب الانطلاق من توفير التعليم والعلاج والغذاء والسكن. 10 ـ ولذلك فعلى المسؤولين أن يتذكروا ـ دائماً ـ ان الدولة بكل أجهزتها هي لخدمة الإسلام والمسلمين. وقد قال الله تعالى في كتابه الكريم: (وتعاونوا على البرّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)(21). 11 ـ على جميع أعضاء الاجتماع أن يقفوا أمام الله بالطاعة والإخلاص والتعاون والاجتهاد، حكومة وشعباً. 12 ـ على الشعب المسلم أن يدخل في سباق مع الزمن برغم جميع التحديات، ليحقق لمسيرته النجاح في عملية التغيير وتحقيق أهدافها، ومن ثم ينبغي الحفاظ على تلك الحماسة وتلك الإدارة، وتغذيتهما وتطويرهما باستمرار. 13 ـ يجب أن يعرف المسلم إنجازاته الحضارية التاريخية، ويجب ان يندفع ليبني أفضل منها، ويتم ذلك بأن يرى الانجازات على أرض الواقع لا في الشعارات والهتافات فقط. 14 ـ يجب أن يتحقق الترابط الوثيق بين الحكومة والناس، وهذه سياسة لا محيد عنها أبداً في الفكر السياسي للإمام الشيرازي. 15 ـ حرمان البلاد الإسلامية ـ ولفترة طويلة جداً ـ من التعليم الحقيقي، يفرض وجوب التسريع بعملية التعليم والتدريب، والاستعانة بالكفاءات الإسلامية وتأهيلها لقيادة عملية التغيير. 16- ولتحقيق ذلك، يجب أن تتوفّر الحرية بأوسع معانيها. وهي الحرية التي عدّد منها سماحة الإمام أكثر من مائة حريّة شرعها الإسلام لأتباعه. 17 ـ جميع أبواب المسؤولين يجب أن تكون مفتوحة، ويجب أن تظل مفتوحة، أمام أبناء المجتمع لتحمل المسؤولية ومهمة البناء، لأن غايات الإسلام لن تتحقق بغير مشاركة المسلمين جميعاً، وشعورهم بأنّ المسؤولين منهم وإليهم فلا حواجز بينهم. 18 ـ يجب أن تكون مصلحة الإسلام والمسلمين هدفاً دائماً لجميع أعضاء الاجتماع. 19 ـ يجب على الحكومة أن تخدم الشريعة وعلى المسؤولين فيها التخلص من جميع الأنانيات، معتبرين مصلحة الأمة قبل أي مصلحة شخصية. فإنهم جميعاً خدم للناس، وعليهم أن يؤدوا هذه الخدمة بكل إخلاص وأن يتجرّدوا من جميع الأنانيات. 20 ـ تحقيق المستقبل الزاهر يتطلب التشبّع بالروح الإسلامية والقيم الإسلامية، والاعتزاز بالتراث والعلم، وحب العمل. 21 ـ يجب العمل على ترسيخ وعي الإنسان المسلم، رجلاً أو امرأة، بدوره ومسؤوليته، وتعميق التعاون والتفاعل بين أفراد الشعب والحكومة، وتطوير مستوى الأداء في جميع مجالات الحياة، فضلاً عما للتوعية من أهمية كبرى للحفاظ على كل الإنجازات التي تهدف الدولة الإسلامية، إلى تحقيقها. 22 ـ على المسؤولين دراسة القوانين الإسلامية دراسة وافية، والالتزام الدقيق بها، وتلك القوانين تهدف إلى المحافظة على مصالح الناس. 23 ـ الأولوية دائماً لتعزيز القوة الذاتية لما فيه خير الإسلام والمسلمين. ويجب على المسلمين، دائماً أن يضعوا نصب أعينهم الأهمية الكبرى لتعزيز قوتهم الذاتية باستمرار وفي كل المجالات بما يمكنهم من تذليل الصعاب والتغلب على التحديات وإنجاز مهامهم الإسلامية لخير البلاد الإسلامية وأهلها. 24 ـ ومن أجل تحقيق ذلك لابد من تأهيل وتدريب القوى البشرية بما يستجيب لمتطلبات عملية التغيير والبناء. 25 ـ التوعية ضرورة ملحة، ويجب أن ترتقي إلى مستوى المسؤولية العامة لجميع فئات المجتمع وشرائحه. ويجب على الدولة الإسلامية الحرص على إعطاء عناية أكبر لتوعية المجتمع بطبيعة المرحلة الحضارية التي يمرّ بها ومتطلباتها الضرورية وتوعيته كذلك بكل ما له من حقوق وعليه من واجبات تجاه بلاده ومجتمعه فإن هذه التوعية يجب ان تأخذ طابع المسؤولية العامة، وأن يشارك في أدائها كل الواعين من أبناء الإسلام. 26 ـ أساس القوة يكمن في توفير حياة كريمة للناس، وإتاحة فرص تدريب الشباب ليساهموا في خدمة دينهم وأبناء شعبهم في جميع البلدان الإسلامية، وكذلك من هاجر منهم إلى الخارج للدراسة أو التجارة أو الجهاد أو غيرها. 27 ـ من واجب الحكومة والقطاع الخاص أن يتخذوا خطوات جادة على طريق أسلمة الوظائف أي إسنادها إلى العناصر الإسلامية القادرة. 28 ـ ضرورة تنويع مصادر الدخل الاقتصادي للبلاد. ويجب أن يهتمّ المسؤولون بتنويع تلك المصادر، وتنميتها إلى أقصى حد ممكن بما يعطي التركيز الأكبر للزراعة والصناعة والتجارة وغيرها من الأنشطة الاقتصادية بحسب طبيعة المنطقة. 29 ـ توجيه طاقات المجتمع للعمل والتنافس الشريف، واعتماد الأداء الأفضل مقياساً للمردود المكافئ في بناء دولة الإسلام، واعتماد الأداء الأفضل معياراً للتمتع بالخيرات، استرشاداً بقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إن الله تعالى يحب إذا عمل أحدكم عملاً ان يتقنه). 30 ـ النهوض بالمسلمين عملية حيوية لا يمكن أن تتوقف عند تحقيق أهداف مرحلية، ولن يقرّ لها قرار حتى تحقّق دولة الإسلام في جميع أرجاء العالم. 31 ـ ضرورة توسيع آفاق التعاون بين المسلمين لضمان استمرار التقدم وتحقيق الأهداف، والحرص على اختيار الأولويات، وتوعية المجتمع بأهمية وجدوى اتخاذ المزيد من الخطوات لتنمية وتوسيع آفاق التعاون بين المسلمين في سائر المجالات لخير واستقرار ورفاهية الشعب في الدولة الإسلامية الواحدة، فإن المسؤولية الجماعية نحو ضمان استمرار التقدم لمسيرة الإسلام بكل النجاح تتطلب من جميع فئات المجتمع المسلم، وفي كل وقت، الحرص على انتقاء المجالات وترتيبها وفقاً لأولويتها ووفقاً لطبيعة كل مرحلة ولقدرة أعضاء المجتمع على استيعاب خطوات التعاون في البرّ والتقوى، لتأخذ الجهود المشتركة طابع التركيز المستمر لإنجاز المهام والمسؤوليات على نحو يحقق المصالح الأساسية لدولة الإسلام المنشودة. 32 ـ وجوب استيعاب العصر، مع المحافظة على القيم الدينية والخلقية. 33 ـ وجوب تعهد الأطفال بالتربية على الفكر الإسلامي وتعويدهم على خدمته. 34 ـ ضرورة الأخذ بمبدأ مشاركة الناس في المشاريع واستمزاج آرائهم والنظر في احتياجاتهم من قبل إقامة أي مشروع من المشاريع. فإن تقويم التطبيق العملي على الواقع أصبح أمراً بالغ الأهمية في ضوء ما يواجهه المسلمون من تغييرات مستمرة في الأوضاع الدولية ومن احتياجات ضرورية لمجتمعاتهم تفرضها تجاربهم الخاصة في التغيير. 35 ـ المنجزات الإسلامية أوسع من الزمن فهي خالدة إلى ما شاء الله، وعلى ذلك فهي ليست مقيّدة بقيود المصلحة الدنيوية العابرة. ولذا فإن قياس التطور الذي تم، في تاريخ الإسلام، تحت الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية وخلال فترة قصيرة يجعل الإنسان المسلم في موضع الافتخار والاعتزاز، ونتائج التاريخ تدل بوضوح على قدرة المسلمين الفائقة على البذل والعطاء. كما أن النتائج المتطورة بما لها من دوام الحركة والقفز فوق الأرقام والمقاييس تحفز المسلمين على بذل جهد أكبر في العمل والانتاج. 36 ـ يجب أن تكون الوسائل العملية مرتبطة دائماً بهدفيتها وذلك هو طريق النجاح في الأداء السياسي الداخلي والخارجي. لأن ذلك هو التعبير الحقيقي لعطاء الإنسان المسلم وطهر أرضه واحترام العالم له وفهمه لأهدافه بعد ان يرتفع إلى مستوى حقه وحقيقته. 37 ـ لا تطور من غير احترام تراث العمل. 38 ـ تطور المجتمعات لا يقاس بالازدهار العمراني فقط، بل بأصالته، واستيعابه لقدرات المجتمع وتقاليده في العمل والعطاء، ومدى حرصه على طاعة الله سبحانه وتعالى. 39 ـ ضرورة اعتماد التنمية المتوازنة للقوى البشرية بما يفي بالحاجة إلى الكفاءة الإسلامية في مشاريع التغيير الإسلامية وبناء الدولة الإسلامية الواحدة. 40 ـ وجوب الاهتمام بالمجالات الحيوية بحسب أولوياتها لما فيه مصلحة الشعوب الإسلامية وشدّ الأواصر بين المسلمين. 41 ـ الشباب الحاضر وذخيرة المستقبل فيجب حمايته من الضياع وبناءه بناءً إسلامياً متكاملاً ليبني الحاضر والمستقبل. 42 ـ يجب النظر إلى الحوار الإيجابي بين أعضاء المجلس الاستشاري والوزراء والمسؤولين وأفراد المجتمع على أنه ظاهرة صحية. ان ذلك يمثل حرية إبداء الرأي، ويصعد من المشاركة الجماعية في إدارة الحكم. 43 ـ يجب أن تكون التنمية عامة وشاملة لجميع جوانب الحياة، وفق مفهوم ـ هو بدوره ـ عام وشامل، وبحسب مصلحة الناس وتحقيق العدالة الاجتماعية، بمفهومها الإسلامي. 44 ـ يجب أن تكون خطط التنمية كلها ذات منظور مستقبلي، يلاحظ المؤسسات القادمة، كازدياد عدد السكان خاصة في ظروف التطور السريع للبلاد الإسلامية، في ظلال الدولة الإسلامية الواحدة. 45 ـ الحرص الدائم على تحقيق نمو اقتصادي مضطرد لأن تقدم الدول وتحقيق الرخاء يعتمدان إلى حد كبير على قوة الاقتصاد. 46 ـ إن كل مسلم مدعو لتوجيه اهتمامه الأول إلى العمل الجاد والمشاركة المسؤولة والمخلصة، ضمن ظلال الأخوة والمحبة التي تظلل أبناء المجتمع المسلم. وعلى المسؤولين كافّة توجيه الفرد المسلم لتوجيه اهتمامه قبل كل شيء للعمل الجاد والمشاركة المسؤولة والمخلصة لبناء دولة الإسلام، بضمن روح التآخي والمحبة التي يجب أن تسود مجتمعنا الإسلامي بجميع فئاته وتجسّد الترابط المتين بين أبناء الدولة الإسلامية في كل أرجائها والوقوف صفا واحداً ضد كل من تسوّل له نفسه محاولة التأثير على هذا الترابط الذي يمثل الدعامة الأساسية لقوة الإسلام وازدهار المجتمع الإسلامي في حاضره ومستقبله. 47 ـ يجب العمل على تحقيق الاكتفاء الذاتي، وهو ما سماه الفكر السياسي الحديث، بالأمن الغذائي. فليس من المعقول أن تكون الأرض الإسلامية ثريّة بالخيرات والخصوبة والأنهار والمعادن المختلفة ويظل المسلمون مستوردين لغذائهم وكسائهم ودوائهم من الخارج. فإذا لم يعتمد المسلمون على أنفسهم في العمل والانتاج، ولم يستثمروا ما حباهم الله به من نعم وخيرات، فإنهم سيقعون تحت تأثير المستعمرين الذين سيفرضون عليهم حصاراً يودي بهم. 48 ـ ضرورة المحاسبة الذاتية، ودراسة الأمور بمنظور مستقبلي. إذ لابد لنا، كمسلمين من وقفة نحاسب فيها النفوس ونراجع فيها الأمور لنرى مدى المسافة المقطوعة بالمقارنة إلى آمال المستقبل الذي نطمح إلى الوصول عبره إلى غاياتنا. 49 ـ يجب أن يبتعد المسؤولون عن أسلوب الدعاية وإغداق الوعود الكاذبة كما يفعل حكام اليوم، وعليهم الالتزام بالتواضع. 50 ـ لا تقدم بدون الارتكاز على إرادة المواطنين، وفق أسس وضوابط ثابتة، شرّعها الإسلام العظيم في رؤيته لحقوق الإنسان والحرية والعدالة والشورى والمساواة وغيرها من قيم نراها لائحة في جميع كتب سماحة الإمام الشيرازي. ويمكن أن نعتبر هذه المسألة الأخيرة القول الفصل في مصداقية تحليلنا للفكر السياسي للإمام الشيرازي وفي مكوناته الأساسية، المركز الشرعي، والتشكيلات الإدارية، والأهداف الإسلامية، عبر الأشعة المنطلقة من ذلك المركز. إضافة إلى ما اكتشفناه من أن جميع صور التشكيلات الإدارية والمؤسسات مرصّنة بالقيم المنبثقة من المركز الشرعي، الذي هو الإسلام.
القسم الثاني: ضوابط الأحزاب ذكرنا في القسم الأول مجموعة من الضوابط السلوكية التي يراها الإمام الشيرازي ضرورية جداً للتحكم في مسيرة عملية التغيير من جهة، وإنجاح مشروع الدولة الإسلامية من جهة أخرى. ولما كان موضوع الأحزاب قد أصبح يشغل كثيراً من الناس، ولما كان الإمام الشيرازي قد بحثه بحثاً مستفيضاً في كتاب السياسة أحببنا أن نلتزم بذكر رؤى سماحته لهذا الموضوع، فهل أجاز عمل الأحزاب؟ وإذا كان كذلك فهل هناك ضوابط تحكم مسيرة تلك الأحزاب؟ هنا نبحث الإجابة عن هذه الأسئلة. يرى سماحة الإمام أنّ الجماعة من الناس، قد تكون شعباً، وقد تكون أمة، وفي داخل الشعب والأمة تتكون الجمعيات والأحزاب. ويبني تقسيمه هذا على أساس المبادئ والأهداف، فيقول(22): (الجماعة من الناس إذا لم يكن لهم لون بنائي (أي لم يبنوا على لون خاص) تسمّى شعباً، فيقال: الشعب الهندي، والشعب الأندونيسي، حيث إنّ الذين يعيشون في الهند أو أندونيسيا، لم يبنوا على هذا اللون، بل ولدوا في ذلك البلد بغير إرادتهم، وإذا بنوا على شيء سمي أمة مثل الأمة الإسلامية. ثم في داخل الشعب والأمة قد تتكون مجموعة لها هدف خاص من سياسة أو ثقافة أو مال أو نحوها، فيسمى جماعة أو هيئة أو فرقة، وفي الغالب تسمى حزباً، إذا كان لها هدف سياسي أي إدارة البلاد). ويرى سماحة الإمام أنّ الحزب ناتج عن وجود الفوارق النفسية بين الناس (فكل جماعة وأمة وشعب وقبيلة، لابد وأن يوجد بينهم أناس لهم صفات نفسية متمايزة، وكفاءات خاصة، وتلك الصفات تدعو أولئك الأفراد إلى الأنانية تارة وإلى المشاركة الوجدانية أخرى، وبذلك يجمع ذلك الإنسان حول نفسه جماعة يصبهم في اتجاهه، إما لإشباع رغبته في السيادة والأنانية، وإما لجعلهم خدمة الناس بالقيام بحوائجهم لحسّه بالمشاركة مع الناس). ويقرر سماحته أن الحزب كان موجوداً منذ الأول، ولكن الضوابط والخصوصيات هي التي تغيرت (وحيث إن الحكم كان في كل تجمّع حتى البدائي منه، إذ رئيس القبيلة يحكم في قبيلته فالتجمع السياسي (الحزب) كان موجوداً منذ ذلك الحين). ويستعرض سماحته الفرق بين مصطلح الحزب والجمعية والمجلس، متطرقاً إلى الحركة الدستورية في إيران. وجعله هذا الموضوع يتناول طريقة تنظيم الأحزاب وفروعها وارتباط أعضائها بأحزابهم، ويحتم عليهم أن يرتبطوا بالجماهير (يلزم أن يكون الحزب مرتبطاً بالناس ارتباطاً وثيقاً، إذ أن ذلك هو الذي يمكن الحزب من التوسعة الكمية والكيفية والتصاعد) ويلزم أن يكون (هدفهم الوصول إلى الحكم، سواء كان قصدهم الوصول وحدهم، كما في الأحزاب المبنية على الديكتاتورية أو بمعاونة الأحزاب الأخر كما في الأحزاب المبنية على الديمقراطية، وإلا فإذا لم يقصد الحزب ذلك، ولم يكن له هدف سياسي، وهو خارج عن محل الكلام، وفي الاصطلاح الحديث، فلا يسمّى ذلك حزباً). وبذلك يضع سماحته للحزب تعريفاً يقول: (هو الجماعة المترابطة من الناس الذين لهم تنظيم على سطح الدولة، ولهم فلسفة خاصة وهدفهم الوصول إلى الحكم). ويرى سماحته أن نجاح الحزب في نضوجه ولكي يكون ناضجاً يجب أن تكون لديه الضوابط التالية: 1 ـ فهم السياسة والاقتصاد والاجتماع فهماً كاملاً. 2 ـ الاتصاف بالحزم واللين والاستقامة وروح الشورى والواقعية. ثم يضع الفرق بين (حزب الحاكم) و (الحزب الحاكم) فالحزب الحاكم (هو الذي وصل بالطرق الاستشارية والانتخابات الحرة إلى الحكم بأكثرية الآراء) أما (حزب الحاكم) فهو الحزب الديكتاتوري. |
موقف الإسلام من الأحزاب |
وبعد أن ينتهي سماحته من وصف الواقع القائم حالياً للأحزاب في الدول المختلفة، واختلاف تلك الأحزاب في آرائها وأنواعها، يتحدث عن موقف الإسلام من الأحزاب، فهو لا يرى أن تأسيس الحزب واجب شرعي، لذا يتناوله من حيث الجواز والتحريم قائلاً: (نبين هنا رأي الإسلام في الحزب، وهل أنه جائز أو حرام؟ فنقول: 1 ـ الحزب إذا كان مقدمة البرلمان الذي يحكم حسب الآراء والأهواء كان حراماً، وذلك لأنه مقدمة الحرام، وتعاون على الإثم والعدوان، بل يعدّ في عرف المتشرّعة من أبشع المنكرات، حيث إنه يهيئ لهدم الإسلام كله، وإحياء الباطل كله، وانتهاك الأعراض والأنفس والأموال والحقوق، ولا يخفى أنّ مثل هذه الأمور تجعل الشيء من أشدّ المحرّمات، وإن قيل في الأصول بعدم حرمة مقدمة الحرام. 2 ـ وكذلك يحرم الحزب إذا كان سبباً لقبض أزمّة السياسة في البلاد من دون الانضواء تحت لواء الفقيه العادل الجامع للشرائط، إذ الإسلام قرر الولاية لله سبحانه، ثم الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، ثم الإمام علي عليه السلام، ثم الفقيه الذي هو نائبهم. 3 ـ ويحرم أيضاً إذا كان الحزب سبباً لتسليط من لا ترضى به أكثرية الأمة ولو كان فقيها عادلاً، إذ قد ذكرنا في كتاب (الحكم في الإسلام) وهنا أن رئيس الدولة في البلاد الإسلامية يجب أن يكون بالإضافة إلى كونه مرضياً لله سبحانه، منتخباً من قبل أكثرية الأمة). وبعد أن يقرر سماحته أن الحكم لله والولاية للفقيه العادل الجامع للشرائط، تطرق إلى التزوير الانتخابي وألزم بضرورة أسلوب الشورى وأكثرية الأمة، رافضاً فكرة الحزب الواحد جملة وتفصيلاً نظراً لوجود اختلافات بين الناس حتى بين أتباع المذهب الواحد أو الدين الواحد: (لا يستبد الحزب بالأمر، فالحزب الواحد استبداد لا يجوز شرعاً، لأنه إضاعة لحق سائر المسلمين. لا يقال: إذا كان الحزب الآخر يريد الإسلام تشريعاً وتطبيقاً فلا داعي إلى تنظيم حزب ثان، بل ينضمّ من يريد ذلك إلى هذا الحزب الواحد، وإن كان لا يريد الإسلام تشريعاً أو تطبيقاً، فلا يجوز له تشكيل الحزب السياسي، ولم لا يحقّ للحزب الأول منعه عن التشكيل؟ لأنه يقال: نختار الشقّ الأول ونقول إن الحزب الثاني يريد إقامة الإسلام لكن له رأي خاص في كيفية التأطير وكيفية التطبيق، فمثل الحزبين في ذلك مثل المجتهدين، اللذين كلاهما يستنبط في دائرة الأدلة الأربعة لكن يختلف استنباط هذا عن ذاك، فكلا الحزبين يعملان استنباطاً وتطبيقاً في دائرة الإسلام، وإن كان لهما اختلاف في الاجتهاد واختلاف في انتخاب الأصلح لحال الأمة في السلطة التنفيذية وما أشبه. لا يقال: إذا كان الأمر كذلك، بأن يكون عدم إجازة الحزب الثاني آئلاً إلى الدكتاتورية ومحرماً من جهة أنه إضاعة للحقوق، كان اللازم إجازة حزب ثالث ورابع، وهكذا إلى أن يؤول الأمر إلى الفوضى؟ لأنه يقال: اللازم إجازة كل حزب، مؤطراً بإطار عدم الفوضى، لأن ذلك لا يجوز شرعاً وعقلاً، ومن الواضح عدم التلازم بين أن يجوز الحزب الثاني وبين الفوضى، كما أنّ من الواضح أنّ أي استدلال للحزب الواحد، ليس إلا جنوحاً للاستبداد). ثم يستعرض سماحته قضية الأنصار والمهاجرين ملمّحاً إلى أنهما جماعتان تشتركان في كل الواجبات والحقوق الشرعية، ومع ذلك ظلتا جماعتين تعامل معهما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، على ذلك الأساس. وينتقل بعدها إلى بيان موقف الإسلام من الأحزاب غير الإسلامية بناء على قناعاته الفكرية المنطلقة من المركز الشرعي والواصلة إلى أهدافها عبر مجموعة من الأشعة التي تكون الخط الذي يجب أن تسير عليه الدولة. متسائلاً ومجيباً في الوقت نفسه على تلك التساؤلات مقرراً: (بقي شيء، وهو أنه لماذا لا يجوّز الإسلام الحزب غير الإسلامي؟ أليس ذلك كبتاً للحريات، وأليس ذلك يوجب أن تكون حكومة الإسلام أقل حرية من حكومة أمريكا وفرنسا مثلاً؟ مع أن الإسلام دين الحريات، لا دين الكبت والخنق؟ والجواب: أن الإسلام دين بُني على العقيدة الصحيحة والشريعة المدعمة بالأدلة، وليس من الصحيح إجازة الصحيح للغلط، والمستقيم للمنحرف، أما الصغرى فقد استدلّ له في الكتب الاعتقادية، وأما الكبرى فلوضوح أنّ الانحراف في العقيدة ينتهي إلى الانحراف في العمل، والانحراف في العمل معناه هدم الحياة، فإجازة الحزب غير الصحيح مثل إجازة التحزب للصوص والقتلة، أما ان الانحراف في العقيدة ينتهي إلى الانحراف في العمل، فلأن العمل تابع للعقيدة). وبعد أن يبرهن سماحته على هذه الرؤية ينتقل إلى الاعتراض الثاني مناقشاً ومفنداً: (وبما ذكرناه ظهر الجواب عن الاستشكال الثاني أيضاً: كيف يكون بلد الإسلام أقل حرية من مثل أمريكا وفرنسا؟ وحاصل الجواب: أنّ تلك ليست حرية بل فوضى. فلا يقال: إن بلد الإسلام أقل حرية، بل يقال: إن أمريكا بجهلها أجازت الفوضى، كما أباحت الزنا، وكما أجازت استغلال الإنسان القوي (الرأسمالي) للإنسان الضعيف (أغلب أفراد الشعب) هذا بالإضافة إلى جواب ثان عن هذا الإشكال الثاني، وهو ان أمريكا وفرنسا وبريطانيا، مثلاً، لم تُجز إلا الأحزاب التي تعمل في إطار الوطنية، ولا تجيز الأحزاب التي تعمل في خارج هذا الإطار، فلا يكون لها حريات أكثر من حريات الإسلام، منتهى الأمر أنّ الإسلام أجاز الأحزاب الكائنة في إطار العقيدة بينما البلاد الغربية تجيز الأحزاب الكائنة في إطار الوطنية، مع وضوح أن إطار الوطنية باطل عقلاً، إذ ليس مبنياً على الكفاءات، بينما إطار الإسلام صحيح عقلاً، حيث إنّه مبنيّ على الكفاءة). وعلى العموم فإن سماحة الإمام يرى أن الأحزاب لها معطياتها السلبية والإيجابية، ويحدد لها الأطر التي تجعل سلبياتها منعدمة أو في حدودها الدنيا، وتزيد من إيجابياتها وتجعلها في حدودها القصوى، فإضافة إلى القواعد العامّة التي ذكرناها، يقرر سماحة الإمام ما يلي: (الأحزاب السياسية ذكرت لها فوائد وأضرار، وفي هذه المسألة نذكر جملة من الفوائد التي ذكرت لها:
1 ـ انتخاب الأصلح: (الأولى) إن الحزب السياسي هو الصيغة الكاملة لتطبيق الشرط الثاني الإسلامي، في باب الحكم، في الواقع الخارجي، فإن الإسلام، كما تقدم، يشترط في الحاكم أن يكون مرضياً لله، وحسب شورى الأمة، أي برضاهم، الذي هو رضا الأكثرية، كما هو مستفاد من الشورى، إذ انتهاء الشورى إلى توافق أداء الكل، أمر نادر غالباً.. فاللازم كون الحاكم منتخباً بين متعدد كل واحد منهم يحمل مواصفات الفقيه العادل، مرضياً لأكثرية الأمة. أما الشرط الأول (أي الفقاهة والعدالة و..) فذلك واضح غالباً لأهل الخبرة الذين يتوفرون في المراكز العلمية. ويبقى الشرط الثاني، وهو اختيار أكثرية الأمة له، وذلك ما يحصل بالانتخاب، وتلك غالباً تتحقق بواسطة الأحزاب السياسية، حيث إنهم أهل الخبرة في تحديد الأصلح لإدارة الدين والدنيا، بين المتعدد). ثم يناقش سماحته المسألة من جميع جوانبها، لينتقل إلى الفائدة الثانية التي يراها للأحزاب، وهي تحكيم إرادة الشعب، فيقول: (الثانية: إن الأفراد بما هم أفراد قوى مبعثرة لا يقدرون على تنفيذ آرائهم بالنسبة إلى مصير أنفسهم، فإنّ الحكم، كما هو واضح، إرادة الأفراد والتصرف في شؤونهم، وهذه الإرادة والتصرف سواء كان كلياً كما في البلاد التي تؤمن بالعقيدة والشريعة، حيث الحكام مقيّدون بالإطار الخاص، كما في البلاد الإسلامية لابد وأن تكون تصرفاً في الناس، ولماذا هذا التصرف بدون إرادة المتصرف فيه؟ ومن هنا ينشأ لزوم كون الحاكم هو الذي يريده الناس، سواء كانت إرادة مطلقة، كما في البلاد غير المؤمنة، أو إرادة مقيدة بإطار خاص، كما في الإسلام حيث يشترط في الحاكم الفقاهة والعدالة و...، فاللازم تجميعهم في وحدات كبار تستقي من وحدات صغار، وإلى أن يصل الدور إلى الأفراد كالقطرات التي تتجمّع فتكوّن العيون الصغار، ثم الكبار، ثم الأنهر، حتى ينصبّ الجميع في النهر الكبير أو البحر). وبعد أن يوضح سماحته جوانب الموضوع، ينتقل منه إلى الفائدة الثالثة التي يراها في أن الحزب يمكن أن يكون مدرسة السياسة التطبيقية لأنه (يوجد الفهم السياسي في أفراده، كما أنه مدرسة علمية للسياسة، حيث إن الأفراد الذين علموا السياسة سواء في المدارس السياسية أو في الحزب، يطبقونها تطبيقاً عملياً خارجياً، حيث التداول اليومي للمواضيع السياسية). أما الفائدة الرابعة، فيراها في (تحمل المسؤولية السياسية) على أساس أن (المجتمع بحاجة إلى من يحمل المسؤولية السياسية، والحزب هو الذي يقدر على حمل هذه المسؤولية، بينما الفرد ليس كذلك). ويتطرق سماحته إلى بقية الفوائد التي يمكن أن تنشأ من الأحزاب، كالانضباط الفكري والعملي وصنع التنافس الخلاق وتقديم الشعب إلى الأمام، ولكنه يستدرك على كل ذلك بقوله: (نعم، يوجد في الأحزاب السرية التي يصنعها المستعمرون أو الأفراد المنحرفون، من لا توجد فيه هذه الصفات، لكن ليس الكلام في مثل هذه الأحزاب حيث إنّ ما يصنعه الاستعمار رتل خامس، وليس بحزب، وان تسمّى باسمه زوراً، وذلك أمثال الحزب الشيوعي والبعثي في البلاد الإسلامية، كما أن ما يصنعه منحرف داخلي، لا يكون حزباً بالمفهوم الصحيح للحزب، بل تجمّع أصحاب عقد، لانتقام أو وصول إلى هدف شخصي، ولذا لا يكون لأي منهما أخلاقيات، ولا يعتمد عليها الناس، وسرعان ما يتشتت أفرادهما، بقطع الاستعمار عونه في الأول وبموت زعمائه المنحرفين في الثاني)(23). وهكذا طبّق الإمام الشيرازي منهجه الفكري السياسي في مسألة الأحزاب ووضع لها الضوابط الأخلاقية التي تنقذها من المتاهات وتجعلها في خدمة الحركة التغييرية، من أجل إنقاذ العالم الإسلامي من الفرقة لا زيادة تلك الفرقة، على أن يتمّ العمل كله من أجل رفع راية الإسلام، وبناء دولته التي تسود العالم كله، إن شاء الله.
|
1 ـ يُنظر مثلاً ممارسة التغيير 181 . 2 ـ السبيل إلى إنهاض المسلمين: 13 . 3 ـ الصياغة الجديدة 16 . 4 ـ يُنظر المسائل المتجددة 46 . 5 ـ المسائل المتجددة: 80 . 6 ـ للتوسع، انظر حوار حول تطبيق الإسلام 88 وما بعدها . 7 ـ السبيل إلى إنهاض المسلمين 254 . 8 ـ السبيل إلى إنهاض المسلمين 20 . 9 ـ الشورى: ص 25 . 10 ـ السبيل إلى إنهاض المسلمين 15 . 11 ـ السياسة: 46 . 12 ـ ممارسة التغيير 301 . 13 ـ ينظر ممارسة التغيير 230 ـ 231 والسبيل إلى إنهاض المسلمين 180 وما بعدها . 14 ـ الصياغة الجديدة 15 . 15 ـ المصدر السابق 34 . 16 ـ السياسة: ج 1 ص 224 ـ 225 . 17 ـ يُنظر مثلاً: السياسة: ج 1 ص 19 . 18 ـ السياسة: ج 1 ص 155 . 19 ـ الصياغة الجديدة: ج 1 ص 101 . 20 ـ السبيل إلى إنهاض المسلمين 36 . 21 ـ سورة المائدة، الآية: 2 . 22 ـ نصوص هذا القسم مأخوذة من كتاب (السياسة) 2 / 98 وما بعدها . 23 ـ السياسة: ج 2 ص 133 .
|