الفهرس

المؤلفات

التاريخ

الصفحة الرئيسية

 

رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في الطائف

اشتد الضغظ على المسلمين المتواجدين في مكة، بعد فشل مهمة الوفد الذي أرسلته قريش لإرجاع المهاجرين المسلمين من الحبشة، حيث أمعنت قريش في تعذيب المسلمين، وخصوصاً بعد وفاة أبي طالب (عليه السلام) عم النبي (صلّى الله عليه وآله).

فبوفاته فقد المسلمون ركناً أساسياً من أركان الحماية المنيعة القائمة بوجه قريش؛ إذ بعد هذه الحادثة أخذ مشركو قريش يسومون المسلمين أبشع أنواع الاضطهاد، فأخذ الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) يفكر في إيجاد وسيلة لرفع هذا الضغط عن المسلمين، فرأى (صلّى الله عليه وآله) أن يهاجر المسلمون من مكة، فوقع اختياره في بادئ الأمر على الطائف؛ لأنها منطقة جبلية لا تبعد عن مكة كثيراً، ومناخها معتدل صيفاً وشتاءً، وفيها خصائص اقتصادية جيدة، فكانت تنتج التمور والحبوب والرمان وغيرها من المواد، وتتاجر بها مع التجار من أهل مكة، إلى غيرها من المؤهلات التي دعت الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) لاختيارها. فصمم على الهجرة إليها لكي يبني قاعدة للمسلمين هناك، وأخذ يدعو أهلها إلى الإسلام.

ولكن أهل الطائف لم يكن ردهم على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بأفضل من رد أهل مكة؛ وذلك لأن أهل الطائف تربطهم علاقات تجارية وعقائدية وثيقة مضافاً إلى صلة القربى مع أهل مكة، مما جعلهم على نمط واحد من التفكير، فتركهم الرسول (صلّى الله عليه وآله) بعد أن جاءهم ودعائهم إلى الإسلام، ولكنهم دفعوا صبيانهم وسفهاءهم لأن يتعرضوا للرسول (صلّى الله عليه وآله) ويرموه بالحجارة.

فقد روي أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لما مات أبو طالب (عليه السلام) لج المشركون في أذيته، فصار يعرض نفسه على القبايل بالإسلام والإيمان، فلم يأت أحد من القبائل إلا صده ورده. فقال بعضهم: اعلم أنه لا يقدر أن يصلحنا وهو قد أفسد قومه، فعمد إلى ثقيف بالطائف فوجد سادتهم جلوسا، وهم ثلاثة إخوة، فعرض عليهم الإسلام وحذرهم من النار وغضب الجبار.

فقال أحدهم: أنا أسرق ثياب الكعبة إن كان الله بعثك نبياً.

وقال آخر: يا محمد، عجز الله أن يرسل غيرك؟

وقال آخر: لا تكلموه إن كان رسولاً من الله كما يزعم، هو أعظم قدراً أن يكلمنا، وإن كان كاذباً على الله فهو أسرف بكلامه.

وجعلوا يستهزئون به، فجعل يمشي كلما وضع قدماً وضعوا له صخرة، فما فرغ من أرضهم إلا وقدماه تشخب دماً، فعمد لحائط من كرومهم، وجلس مكروبا، فقال: «اللهم، إني أشكو إليك غربتي وكربتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، أنت رب المكروبين، اللهم إن لم يكن لك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصي الثناء عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك، لك الحمد حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم».

قيل: وكان في الكرم عتبة بن ربيعة وشيبة، فكره أن يأتيهما، لما يعلم من عداوتهما. فقالا لغلام لهما يقال له: عداس: خذ قطفين من العنب، وقدحا من الماء، واذهب بهما إلى ذلك الرجل، وإنه سيسألك أهدية أم صدقة، فإن قلت: صدقة لم يقبلها، بل قل له: هدية.

فمضى ووضعه بين يديه، فقال: «هدية أم صدقة؟ ».

فقال: هدية، فمد يده، وقال: بسم الله، وكان عداس نصرانياً، فلما سمعه عجب منه، وصار ينظره، فقال له: «يا عداس من أين؟ ».

قال: من أهل نينوى.

قال: «من مدينة الرجل الصالح أخي يونس بن متى».

قال: ومن أعلمك؟

فأخبره بقصته، وبما أوحي إليه.

فقال: ومن قبله؟

فقال: «نوح، ولوط» وحكاه بالقصة.

فخر ساجدا لله، وجعل يقبل قدميه، هذا وسيداه ينظران إليه.

فقال أحدهما للآخر: سحر غلامك، فلما أتاهما قالا له: ما شأنك سجدت وقبلت يديه؟

فقال: يا أسيادي ما على وجه الأرض أشرف ولا ألطف ولا أخير منه.

قالوا: ولم ذلك؟

قال: حدثني بأنبياء ماضية، ونبينا يونس بن متى، فقالا: يا ويلك فتنك عن دينك؟

فقال: والله إنه نبي مرسل.

قالا له: ويحك عزمت قريش على قتله، فقال: هو والله يقتلهم ويسودهم ويشرفهم، إن تبعوه دخلوا الجنة، وخاب من لايتبعه، فقاما يريدان ضربه فركض للنبي (صلّى الله عليه وآله) وأسلم[1].

وقال ابن شهر آشوب: لما توفي أبو طالب (عليه السلام) لم يجد النبي (صلّى الله عليه وآله) ناصراً ونثروا على رأسه التراب، قال: ما نال مني قريش شيئا حتى مات أبو طالب، وكان يستتر من الرمي بالحجر الذي عند باب البيت من يسار من يدخل وهو ذراع وشبر في ذراع إذا جاءه من دار أبي لهب ودار عدي بن حمران ـ إلى أن قال ـ لما توفي أبو طالب واشتد عليه البلاء عمد إلى ثقيف بالطائف رجاء أن يؤوه سادتها: عبد نائل ومسعود وحبيب بنو عمرو بن نمير الثقفي، فلم يقبلوه وتبعه سفهاؤهم بالأحجار ودموا رجليه، فخلص منهم واستظل في ظل حبلة منه، وقال: «اللهم إني أشكو إليك من ضعف قوتي وقلة حيلتي وناصري، وهواني على الناس يا أرحم الراحمين» فأنفذ عتبة وشيبة ابنا ربيعة إليه بطبق عنب على يدي غلام يدعى عداساً وكان نصرانيا، فلما مد يده وقال: «بسم الله».

فقال: إن أهل هذا البلد لا يقولونها.

فقال النبي (صلّى الله عليه وآله): «من أين أنت؟ ».

قال: من بلدة نينوى.

فقال (صلّى الله عليه وآله): «من مدينة الرجل الصالح يونس بن متى».

قال: وبما تعرفه؟

قال: «أنا رسول الله، والله أخبرني خبر يونس».

فخر عداس ساجداً لرسول الله وجعل يقبل قدميه وهما يسيلان الدماء، فقال عتبة لأخيه: قد أفسد عليك غلامك، فلما انصرف عنه سئل عن مقالته فقال: والله إنه نبي صادق، فقالوا: إن هذا رجل خداع لا يفتننك عن نصرانيتك، وقالوا: لو كان محمد نبيا لشغلته النبوة عن النساء ولأمكنه جميع الآيات ولأمكنه منع الموت عن أقاربه. انتهى[2].

الرجوع إلى مكة

وبعد تعنت أهل الطائف ووقوفهم بوجه الرسول (صلّى الله عليه وآله)، لم يبق أمامه إلا خياران؛ الرجوع إلى مكة، أو الذهاب إلى منطقة أخرى غير الطائف ومكة، فاختار (صلّى الله عليه وآله) الأول، وعزم على ذلك، وذهب إلى مكة وأشرف على الدخول إليها. ولكن دخول الرسول (صلّى الله عليه وآله) إلى مكة ليس بالأمر الهين، خصوصاً بعدما فقد سنده القوي، عمه أبا طالب (عليه السلام)، فكَرِه لذلك دخول مكة وليس له مجير فيها.

في بعض الأحاديث: انه لما رجع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من الطائف، وأشرف على مكة وهو معتمر، كره أن يدخل مكة وليس له فيها مجير، فنظر إلى رجل من قريش، قد كان أسلم سراً، فقال له: «ائت الأخنس بن شريق فقل له: إن محمداً يسألك أن تجيره حتى يطوف ويسعى فإنه معتمر» فأتاه وأدى إليه ما قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال الأخنس: إني لست من قريش، وإنما أنا حليف فيهم، والحليف لا يجير على الصميم ـ إلى أن قال ـ فرجع إلى رسول الله فأخبره، وكان رسول الله في شعب حراء مختفياً مع زيد..[3].

وأخذ الرسول (صلّى الله عليه وآله) يرسل هذا الرجل إلى بعض شخصيات مكة المعروفة لإجارته، وربما كان من أهداف الرسول (صلّى الله عليه وآله) هو إتمام الحجة عليهم من جميع النواحي التي منها الناحية الاجتماعية والأخلاقية، إلا أن كل ذلك جوبه بالرفض والتهرب، نظراً لحقدهم وكراهتهم لدعوة النبي (صلّى الله عليه وآله)، أو خوفاً مما ستجره عليهم من العداء والأذى من أشياع الضلال في مكة.

كل هذا، والرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) لم يهن في دعوته، بل أخذ يعرض نفسه وينشر دعوته على أغلب الشخصيات، كما جاء في كتب الأخبار، فقد روي أنه (صلّى الله عليه وآله) قال للرجل المسلم الذي بعثه إلى الأخنس وغيره: «اذهب إلى مطعم بن عدي، فاسأله أن يجيرني حتى أطوف وأسعى»، فجاء إليه وأخبره، فقال: أين محمد؟ فكره أن يخبره بموضعه، فقال: هو قريب، فقال: ائته، فقل له: إني قد أجرتك، فتعال وطف واسع ما شئت»[4].

فأتى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فطاف وسعى تحت إجارة مطعم بن عدي فلما انتهى من الطواف والسعي جاء (صلّى الله عليه وآله) إلى مطعم وقال له: «أبا وهب! قد أجرت وأحسنت، فردّ عليّ جواري»، قال: وما عليك أن تقيم في جواري؟ قال: «أكره أن أقيم في جوار مشرك أكثر من يوم». قال مطعم: يا معشر قريش، إن محمداً قد خرج من جواري[5]. فخرج (صلّى الله عليه وآله) إلى شعب مكة وواصل هناك مهامه الرسالية.

الفترة الحرجة

وبعد أن عاد الرسول (صلّى الله عليه وآله) إلى الشعب أخذ يقلب فكره في سبيل إيجاد قاعدة انطلاق لنشر الإسلام، أو على الأقل إيجاد حل مؤقت في هذه الفترة الحرجة، فالناصر القوي الذي يستطيع الوقوف بوجه قريش ويصد اعتداءاتهم وهو أبو طالب (عليه السلام) قد فقده المسلمون، والأعداء يزدادون يوماً بعد آخر عناداً وصداً عن الدين، ومهمته في الطائف فشلت لتعنت أهلها، والحبشة أيضاً لم تعد تتمكن من احتواء المسلمين لوجود موانع صارفة للهجرة الجماعية إليها كان منها بعد الحبشة عن مكة، وإغلاق الطرق المؤدية إليها من قبل المشركين، ووجود شخصيات متنفذة في الحبشة، كبعض القساوسة والبطارقة، وهؤلاء يعلم الرسول (صلّى الله عليه وآله) بأن مصالحهم الدنيوية وتمسكهم بعقائدهم المحرّفة، يمنع من قبولهم الإسلام، بل يحاربونه، وهذا خطر على الإسلام الفتي، إلى غير ذلك من الأسباب. فهذه الأسباب وغيرها شغلت فكر الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) وجعلته ينظر إلى إيجاد قاعدة صلبة وأمينة يستطيع بواسطتها نشر الإسلام في أرجاء المعمورة.

[1] حلية الأبرار: ج1 ص129 ب14 ح1.

[2] المناقب: ج1 ص67 فصل في ما لقيه (صلّى الله عليه وآله) من قومه بعد موت عمه(عليه السلام).

[3] بحار الأنوار: ج19 ص7 ب5 ح5.

[4] بحار الأنوار: ج19 ص7 ب5 ح5.

[5] بحار الأنوار: ج19 ص8 ب5 ح5.