| الفهرس | المؤلفات |
|
الإصلاح |
|
جرت سنن الكون على التقلّب والتحوّل، فيصير النهار ليلاً والليل نهاراً، والخريف شتاء والربيع صيفاً، والبر بحراً والبحر براً، تورق الأشجار ثم تسقط الأوراق، ويحيى الجماد، ثم ينقلب الحي جماداً، وهكذا دواليك، وليست القوانين الاجتماعية، والفكر والعادة والعلم وما إليها، إلا مما يسيطر عليه نظام التقلب وقاعدة التحول، فليس الفكر صخراً يبقى ما بقي الكون، ولا العادة والارتكاز يتمتعان بالحياة الأبدية ما أمّ نجم في السماء نجماً، ولا النظام الاجتماعي كالشمس المضيئة التي تطلع كل يوم عن مشرقها وتغرب في مغربها، لا تزحزح، ولا تضعضع، بل كلها مما تلعب بها أصابع الأقدار، وتدور دورة الفلك بسعدها مرة فتبقى دهراً طويلاً، وبنحسها أخرى فما تلبث إلا وتجري عليها أعاصير الفناء، وتجعلها في خبر كان. إن النظام الفاسد الذي يسود المجتمع لابد وأن يخلي مكانه لنظام صالح وإن طال به البقاء، ومدّ جذوره إلى أعماق الأرض، وفروعه إلى عنان السماء، لكنه ليس انقلاب النظام كتقلّب الأيام، يدور بنفسه، بل يحتاج إلى مصلح قدير، يشذّب شجره، ويعبّد سبيله، ويسقي فسيله، ويتعاهد روضه، تعاهد الفلاح جنّته، وذلك ما يحتاج إلى التضحية، ويفتقر إلى التفدية، فإن خلع العادات عن رقاب الناس لا يسهل، واجتثاث جذور التقاليد عن الأفئدة غير هيّن، ولذا يعاني المصلح ما لا قبل له به، من أنواع الأذى، ويصب عليه ما لا يتحمّل غيره من سياط العذاب. فعلى من يريد الإصلاح، سواء أكان دينياً، أم سياسياً أم وطنياً، أن يوطّن نفسه على صنوف الآلام، وأقسام السخرية والاستهزاء، ثم لا يدري بعد هذا وذاك أينجح في حياته أم بعد مماته، ويقدر في إحدى الحالتين، أم لا ينال شيئاً مما يطلب. فطريق المصلح وعر خشن فرش بالقتاد، وألسنة من يريد إصلاحهم أحرّ من النار، وأفئدتهم تتلظى غضباً عليه، ونقمة منه، فمن كان باذلاً في هذا السبيل مهجته، وموطناً لكل شيء نفسه، فليقدم على ذلك. إن المصلحين الكبار الذين قاموا لهذا الشأن عانوا ما عانوا، ولاقوا ما لاقوا، أما سلسلة الأنبياء والأولياء (عليهم السلام) فمصاعبهم ومتاعبهم حديث الألسن، وشنف السماع، ونصب الأعين، وأما غيرهم من الذين سجل التاريخ صحائفهم النضالية، باسم المصلحين والثائرين، فكم قاسوا صنوف العذاب وسيموا الخسف والذل، مات أحدهم في السجن، والآخر تحت وقع السياط، والآخر التهمته النيران، والآخر مشرّداً عن الأوطان. فـ(غاندي)(1) كان مشرداً عن وطنه، يلقيه سجن إلى سجن، وينشره حكم، ويطويه حكم، فقضى عمره في فقر وإرهاق. و(لامارتين)(2) لم يجد في أخريات ساعاته إلا كلباً كان يلازمه، فيبث إليه حزنه، ويشكو إليه غدر أصدقائه. و(كورني)(3) لم يكن يجد من متعة الحياة إلا الهواء والشمس، ورقعة الأرض يجرّ في رجليه نعالاً بالية، ويشرف جسده من ثقوب ثوبه. و(سقراط)(4) لم يزل يدعو إلى الصلاح، حتى سقوه السم. و(ساقورلانا)(5) كان يعطف على البائسين، ويصيح في وجه بائع الدين، فأحرقوه بالنار. و(جمال الدين)(6) كان تلفظه أرض إلى أرض، حتى قضى عمره شريد وطريد، في عذاب وعقاب، ويقال: لم يمت حتف أنفه، بل قتل قتلاً. فالمصلح يحتاج قبل كل شيء إلى صدر رحب، وإرادة قوية، وعزيمة صخرية، وذكاء ثاقب، وصدق لهجة، وحلم واسع، واستمرار في العمل، وعدم اليأس مهما لم يوفق لنتيجة. يُؤذى المصلح فلابد أن يصبر، ويُسبّ فلابد أن يحلم، ويُهان فلابد أن يعفو، ويُضرب فلابد أن يصفح، ويُسجن فلابد أن لا ييأس، ويغضب فلابد أن يكظم، لابد أن يستمر المصلح في عمله وإن لم يثمر بذره، ولم يفرع شجره ولم ينبع الماء من حفره، ولم يؤمن به أحد. إن نوح (عليه السلام) لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً(7)، وصالح (عليه السلام) دعا قومه مائة سنة، وعيسى (عليه السلام) دعا ما دعا فلم يؤمن به إلا اثني عشر شخصاً، ومحمد (صلّى الله عليه وآله) دعا عشر سنين فلم يؤمن به إلا نفر قليل. من لبس جلباب الإصلاح لابد وأن يخلع جلباب العز والاحترام، والإجلال والإكرام، والراحة والرفاه. إن فشل المصلح عاجلاً لا يضر، بعد العلم بأن النظام الصحيح الجاري فعلاً من نتائج أعمال المصلحين، وإن كان بينهم بعض الفروق بنجاح أحدهم وفشل الآخر، فإن تاريخ البشرية خيط طويل اشترك في فتله ونقضه أنكاثاً طائفة لا يستهان بها كثرةً من المصلحين والمفسدين، فمصلح يبرم ومفسد ينقض، وهكذا حتى ينقشع سحاب الفوضى، وتجلو شمس النظام ليس عليها غبار. لو عدم المصلح الاحترام في حال حياته، فإنه لا يعدم الارتياح بصحة عمله، وإن أهانه الناس وهو بين أظهرهم، فسيعظّمونه إذا فرّ من عالم الأحياء إلى عالم الأموات، ولو رموه بالجنون، فسيجعلونه أعقل العقلاء يوماً ما، ولو قالوا عنه: أنه خائن، فالزمان كفيل بأن يزدحموا على تعاليمه ليتلقّوا عنها دروس الوفاء والأمانة، قليل أن يجتمع للرجل عزّ العظمة وعزّ الاحترام والإجلال، فهو إما عظيم لا يُحترم، أو يحترم وهو حقير. أوذي علي (عليه السلام) وسُب، وقُوتل، وظُلم، وقُتل ثم لم يلبث أن صار أعظم عظماء الشرق والغرب، وأعلم علمائهما، وأفصح عربي تكلم، وأكبر أمير، وخير خليفة للرسول (صلّى الله عليه وآله) يفتخر به الشيعة لأنه إمامهم، والمسلمون لأنه خليفتهم، والعرب لأنه من عنصرهم، والشرق لأنه من عظمائهم، والدنيا لأنه من أبناء جلدتهم. نظام اليوم مدين لكل مصلح مهما اختلف مذهبه، وحيثما كانت نشأته، وأينما دعا، ومن الجدير بالإنسان سواء أكان دينياً أم اجتماعياً أم سياسياً أم حقوقياً، أن يربأ بنفسه من أن يكون في صف المديونين، ولا يكون في رعيل الدائنين. لم يتمّ صلاح العالم بعد، بل ربما كانت الحروب الطاحنة، والرذائل المنتشرة المدمرة، اللتين هما أكثر بكثير من الأزمنة الخالية، دليلين على أن الفساد - في الحال الحاضر - أكثر منه في الأيام الغابرة، فليشمر المصلحون عن ساق الجلَد، ويجدفوا بملء الحب، (لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً)(8). |
|
1ـ زعيم سياسي وروحي هندي (1869-1948م) لقب بالمهاتما، نادى باللاعنف وبالمقاومة السلبية، عمل على تحرير الهند من نير الاستعمار البريطاني، دُعي (مهندس الاستقلال الهندي)، قتله هندوسي متعصب. 2ـ ألفونس دو لامارتين (1790-1869م) شاعر وسياسي فرنسي، تولى رئاسة الحكومة المؤقتة بعد ثورة 1848م، له أعمال أدبية. 3ـ كورناي (1606-1684م) شاعر مسرحي فرنسي كبير، ولد في روان، يعتبر مبدع الفن المسرحي الكلاسيكي في فرنسا. 4ـ سقراط (نحو 470 – 399 ق م) فيلسوف يوناني، يعتبر هو وأفلاطون وأرسطو من واضعي أسس الثقافة الغربية، حارب السفسطة وانتقد الحكم، فاتهمه خصومه بالزندقة وحكموا عليه بالإعدام، شرب السم فمات في سجنه. 5ـ ايرونيمو ساقونارولا (1452-1498م) راهب دومينيكي، رئيس دير القديس مرمقس في فلورنسة، طالب بالإصلاح وحاول إقرار نظام تيوقراطي، حكم اسكندر السادس بحرقه. 6ـ جمال الدين الأفغاني (1838-1897م) شيعي اثنا عشري من كبار رجال الدين المصلحين، ومن فلاسفة الإسلام في عصره، جال في الشرق والغرب ودعا إلى الوحدة الإسلامية، أصدر مجلة (العروة الوثقى) في باريس 1884م. 7ـ إشارة إلى قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَ خَمْسِينَ عَاماً) سورة العنكبوت: 14. 8ـ سورة الطلاق: 1. |