| الفهرس | المؤلفات |
|
سمة الفضيلة |
|
لكي شيء سمة يُستدل بها عليه، وإن اختلفت الأشياء والسمات، فربما كانت أشياء لها علامات كثيرة وظاهرة، كما أن هناك أشياء لها سمات خفية لا يعرفها إلا أفراد قلائل. والفضيلة من الأولى فهي تتمتع بمظاهر كثيرة يعرفها كل أحد، ليست الفضيلة كالدرهم المختفي في صندوق الصيرفي، ولا كالجواهر الثمينة الموضوعة في سفط الصائغ، ولا كالصك الغالي المضموم في حقيبة التاجر، ولا كالذهب المكنوز في أطباق الأرض، لا يطلع عليها إلا أفراد مخصوصين لهم حق الملكية، أو علم طبقات الأرض، أو نحو ذلك. إن الفضيلة كالعقل يعرفها كل من نظر إلى صاحبها، فكما أن الشخص لو نظر إلى المجنون عرف أنه مسّه طائف من الشيطان، بمجرد حركة تصدر منه، أو نظرة يُلقيها، أو لفظ يتكلمه، أو بيع أو شراء أو ما إليه.. فكذلك لو نظر إلى المنسلخ عن الفضيلة لعرف ذلك، بمجرد معاملة، أو مجلس، أو جلوة، أو خلوة. كل من العقل والفضيلة يأخذ بزمام الإنسان، فالعقل يمنعه من الطفرة في موضع المشي، والمشي في موضع الطفرة، والإقدام في محل الإحجام، والإحجام في محل الإقدام، والكلام حيث يقتضي السكوت، والسكوت حيث يقتضي الكلام، وهكذا.. والفضيلة تمنعه من الكذب في القول، والخيانة في الأمانة، والغدر في محل الوفاء، والخلف بالعهود، والبخل بالمال، والوقاحة في العمل والكلام، وما إليها.. لو قال المجنون: أنا عاقل، لكنه رقص وعربد، ووثب وترنّح، لم يكن ينجع قوله ما كذّبه عملُه، وكذا لو قال الرذيل: أنا صاحب الفضيلة، لكنه كذب وبهت، وأحب الظهور وخان، ونقض العهد ولم يف بالوعد، لم يفد قوله ما كذّبه عملُه وناقضه فعله. من يحمل العطر فاحت رائحته وإن قال أنه لم يحمله، ومن يحمل القذارة المنتنة، انتشر ريحه وإن أظهر أنه لم يصاحبها، إن كلّ صبح تشرق شمسه، وكل مساء ينير قمره، لابد وأن يقف الإنسان مرة أو مرات على مفترق طريقي الفضيلة والرذيلة، ولابد أن يختار، فإن اختار الأولى شهد عمله بفضله، وإن اختار الثانية دلّ اختياره على نقصه. ربما كنت أفكر أن لو أعلن متجر من المتاجر أنه يكذب في البيع، ويغش المعامل، ويدفع إليه بدل الحَسن قبيحاً، والصحيح معيباً، ويزيد في السعر. ثم عمل بعكس ذلك، فصدق ونصح، وأعطى الحسن الصحيح رخيصاً، تزاحم عليه المشترون غير مبالين بما قال، ولو انقلب الأمر، فأعلن صدقه و.. ثم عمل على عكس ما أعلن، تفرق عنه الزبائن غير مبالين بقوله، وهذا مما يشهد بما ذكرناه هاهنا من أن الملاك في الفضيلة العمل لا القول. إن صاحب الفضيلة يعدل إذا حكم، ولا يرتشي، ويساوي بين القوي والضعيف، ويصدق، ويبكي للأشقياء، ويرحم الضعفاء، ويبطن الإخلاص، ويتواضع، ولا يسبّ، ولا يشتم، ويقنع، ويجد، ولا يكسل، ولابد أن يعرف ذلك منه صديقه وقريبه، وجاره وحميمه، ومن جالسه أو صحبه أو سافر معه أو سمع منه أو رآه. بخلاف صاحب الرذيلة، فإنه يعمل على العكس من ذلك فينعكس أمره، وتبدو سوءته، حتى يحذره القريب، ويتجنّبه البعيد، ويصبح معروفاً بالشر، لا يُرجى نواله، ولا يؤمل في عدله، ولا يُنتظر معروفه. انتحال الفضيلة من أهون الأمور، لكن العمل بها، من أصعب المشكلات، ولذا كثر القائلون، وقل العاملون، والناس مهما داهنوا صاحب الرذيلة، وعارضوا صاحب الفضيلة - لهنات توجب ذاك وهذا - فلابد وأن يجري مدح الأول على لسانهم، وذم الثاني، ولو طال الكتمان وامتد الزمان. |