| الفهرس | المؤلفات |
|
رجال الدين |
|
يرتئي زمرة من الناس، أن شأن رجال الدين في المجتمع شأن التمثال الظريف، الذي ينبغي أن لا يمسه الغبار، ولا يدنسه مدنس، ولا يعلق به ما يخدش جسمه، ولا تبلغه أشعة الشمس حتى يتغير لونه، وطلباً لهذه الغاية المتوخاة، وتوفيراً لهذا الجمال، يجب أن يتطرف عن الضوضاء ويتنكّب الطريق، ويعتزل اعتزال من قبع في كهف من الكهوف، يأكل رزقه إلى أن يأتيه حتفه، فيحصرون عمله في الدرس والمناظرة، وصلاة الجماعة، وإجابة الأسئلة التي توجه إليه على أن لا تمس مشاعره أبداً، وإذا زادوا على ذلك جوزوا له أخذ بعض الدراهم المفروضة في الشريعة وإعطائها إلى مصارفها مشروطاً بأن يلاحظ عرضه في التقسيم، يؤلف القلوب بالدينار والدرهم، كما كان يعطي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) المؤلفة قلوبهم وقد أمره الله تعالى بذلك: (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ..)(1). أما التدخل في الشؤون العامة - سواءً ارتبطت بالأمور الدينية أم الأخلاقية أم الاجتماعية أم غيرها - فقد حُمي عنها رجل الدين بسياج شائك، وجدار مكهرب، وهو سياج (السياسة) فما أشقها وما ألأمها، لا توضع على شيء إلا هدمته من أساسه، ولا اقتربت من عالم إلا ألبسته جلباب البعد عن الحق، والقرب من الباطل، وبهذا يصبح غريباً عن العالم، لا تُسمع له كلمة، ولا يُستجاب له دعاء، ولا يُسلّم عليه، ولا يُجاب إذا سلّم، ولو كان من وُسم بهذا الاسم المنحوس، من خالص الدين، وصحيح الأخلاق وصريح الآداب، ونافع الاجتماع، من أجل الصالح العام. والعامة همج يتبعون كل ناعق، سواء أكان صحيح الغرض أم فاسده، فإذا وسم مغرض عالماً بشيء، فهو الوحي المنزل، الذي لا يتضعضع ولا يتزلزل، سامح الله الناس وعفا عنهم، لا أدري لم افترقت الدنيا عن الدين وابتعدت الأخرى عن الأولى ولأي أمر تناكر الشؤون العامة وشؤون الصلاة والدرس والمناظرة، تناكر الأضداد، وتعادي الأنداد، وهل أنزل الله من سلطان يدعم رأي هؤلاء الناس؟ أم وصّى بذلك أحد المرسلين؟ أم تأمرهم بذلك أحلامهم؟ أم هم قوم جاهلون؟! أتدري لم تقارب لفظ الدنيا والدين؟ أم تعلم لم تقدم المتقدمون في ميادين الحياة وتأخر المتأخرون؟ ليس تقارب اللفظين إلا لتقارب المعنيين. فالدنيا مزيج بالدين، والدين دخيل في الدنيا تداخل السدى واللحمة، وحيث أن الأولين عملوا على هذا الأساس تقدموا، وعمل المتأخرون في ناحية واحدة وطاروا بجناح واحد ولذا تأخروا، إن المرسلين والأئمة (عليهم السلام) وسائر المصلحين بُعثوا إلى الأمم وتدخلوا في جميع الشؤون، فإن الإصلاح والتهذيب يتوقف على التدخّل، وكما تحتاج صغار الأمور إلى الإصلاح، تحتاج كبارها إليه. إن رجال الدين ليسوا من الدين في شيء إلا إذا احتذوا حذو الرسل، وتبعوا الخلفاء والأئمة، وانتهجوا مناهجهم، وسلكوا سبلهم، وفعلوا ما فعلوا، وتحمّلوا ما تحمّلوا، فقد ضرب الرسل والمصلحون المثل الأعلى للتدخل في الأمور صغيرها وكبيرها، أخلاقيها واجتماعيها، دينيها ودنيويها، ألم يكن إبراهيم (عليه السلام) حارب نمرود بلسانه وجنانه، وناقش الأمة جميعها في معبوداتها، وأخذ طريقاً لنفسه وتبرّأ حتى من أقرب الناس إليه، وأوذي في ذلك وشُرّد وطُرد، حتى أسكن أهله بواد غير ذي زرع، وألقي في النار بعدما حكم عليه بالإعدام، إنه كان بنفسه أمّة قانتاً، عندما كان معاصروه بأجمعهم أمة أخرى، فكان هو يقابلهم بما فيهم الملك والسوقة، والكبير والصغير، والشريف والحقير، والغني والفقير، ألم يكن هذا تدخلاً في (السياسة) على مصطلح هؤلاء الذين ذكرناهم؟! ألم يكن موسى (عليه السلام) خالف فرعون، وخلع عبوديته عن رقبته، وأقام عليه الدنيا وأقعدها، ونصحه ووعظه، وأمره وزجره، وكافحه كفاحاً مريراً بلا هوادة ولا فتور، وانتقصه بقوله: (وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً)(2) وأخذ بني إسرائيل وهم الألوف المؤلفة معه، وقتل من أتباع فرعون من قتل، أليس هذا كله تدخلاً في شؤون الدولة - بداعي الإصلاح - وتعرضاً لأمور الدنيا بحذافيرها؟! أليس عيسى (عليه السلام) حارب الملوك والكبراء بقوله وعمله، فكان (ذي بلاطس) و(هوردس) منه في حذر، وجاهد المرائين من أحبار اليهود ونعتهم بقوله: (يا أولاد الأفاعي) ونحوه، وأخذ يهزّ كيانهم ويحطّم كبرياءهم، ويفرّق شملهم، ويفنّد مزاعمهم، حتى صلبوه (بزعمهم)؟ ألا يكون هذا من أروع الأمثلة لتدخل العالم الزاهد العزوف الحصور، في الأمور تدخلاً سافراً، لا يبالي حتى بنفسه، ويوطن نفسه على كل شيء حتى الضرب والصلب؟ ألم يكن محمد (صلّى الله عليه وآله) من أعظم الأمثلة للبطولة والعزم والثبات، والاستقامة والإيغال في شؤون الفرد والجماعة، والدولة والملّة، تدخلاً في الأفكار والعقائد، والعادات والإرادات، والأخلاق والأعمال، والاقتصاد والاجتماع، وقد قاسى في سبيل إصلاحه من الظلم والعسف، والإرهاق والإرهاب، والضرب واللطم والشتم، تسلقه الألسنة بأبشع الألفاظ، وتزدريه العيون بأفضح الازدراء، حتى قاطعه الناس وقاطعوا أهليه وذويه شر مقاطعة، وشرّدوه عن عقر داره، وابتعدوا عن جواره؟ أليس في هذا كله ذكرى واعتبار، وعظة وادّكار، حتى يحذوه رجال الدين إن أرادوا التهذيب والإصلاح؟ إلى غيرهم من الرسل العظام، والمصلحون الكبار، فإن أفعالهم وأعمالهم وحركاتهم وسكناتهم ليشبه بعضها ببعض، وتجمع كلها في إطار واحد، إطار الوضع والرفع، والمنع والدفع، والدخول والخروج، والابتعاد والازدلاف، لا يلوون على شيء، ولا يبالون بأمر، ولا تأخذهم في مبدأهم لومة لائم، ولا عتب عاتب، مشمراً عن ساق الجد، إلى أن يأتيهم الحمام. فرجل الدين ليس بالتمثال الذي يضره الغبار، ولا بالجسد الذي لا يأكل الطعام، ولا بالزجاج الذي يصدعه الحجر، ولا بالشبح الذي تدميه الشوكة، وتستفزّه الشتمة والتهمة، بل هو المصلح الذي يُسب ويُهان، وينتقص من قدره، ويُنسب إليه كل شيء من الخيانة، والجنون، وحب العظمة، والسفاهة، والخدعة، وما إليها. بل لو جدّ في الإصلاح ولم يساعده جده في البقاء، لضُرب وحُبس، وصلب وأحرق. ألم يُضرب أمير المؤمنين علي (عليه السلام)؟ ألم يُسم الإمام الحسن (عليه السلام)؟ ألم يقتل الإمام الحسين (عليه السلام)؟ ألم يُصب زيد (عليه السلام) حرق؟ بلى كل ذلك قد كان، وقد كان لهم السبّ المقذع، والإهانة الشنعاء، والاستهزاء والإيذاء، فلم يكن ثانيهم يردعه عن إصلاحه ما يراه فُعل بأولهم، ولا يُثني عزيمته ما يعلم من أنه سيُفعل به كما فُعل بمن قبله. يقال: أن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) لم يتدخل في شأن من الشؤون، وكذلك بعض الهداة من قبله وبعده، لكن الكلام أقرب إلى المغالطة من الحقيقة، فإن الأئمة (عليهم السلام) لو لم يكونوا يأخذون جانب الصلاح والإصلاح، وكانوا يجرون كما تشتهي السفن، لما عصفت بهم الرياح المسخبة والإعصارات المسممة، ولما نالوا الضيق والتشريد، والوعيد والتهديد، ولما ابتعدوا عن الأوطان، ولما التهمت بيوتهم لهواة النيران، سامح الله القائل: فلماذا يجوز للرجل الديني الصلاة جماعة، والدرس والمناظرة، وأخذ الأخماس والزكوات، وإرشاد الناس في الغدوات والروحات! أليس الإمام السجاد، ومن بعده من هداة العباد، يصلون بانفراد، ولم يكن الإمام الكاظم (عليه السلام) يلقي الدروس، ولا الإمام الرضا (عليه السلام) يأخذ الماديات، إن الأئمة كانوا يعملون حسب محتمل الزمان، فمنهم من يجلس في الدار، ومنهم من يأخذ بالثأر، ومنهم من يلقي الدروس، ومنهم من يسكت ويزج في الحبوس (ولنا برسول الله أسوة حسنة)؟! وما أعجب عجبي من جماعة كانوا يسرّون إلى بعض رجال الدين بعدم التدخل في شأن من شؤون الدولة ولو كان لطلب الدين، فإذا أراد أن يستعطف الأمراء في منع الخمور، أو يستهوي الوزراء لغلق باب الفجور، أو يتضرّع إليهم لمنع حكرة، أو يستكين لعدم المنع عن حج أو عمرة، جاءوا وحداناً وزرافات ناصحين مشفقين، يزيّنون إليه الأعراض، ويتشبثون بكل حشيش لإدخال ما ارتأوه في قلبه، يوصدون عليه أبواب الرجاء، ويفتحون أمامه أبواب الضرر، حتى يثنوه عن عزمه، حفظاً على سمعته واسمه. |
|
1ـ سورة التوبة: 60. 2ـ سورة الإسراء: 102. |