الفهرس

المؤلفات

الثقافة الإسلامية

الصفحة الرئيسية

 

الحريات في الإسلام

في زمن عبد الكريم قاسم، أخذت أجهزة الإعلام تنادي بالحرية، وقاسم بنفسه كان يخطب، ويدعي أنه حرر العراق من كل نير، ولكن كل الناس كانوا يشعرون بأثقل أنواع العبودية والاستعمار، فالبلاد التي كانت لها مجلس الأمة، ومجلس الشيوخ، والانتخابات الحرة، والصحف الحرة، والأحزاب، والجمعيات والمنظمات، وحرية الرأي والعمل، و. و. تحولت إلى دكتاتورية هائلة حتى أن أقل لفظة كانت خليقة أن تدخل المتكلم السجن. وتحصيل جواز سفر إلى الخارج كان يستغرق ـ أحياناً ـ سنة أو أكثر. وبينما كان في زمن الملوكية الملك وحده مصوناً، صار في زمان قاسم آلاف من الناس مصونين، حتى أن الشخص إذا انتقد رئيس الصحة أو مدير البلدية، أو ضابطاً في الجوازات، كان ـ في نظر السلطات ـ ضد الجمهورية وضد الزعيم وضد الثورة. والضدية مع هذه الأمور خيانة عظمى.

وحتى أن بعض الخطباء لما هاجم هذا التسيّب في أجهزة مكافحة الإجرام، أودع السجن وحكم عليه بالإعدام، ولولا أن تداركته رحمة الله سبحانه لكان في خبر كان... نعم انهم كانوا يسمون أبشع أقسام الاستعباد بالحرية، وكانوا يلعنون العهد المباد، الذي كان كابتاً للحريات. والعهد الملكي وإن لم يكن كما يريده الإسلام من إطلاق الحريات، إلا أن أكثر الحريات الديمقراطية كانت موجودة، بينما عهد قاسم لم يبق من تلك الحريات إلا واحداً في المائة أو أقل.

وكنا نحن، في تلك الظروف، ندافع عن الحريات، وننتقد الوضع، ونذكر فضائل الإسلام في إطلاق حريات الناس، ونذكر أنه إن أراد الناس الحرية والعيش الكريم كان لابد وأن يعيدوا الإسلام إلى الحياة.

وقد زارني في تلك الظروف متصرف لواء كربلاء واسمه (كاظم الروّاف) وكان رجلاً مثقفاً، وكان قبل ذلك حاكماً في المحاكم الرسمية، ثم بعد ذلك ترقّى إلى درجة متصرف، وبعدها وصل إلى الوزارة، ولما وصل إلى درجة الوزارة، اشتكى ضدي وضد كتاب (هكذا الشيعة) وأمر الحكام بسوقي إلى المحكمة بحجة أن الكتاب المذكور اسمه غير موافق عليه في الرقابة، وإنما اسمه الأصلي (هكذا المسلمون) وإنما زُوِّر في اسمه لدى الطبع، بينما كان داخل الكتاب موضوع الشيعة لا موضوع المسلمين. وبينما كان (كاظم الرواف) من الشيعة بنفسها، ولم يجرؤ حكّام كربلاء أن يطلبوني إلى المحكمة، فالتجأ إلى حكام النجف، ولكنهم هم أيضاً أبوا الرضوخ إلى هذا الأمر.

وحيث لم يجد وزير العدل الشيعي (كاظم الرواف) منفذاً لإفراغ غيظه عليّ بواسطة الحكام التجأ إلى (الأمن) فأرسل إلي من بغداد بعض أفراد الأمن ليقولوا لي انه لابد من حضوري أمام المحكمة قلت: وهذا الأمر ممن؟ قال: من الحاكم العسكري العام، قلت لا بأس، وأين أمره هذا؟ قال: إنه موجود في ملفاتي، قلت: حسناً فأتني بصورة الأمر حتى أراه، ثم بعد ذلك أرى رأيي. وعبثاً حاول الرجل الموفد إقناعي، وأخيراً قلت له: كن على علم أنه ليس بمقدور كاظم الرواف أن يصنع شيئاً، فاذهب إليه وقل له: إن كل ما يعمله لا يعود إلا إلى نفسه. ثم حاول (كاظم) محاولات أُخر لرد كرامته، لكنها كلها آبت بالفشل.

أما من أين حمل (كاظم) هذا الغيظ، فهو المقصود في هذا الفصل.

إنه لما كان متصرفاً في كربلاء، جاءني زائراً ـ كما هي العادة من زيارة الوزراء والمتصرفين وكبار موظفي الدولة للعلماء ـ فتكلمت معه حول تردي الأوضاع وكبت الحريات، ولما لم يتمكن من الدفاع أخذته العزة بالإثم، وحمل في نفسه عليّ ألف شيء وشيء.

قال: نحن جئنا للحرية، ولم تقم الثورة إلا لأجل إرجاع حريات الناس.

قلت: فما هي الحريات التي أرجعتموها إلى الناس؟

قال: الحرية في كل شيء.

قلت: مثِّل.

قال: حرية العمال والفلاحين والأحزاب.

قلت: إن الفلاح والعامل في العهد السابق، كانوا ينتخبون نوابهم لمجلس الأمة، وكانوا إذا وقع عليهم ظلم ينشرونه في الصحف، فهل الآن بقيت لهم تلك الحريات، الحريات الأصلية؟

قال: رددنا لهم الحرية في شكل أحسن.

قلت: وما هي تلك الحرية؟

قال: حرية النقابات.

قلت: أنت تعلم أن النقابات ليست حرة، وإنما جهاز من أجهزة الحكومة.

قال: فهل أنت من أنصار العهد البائد؟

قلت: كلا، ويشهد لذلك أنا هاجمناه في مجلة الأخلاق والآداب، وكان بيننا وبينه توتر شديد.

قال: لكن لا تنكر أنا أطلقنا حرية الأحزاب؟

قلت: في العهد السابق أيضاً، كانت أحزاب، كحزب الدستور وحزب الأمة وغيرهما.

قال: كانت تلك أحزاب استعمارية.

قلت: ومن يقول إن هذه الأحزاب الموجودة الآن ليست أحزاب استعمارية؟

قال: (وقد ظهر عليه أثر الانفعال والتأثر) إذا أنت لم ترض بحريات العهد البائد، ولا بحريات الثورة، فبماذا ترضى؟

قلت: بالحرية الإسلامية.

قال: حرية الأمويين والعباسيين؟

قلت: بل حرية الرسول وخلفائه الطاهرين.

قال: وما هي تلك الحريات؟

قلت: أصول تلك الحريات هي:

1 ـ حرية إبداء الرأي.

2 ـ حرية الكتابة.

3 ـ حرية التجارة، استيراداً وتصديراً.

4 ـ حرية الزراعة، أن يزرع كل إنسان ما يشاء من الأراضي التي لا مالك لها.

5 ـ حرية العمارة، بأن يعمر الإنسان ما يشاء من الأراضي التي لا مالك لها، بدون احتياج إلى إجازة البلدية أو نحوها.

6 ـ حرية السفر والإقامة، والدخول في البلاد والخروج منها.

7 ـ حرية العمل، بأن يعمل ما يشاء من الأعمال كالتجارة والفلاحة والحدادة وغيرها.

8 ـ حرية حيازة المباحات كصيد الأسماك وحيازة الحشائش والأحطاب، ونحوها.

9 ـ حرية الزواج والطلاق.

10 ـ حرية التجمع ومختلف أقسام النشاطات.

قال: (ضاحكاً) فلا شأن للدولة!؟

قلت: شأنها حماية هذه الحريات، وقطع يد العابثين بالحريات، واستئصال شأفة المجرمين، وتقديم البلاد إلى الأمام.

قال: إذا أعطت الدولة كل هذه الحريات، تكون فوضى؟

قلت: إذا ضربت الدولة بيد من حديد على المجرمين، لا تكون فوضى.

قال: وكيف تقول إن الإسلام يعطي هذه الحريات؟ وهل يرضى الإسلام بتجارة الأفيون والمخدرات؟ وهل يرضى الإسلام بأن يعمل كل أحد ما يشاء؟

قلت: المحرمات الإسلامية خارجة، وهي قليلة جداً، والمراد بحرية العمل الأعمال المحلّلة.

قال: إذاً في الإسلام أيضاً قيود وشروط.

قلت: لاشك فيه، لكن الفرق أن شروط الإسلام عشرة، وشروطكم أنتم مليون، ثم الإسلام منع الضار والمفسد، وأنتم تمنعون النافع والصالح.

قال: إذا أعطينا حرية العمارة، يبني كل أحد كما يشاء مما يضر بالمارة وبالآخرين.

قلت: الحكومة تخطط الشوارع ثم تترك كل إنسان أن يبني كما يشاء.

قال: إذا أعطينا حرية إبداء الرأي والكتابة، نشروا آراء الملحدين فهل توافق أنت على ذلك؟

قلت: الآن أنتم أعطيتم للحزب الشيوعي هذه الحرية، بينما تمنع رقابتكم الكتب الدينية، ثم إني قلت إن الضار والفاسد ممنوع في الإسلام، والكلام الآن هو أنكم تمنعون الصالح والنافع.

قال: إذا أطلقنا هذه الحريات، فماذا يعمل الموظفون؟

قلت: يذهبون لامتهان الأعمال الحرة، وإنما تحتفظ الدولة بالمقدار الضروري من الموظفين.

قال: وهل إن خريجي الكليات يصيرون كسبة؟

قلت: وما المانع من ذلك، وهل إن كل خريجي الكليات يلزم أن يصيروا موظفين يرهقون كاهل الدولة ويكثرون الروتين والكتب؟

قال: وإذا أعطينا كل الحريات، ورفعنا القيود والرسوم، فمن أين تحصل الدولة على الأموال اللازمة لإدارة شؤونها؟

قلت: من (النفط) و(الاتجار) و(الخمس) و(الزكاة) و(سائر المعادن) وما أشبه ذلك.

قال: إذاً أنت تدعو إلى تغيير النظام؟

قلت: كلا، وإنما أنا أدعو إلى أن تشكل الدولة لجاناً من علماء الدين ومن كبار الموظفين ومن ذوي الاختصاص لأجل إعطاء الناس حرياتهم، بصورة لا توجب الفوضى، حتى ينطبق النظام الإسلامي، مكان هذا النظام الموجود الآن، وبذلك تربح الدولة:

1 ـ مرضاة الله سبحانه، والدار الآخرة.

2 ـ حب الشعب لها، وحفظهم إياها.

3 ـ تقدم البلاد إلى الأمام بسرعة فائقة.

4 ـ وأخيراً، تكون قدوة حسنة لسائر البلاد، وتحصل على جميل الذكر.

قال: تعني تغير الدولة القانون؟

قلت: نعم أعني ذلك، فإن كل بلاءٍ أصاب المسلمين إنما كان من رفض قانون الله سبحانه، وجعل قوانين بشرية في مكانه.

قال: معنى ذلك أن نرجع إلى الوراء.

قلت: بل معناه أن نتقدم إلى الأمام، فهل إعطاء حريات الناس، وتقديم البلاد إلى الأمام، وإطلاق التجارة والزراعة والصناعة والعمارة، وإباحة أن يبدي كل إنسان رأيه، وأن لا يكبت ما يريده، وأن يزاول كل نشاط أراده. هل معنى ذلك (رجوع إلى الوراء) أو (تقدم إلى الأمام)؟

قال: إذا طبقنا قانون الإسلام، كان معناه أن نقطع يد السارق، ونغلق أبواب المدارس، ونحطّم اقتصاديات الدولة، ونملأ الشوارع باللحى والسبح، ونهدم جهاز الأمن، وإلى غير ذلك.

قلت: قطع يد السارق بعد توفر كافة الشروط، لا يكون إلا في كل عام في كل العراق بضع مرات وما هو الضرر من ذلك؟ وفي قباله نوفّر الأمن للناس، ونرجع الكرامة الإنسانية إلى السرّاق، إلى ما ذكرت من سائر الأمور، فأي ربط بينها وبين إرجاع قانون الإسلام؟

قال: لأن الإسلام يحرم المدارس، ولا يعترف الإسلام بالضرائب خصوصاً ضرائب الخمور ونحوها، ويوجب الإسلام إعفاء اللحية وأخذ السبحة، ويحرم الإسلام التجسس.

قلت: أستاذ، يقول الشاعر:

إذا كنت لم تدر فتلك مصيبة***وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم

1 ـ فمن ذا الذي قال لك الإسلام يحرم المدارس؟ وإنما الإسلام يحرم المدارس التي تنشر الفساد وتأتي بالاستعمار.

2 ـ والضرائب لا حاجة إليها، بعد تأمين الأموال للدولة من طريق أفضل من طريق الضرائب.

3 ـ أما الخمور وسائر المحرمات، فاللازم منعها منعاً باتاً، لأنها تضر ولا تنفع، وإن كان فيها نفع جزئي (فإثمها أكبر من نفعها).

4 ـ وليس معنى إعفاء اللحية أن تملأ الشوارع بالّلحى، ثم أنتم الآن ملأتم الشوارع بالشوارب وبشعور الرأس، فهل باؤك تجر وبائي لا تجر؟

5 ـ أما أخذ السبحة فمن قال لك أنها واجبة؟

6 ـ والإسلام حيث يوفر الأمن والرفاه، ويملأ القلوب بالإيمان، يتقلص جهاز الأمن تلقائياً، ولذا لم يكن في الدولة الإسلامية إلا بضع أفراد للأمن باسم (المحتسب) أو نحوه. نعم نحوّل هذا الجهاز الطويل العريض العميق للأمن، الكابت للحريات والهادر للكرامات والخانق للأنفاس، إلى جهاز أمن خارجي لأجل حماية بلاد الإسلام من شر أعداء الإسلام.

قال: (وقد بدا عليه آثار التعب والانهزام) ما تقوله شيء حسن لو أمكن تطبيقه.

قلت: التطبيق بأيديكم.

فقام وانصرف، لكنه كان ظاهراً عليه أثر الكراهية والانزعاج، وقد توجّست من ملامحه أنه قصد الانتقام.. ثم كان ما كان مما أوجزته في أول الفصل.

ومن المؤسف حقاً أن يكون المثقفون من المسلمين لا يعرفون من الإسلام إلا صورة مشوهة ودعايات مضلّلة، وسلبيات كسولة، وطقوس ميتة. أما الإسلام الحيّ الحرّ التقدمي النشط الموجب لخير الدنيا قبل الآخرة فليس إلا في صدور بعض علماء المسلمين أو في قليل من الكتب.

ومن الضروري السعي الحثيث لإعادة الإسلام ـ كما أنزله الله سبحانه ـ إلى الحياة، فإن في ذلك خير المسلمين وسعادتهم ورفاههم، في الدنيا والآخرة.