في ذكرى رحيله .. من تشييع السيد محمد رضا الشيرازي في العراق


 

 

موقع الإمام الشيرازي

 

"إنّ ممّا يبدو لي أن أذكره في تأبين آية الله السيد محمد رضا الشيرازي قدس الله سره تمثيله رضوان الله عليه للإيمان والعمل الصالح" المرجع الشيرازي (دام ظله)

 

في السادس والعشرين من شهر جمادى الأولى للعام 1429هـ رحل الفقيه العابد، والأستاذ الزاهد، والعالم الرباني، آية الله السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي (قدس سره). فبعد أن ودعت مدينة قم المقدسة فقيدها، استقبلته قرى العراق ومدنه، وعلماؤه وحوزاته، ومثقفوه وفقراؤه، ونُكسَت الأعلام العراقية لجثمانه، وقرَعَ العسكر طبول الحزن تحية له، في أثناء استقبال جثمانه.

كان موكب التشييع (الاستقبال) يسير بخطا ثقيلة، ثقيلة بمشاعر وذكريات وتضحيات، فطالما غلب في وجدان الفقيد العزيز الشوق للوطن، وقد ظل (قدس سره) يفتقد عراقه ويتفقد شعبه، بعد أن فرقت بينهما سلطة الاستبداد والطغيان، زمناً طويلاً متخماً بمحن وآلام وتضحيات.

حشود المستقبلين العراقيين لجثمانه (قده)، في مختلف مدن العراق، استحضرت أيامه الثرية بمحبتهم ومواقف الدفاع عنهم، خاصة في السنوات الأولى بعد 2003 التي كانت سنوات مثقلة بالتعقيد، حيث بداية التغيير ومعضلات المرحلة الانتقالية، وتداخل مصالح دول الجوار والإقليم، وما بعد ذلك، ثم دخول تنظيمات إرهابية وعصابات إجرامية.

ما بعد 2003م، ومع بداية مخاض التغيير العسير والخروج من الاستبداد الى الحرية، رسم (قده) طريق خلاص العراقيين من محنة الفوضى والخوف والإرهاب والموت والفساد، حيث قال (قده) كلمة الإيمان والحكمة والانتصار: "أيها العراقيون، إن الحرب على العراق بلا حدود، وتحتاج الى صبر بلا حدود"!

حينها كان صوت السيد محمد رضا الشيرازي يصل الى العراقيين، عبر فضائيات دينية انطلقت بعد 2003م ومواقع التواصل الاجتماعي، فضلا عن زيارة العراقيين لمقره (قده) في مدينة قم المقدسة. كان (رحمه الله) يرى أنه ينبغي للعراقيين أولاً أن يواجهوا الوضع الجديد المأزوم؛ بما فيه تعقيدات المرحلة الانتقالية، بالتفكير السليم، حيث قال (قده):

"إن نمط التفكير ليس شأناً مجرّداً، بل إنه يؤثّر على كل القرارات التي يتخذها الإنسان، من المسكن وحتى المدفن، لذلك فإن الملاحظة الدقيقة والتفكير العميق هما الخطوة الأولى التي لا غنى عنها، في أية مسيرة حضارية."

وقال: "الإنسان غالباً في خضم المشاكل المؤلمة والقاسية يفقد الأمل ويتحول الى كائن يائس من أي احتمال للتغيير، في حين الإنسان المؤمن يمتلئ قلبه بالرجاء والأمل حتى عند تعرضه لأعتى الأزمات، وهناك أشخاص يتقوقعون على أنفسهم ولا يفكرون في تغيير المجتمع وإصلاحه, ولعل هؤلاء يشكلون الأكثرية من المجتمع, بينما هنالك أقلية تفكر في صناعة التغيير. وإن من الممكن أن يتساءل أحدنا: هل التغيير والإصلاح أمر ممكن وقريب المنال؟ والجواب: نعم بإذن الله (عز وجل) وإن أدل دليل على إمكان الشيء هو وقوعه في الخارج, فالمؤمنون الأفذاذ تحركوا من أجل التغيير في أشد الفترات التاريخية حرجاً وأحلكها ظلمة وقد نجحوا في ذلك مرات ومرات."

وقال: "علينا بالقناعة في علاقاتنا مع الآخرين، وألاّ نتوقع الكثير منهم، وعلينا أن نقاوم حالة افتقاد الأمل أو حالة العيش بلا هدف، فإن لدينا من الكنوز ما يفتقدها الآخرون، كالمعارف الموجودة في نهج البلاغة والصحيفة السجادية."

وقال: "يجب أن نستثمر هذه الأعوام القليلة، المتبقية من أعمارنا، في هذه الدنيا، والتي لا تشكل إلاّ جزء ضئيلاً من أعمارنا الحقيقية، فما أقصر الفترة القصيرة التي نقضيها في هذه الحياة. ولا حول ولا قوة إلا بالله."

هذا يسلط الضوء على جانب من "لغز" التفاف كثير من العراقيين حول السيد الرضا، وسرّ الاستقبال الشعبي العراقي الحاشد في كل القرى والأقضية والمدن العراقية التي مرة بها جثمانه (رحمه الله تعالى).

بعد أن حط موكب التشييع في مدينة النجف الأشرف خرج أهلها الكرام لاستقباله وبأيديهم أكاليل أزهار عطرة بعبق الخلود فـ"العلماء باقون ما بقي الدهر".

وفي مدينة كربلاء المقدسة، كانت المحطة الأخيرة لموكب التشييع، التي منها انطلق (قده) في طفولته وصباه، حيث إباء أبي الأحرار الحسين وإيثار أبي الفضل العباس (عليهما السلام).

حشد كبير من كربلاء، مدينة العلماء والشهداء والنجباء، كان في استقبال جثمان ولدها البار، وكان التشييع مهيباً ومصحوباً بمشاعر وداع وأسى، وكان يوم استحضار لذكريات رحيل مصطبغ بوقائع حقبة زمنية كالحة مرَّ بها آل الشيرازي، وكثير من العراقيين في العراق أو في بعض بلاد المهجر.

استقبال جثمانه (قده) استحضر وقائع الظلم والاستبداد التي حاصرت الأب، سيد الفقهاء السيد محمد الحسيني الشيرازي (رضوان الله تعالى عليه) وآلام رحيله التي لم تتضح تفاصيله. أيضاً، كان يوم استقبال جثمانه (قده) استحضاراً لذكرى اغتيال دام للمفكر الإسلامي الشهيد آية الله السيد حسن الشيرازي (قدس سره الشريف). فكان يوم وصول جثمانه (قده) يحمل مِحَن وآلام سنوات طويلة ومريرة مرن على آل الشيرازي.

اختتم مشهد استقبال الجثمان وتشييعه بصلاة الميت عند ضريح الإمام أبي عبد الله الحسين (سلام الله عليه) ليوارى الجسد الشريف تراب روضة جده، سيد الشهداء (عليه السلام)، وحيث ضيافة رب رحيم كريم.

إن سمو صاحب الذكرى ونبوغه، وخفايا الرحيل وشجونه، خلد ذكراه وتراثه، فكلماته ما زالت تنبض بالحياة، وآثاره أضحت زاداً للباحثين عن الحقيقة. وإن للراحل عِبَره وتاريخه، ومن تلك العِبَر أن الإصلاح يحتاج "منهجا" يُكتَب بالمداد والدماء، ويحتاج أيضاً الى "ناهج" لا ينبغي أن ينقطع أثره، فبلاء الأيام يغدر بالعلماء إذا عملوا، ويباغت العاملين إذا أخلصوا، والإصلاح مسيرة طويلة تعج بالآلام والتضحيات، وتحتاج الى وعي وعزم وحكمة وصبر. يقول (رحمه الله):

"كل قيمة من القيم النبيلة إذا أريد لها أن تكون قائمة في داخل النفس البشرية أو على أرض الواقع الخارجي فلابد أن يكون هناك نموذج واقعي يمثلها، وذلك لأن للمَثَل والنموذج الواقعي من الباعثية أضعاف الانعكاسات المؤثرة مما للأفكار المجردة."

وعلى هذا، فإن من مسؤوليات المحبة لصاحب الذكرى (قدس سره) حفظ تراثه العلمي الذي هو نتاج تجارب خمسة عقود مباركة من عمره الشريف، عقود عبقة بخبرة الآباء والأجداد، وذلك من خلال عمل مؤسساتي، فإن من سمات الأمم الحية أن تكون عاملة ومثابرة ومنتجة ولن تكون الأمة كذلك إلا إذا سعت بإخلاص، واستثمرت التجارب، واستكملت طريقها من حيث وصل القادة الأفذاذ.

28/ جمادى الأولى/1446هـ