| الفهرس | المؤلفات |
|
المدرسة |
|
يدخل التلميذ المدرسة وقلبه أنقى من اللجين، وأصرح من المرآة، وأصفى من الماء الزلال، وهو مستعد لتلقي كل ما يرد إليه من المعلم أو التلاميذ الحافين به، استعداد الآلة اللاقطة لأخذ أمواج الصوت، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، والمعلم أمين على ثقافته وأدبه وأخلاقه وعرضه، وهو أعظم الأمانات بين يديه، مسؤول عن كل ما تنطبع فيه حتى خائنة الأعين، وما تخفي الصدور، فإنه كالشمع في كفه يقلّبه كيف يشاء، ويشكّله بما يريد، فإنه مستقى أفكاره، ومنبت عقله، ومغرس نباته، ومنجم جوهره. وكما أن التلميذ يحتاج إلى علم وثقافة، ليرتقي به عن حضيض الجهلاء إلى أوج العلماء، ويأخذ بيده في مجاهل الكون إلى معالمه، ويهديه سبل الحياة، ويُريه النافع من الضار، والجادة عن المهوى، كذلك يحتاج إلى أخلاق وآداب يعيش في ظل شجرها الفيحاء مرفّه الخاطر، سعيد البال، مرتاح الضمير، بل احتياجه إلى الأخلاق أكثر، فإن صاحب الخلق المؤدب أسعد عيشاً من صاحب العلم الذي لا أدب له. إن العلم والأدب كلاهما يهديان إلى الخير، ويُنيران طريق الحياة المظلم، ويُعبّدان سبيل البقاء الوعر، لكن العلم لا يُنتفع به إذا لم يقترن بالفضيلة، بل ربما ينقلب العلم جهلاً، والثقافة وبالاً، حيث يزداد حامله كبراً وفخراً، يصعّر خدّه، ويُبرز صدره، ويمشي مرحاً، ويهتز فرحاً، فهو كالنهر الذي إن عهده الشخص، بكَرْي قراره، وبناء السدود في وجهه انتفع به لروضه وحيوانه، لمأكله ومشربه، ومستحمّه وملبسه، ومضجعه ومنتزهه، وإن أغفل شأنه وتركه يجري لطبيعته، لم ينتفع به، بل ربما انقلب وبالاً وفساداً بالانتشار في الأراضي المنحدرة والتجمع في الوهاد، مما يسبب التعفّن والأوبئة، وكثرة البعوض اللاذعة والأمراض المجزعة. التلميذ إلى مَلَكة الصدق أحوج منه إلى علم الحساب، وإلى حبّ الخير من الهندسة، وإلى صفة الشجاعة من الفيزياء، وإلى فضيلة العفة من الجغرافيا. الصدق يُعينه فيما لا يُعينه علم، وحب الخير ينفعه فيما لا تنفعه ثقافة، وهو إلى أن يعرف كيف يعاشر أبويه إذا كان في ظلّهما، ويسلك مع زوجه وأولاده إذا نكح وولد، وكيف يتودّد إلى الناس ويتحابب، وكيف يبيع ويشتري، ويرحم ويعطف، أحوج منه إلى معرفة التاريخ والكيمياء، والإنشاء والإملاء. إن التاريخ لم يوضع إلا ليستنتج الشخص نتائج أعمال الماضين، فيأخذ الحسن، ويترك القبيح، ولم تكتب الجغرافيا إلا ليرى وضع البلاد ويعرف صنوف الخلق وأخلاقهم وأعمالهم، كي يأخذ ما ينفعه ويترك ما لا ينفعه، ولم يرقم الحساب إلا ليحسب أمواله فلا يبذر ولا يقتر، ولم يقنن الهندسة إلا ليتمكن من بناء الدار وشق الأنهار ليسكن تلك برفاه ويستثمر هذا بدَعَة، فإذا لم ينتفع بهذه العلوم فيما وُضعت له، ولم يهتد بها طريق مشيه في حلّه وترحاله، وانزوائه وعشرته، وأخذه وعطائه. فحاله أشبه شيء بالأعمى الذي لا يُبصر وإن كان يعلم معالم الطريق، ويتمكن من هداية غيره بذكر أوصاف تلك المعالم، ويتردّى هو في بئر أو يهوي به العمى في مكان سحيق. ثم إن المعلم كما له الرقم الأول من صحة أخلاق التلميذ وفسادها كذلك يشترك في ذلك الآباء والحكومة والأصدقاء، فلكل منهم سهم، والجميع مسؤولون عن ذلك. المعلم مسؤول عنه في مدرسته، والأب في بيته، والصديق في منتزهه، والحكومة في مصره ومملكته، وحسن التربية ملقى على عاتق الكل على أنصبة مختلفة وسهام غير متشابهة. |