| الفهرس | المؤلفات |
|
الدين |
|
الدين: بغض النظر عن دعوته إلى عالم آخر حافل بما تشتهي الأنفس وتلذّ الأسماع والأعين، يدعو إلى الفضيلة التي لا يدعو إليها أي قانون، ويمهّد سبيل العيش الرغيد، في جو سلام ورفاه، إن الظواهر الاجتماعية الناجمة عن تفاعل القوى الشريرة في النفوس أخذاً وعطاءً، لا تكبحها إلا العقيدة، فهي كقتب الناقة وزمامها اللذين يسهلان امتطاءها. ينظر بعض الناس من بعد إلى الهالة المحيطة، بزمرة من منتحلي الأديان، فيراها جامدة هامدة، لا ينفتق منها ضوء، ولا ينبثق منها نور، فيخال الأمر من آثار الدين، لكنه بالعكس من ذلك، فلو نظر إلى الدين بما هو شيء قائم في الفراغ - فرضاً - لرأى أجمل ما رآه في عمره، يلذّ مخبره، ويبهج منظره، يكثر ضوؤه، ويعلو قدره. الدين: أول مفعوله إيجاد حب الخير، وكراهية الإثم في القلب، ثم لا يزال يربّي هذه الشجرة حتى تورق، وتظهر ثمارها من الحواس. فثمرة الدين في العين: النظر والمطالعة والاعتبار، والغض عن المزالق والمهاوي. وثمرته في الأذن: أن يقف على النافع، ويستعصم عن الضار. وثمرته في اللسان: الصدق وقول الحق والعدل، وقصره عن الهمز واللمز والطعن. وثمرته في اليدين والرجلين: العمل والسعي والجد. وثمرته في القلب: الإخلاص وحسن النية، وقطع دابر الحسد والغلّ وإضمار الشر. من توفرت فيه هذه الثمرات، دلت على العقيدة والدين، ومن انعكست فيه الآية، لم يقبل منه أنه مرتدٍ بهذا الرداء الجميل، يستدل على كل شيء من خواصه، ونظير الدين سائر الأشياء سواءً بسواء. أول ما يمنع عنه الدين: الحرب على سبيل الغلبة والسلطان، التي تلفت اليوم أنظار أكثر من نصف سكان هذا الكواكب الأرضي، ثم يتدرّج في الضرب على أيدي المستغلين والمحتكرين والمستثمرين والمستعمرين، وبعد هذا وذاك يجعل النظام للشخص في حركته وسكونه، والبيت في جمعه وطرحه، والمدينة في حاكمها ومحكومها، وطبقاتها بعضها مع بعض. استبقاء طاقة الدين في قلوب الناس، أنفع من استيراد عدة من الطائرات الحربية أو السلمية، وتثقيف الناس ثقافة سماوية أفضل من تجهيزهم بقوى الذرة والقنبلة الصاروخية والطائرة، وتضييق مسارح الرذيلة عليهم خير من تضييق الحدود الإقليمية والقومية والوطنية، هب أن في الدين ما يراه الإنسان عبئاً ثقيلاً عليه، لكن احتقاب آثام اجتماعية أثقل بأضعاف من أعباء الدين. يوسّع الدين ناحيتي الحياة العاملة والقابلة، يحرّض الدين على كثرة النكاح والنسل، وقد ضرب حملة أعبائه الأقدمون الرقم القياسي في هذا الشأن، ومن الناحية الثانية يحتم العمل والتعاون، ويحث على العالم كي تتفتق آفاق من القابليات الكائنة في هذه الرقعة الفسيحة ذات الأبعاد الأربعة: الطول والعرض والارتفاع والزمان، وبذلك تحسن الزراعة، وتزهر الصناعة، ويؤتى كل ذي حظ حظه. أليس هذا النظام، خير من نظام من يرى تقليل النسل؟ أو يرى جعل حدود قومية أو إقليمية تقلل من المصانع والمزارع، وتكبت النشاط؟ فإن المقيد بقيود مدنية، ليس كالحر المطلق في الأخذ والإعطاء، والقبض والبسط، فعلى الدول أن تكسر نوى طاقة الدين، حتى تخرج منه قوة سالبة موجبة، تسير ركب الحضارة بأسرع من سير الضوء في آفاق الكون. لكن أصاب الدين إعصار فيه نار، فكل من ينتحل الدين في هذا الوقت لا ينظر إلى الدين كأمر سماوي، له شطران: جزء لنظام الاجتماع، وآخر لفضائل الروح والمعاد، وكل النظر إلى الدين - هذا اليوم - بما هو مفهوم لدى المنتحل، ثم يقبله عقله وفكره، وطبعاً لا يقبل عقله إلا ما هو موافق لتقاليده وأهوائه وما يدعم مصالحه الشخصية قبل كل شيء، ولذا قام كل أحد يفسر الدين تفسيراً، ورفعت الأغلال عن المفسر، فهو يفسره وإن كان لا يعلم في الحياة شيئاً، ولم يذق من معين الثقافة مذقة، وما دام باب التأويل واسع، ولا (جمرك) على اللسان، ولا مؤاخذ على القلم في هذا الأمر، وإن كانت العقوبات الصارمة على القلم في أمر السياسة، ثم بعد ذاك لا يختار من الدين إلا ما يتماشى مع الزمن واقتضته ظروف المتدين! لا يرفع لدين علم، ولا تقوم له قائمة، إلى يوم يبعثون، إلا أن يتدارك الله الدين برحمته، وينقذ الأمة من كابوس الجهل والغرور. الدين كانت له الحرية يوم كان الناس مسلمين، أما اليوم وقد أصبحوا أحراراً، فاللازم أن يحاكم الدين، ويزج في قفص الاتهام، حتى يأتي الله له بمخرج، أو يحكم عليه بالإعدام. لا يقبل اليوم أحد من الدين ما يريده الدين بل ما يريده هو، فإن كان خلل في الدليل - باعتقاد المنتحل - فهو، وإلا فإن وجد مساغاً للتأويل أوّل، وإلا فالأمر سهل بعد أن الدين يلزم أن يطابق عمل المتدين، وإلا فليضرب به عرض الحائط! ولذا أصبح الدين كالمطاط يجره هذا إلى هنا، وذاك إلى هناك، وقد عاينت في حياتي القصيرة أموراً متضاربة من منتحلي الدين لا يفي بها وصف، وإذا كنت أذناً لا أقابل - مهما قدرت - متكلماً بعنف وقسوة، أباح كل مزامل لي ما في قرارة نفسه، وأظهر ما انطوى عليه فؤاده، وأبدى آراءه وأفكاره، ولم يكن لي تلقاء هذه السلسلة من الأفكار إلا مناقشة أدبية، لا تخرج عن نطاق المجادلة بالتي هي أحسن. رأيت فيما رأيت رجلاً لم يرقه المعاد، ولم يوقن باليوم الآخر، فكان لابد له - بصفته مسلم - أن يُأوّل ما ورد بهذا الشأن، فيقول: إن العذاب عذاب النفس، والجنة جنة الروح، والنفس بعدما تعدم، يكون نارها ونورها ذكرها الطيب أو الخبيث.. ورجلاً لم يكن يطيعه فكره في قبول الحجاب وحرمة التبرّج، فيرتأي أن الحجاب عادة خارجية، دخلت في الإسلام من إبان بعض الخلفاء، ثم يقف على قول القرآن العظيم: (وَلا تَبَرَّجْنَ)(1)، موقف مأوّل أو مجمجم لا يجد جواباً.. ورجلاً لم يكن يرى حرمة الغناء، لا اجتهاداً أو برهاناً، بل شهوة وفكرة، فكان يقول: كل أمر يستحسنه العقل لا يحرمه الدين، فإن الدين يساير العقل، وطبعاً يريد عقل مثله!.. ورجلاً لا يعترف بالمُعجز، فكان يرمي مدّعيه تارة بالكفر(2) وأخرى بالجهل والسخافة، وكل نظره أن الأنبياء أناس مصلحون لا يربطهم بالسماء إلا رابط قلوبهم التي مُلئت حناناً وإحساناً.. ورجلاً يرى القوانين الدولية، أفضل من القوانين السماوية، فكان يقول: تلك ليومها وهذا ليومنا.. ورجلاً يرى الدين الأخلاق والآداب فحسب، فكلما ينافي الأخلاق - بزعمه - فليس من الدين، وإن تواترت به النصوص، وكل ما لا ينافي الأخلاق فهو من الدين، وإن حاربه الإسلام بكل قواه. |
|
إلى عشرات من أمثال هؤلاء!! |
|
ليس الدين إلا قانوناً مدنياً أخلاقياً اجتماعياً، يصلح المعاش والمعاد في وقت واحد، وضعه إله السماء حسب المصالح الفردية والاجتماعية، وحيث كان هو العليم بالمصالح، وبما يسعد البشر، فلا سؤال في حكمه، ولا اعتراض عن أمره، ولا يُسأل عمل يفعل وهم يُسألون، ولا يرجع وبال العصيان وعواقبه إلا إلى الإنسان نفسه، فسيكون كمن عصى أمر الطبيب، فإن المرض يهد ركني نفسه. إن من الأمور ما لا مساغ للعقل فيه، ولا مدرج للفكر في شأنه كما أن من الأمور ما للعقل فيه مجال، وللفكر فيه مسرح، والدين يضم بين جوانحه الأمرين، فالعقل يدرك مصالح الإعانة والصدق والزكاة والحج والاتحاد والطهارة والخمس والجهاد وما أشبه.. ومفاسد الخيانة والغش والخمر ولحم الخنزير والإسراف والبخل والجبن وما إليها.. ولا يدرك أن صلاة الصبح ركعتان لماذا؟ والسعي سبعة أشواط لأي علة؟ ومن أربعين شاة بالخصوص - لا تسعة وثلاثين - يخرج الفرض لأي سبب؟ وهكذا. وحيث علمنا أن الدين من إله عالم بخفيات الأمور، لا يريد إلا الصالح، ولا يبغض إلا الفاسد، وعلمنا أن هذا من الدين وذاك، فإن أحببنا خيرنا لزم علينا الاتباع، وآباؤنا قد اتبعوا برهة تقرب من ثلاثة عشر قرناً فرأوا الخير الكثير، وتركنا ورأينا الضر الجمّ (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(3) ونحن لا نريد من الناس التقليد المحض، والاتباع الأعمى، كل ما نريد هو أنه لو عرفوا الطبيب حاذقاً، ورأوا مغبة ترك أقواله، فالواجب عليهم الوقف عند أوامره وزواجره، بدون سؤال عن علة كمية العقاقير، وأنه لماذا يعطي من هذا نصف ذاك؟ ومن عقار عشر غيره؟ ولأي علة يمنع عن طعام شهي؟ ويحتم شرب دواء مر؟ إن مرجع الدين الكتاب الحكيم والسنة الراشدة، ولا تعرف هاتان إلا من قبل علماء صادقين راسخين في العلم، فلو أحب رجل خير نفسه، واتساق أمر أولاه وأخراه اتبع الدين، وإلا فلا يلوم إلا نفسه، وهو بما كسب رهين. الدين كما يقيد الفرد في لسانه وبصره، وسمعه وقلبه، وبطنه وشهوته، ويده ورجله، كذلك يقيد المجتمع، فالمسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه(4)، والمؤمن أخو المؤمن(5)، ويجب عليه أن يحب لغيره ما يحب لنفسه(6)، ويكون مرآة غيره يريه زينه وشينه(7)، والناس إما أخ له في الدين أو نظير له في الخلق(8)، ويلزم أن يجعل الأكبر منه أباً، والمساوي له أخاً، والأصغر منه ولداً، وأن يبر أباه، ويصل أخاه، ويرحم أبناءه، ولو فُسّر الدين بما يشاء الدين، لا بما يشاء التأويل، ولو عمل به كما عمل النبي (صلّى الله عليه وآله) وأوصياؤه، ولو انتهج مناهجه، كما مشى عليه المسلمون الأولون، من الصحابة الأخيار، والتابعين لهم بإحسان، لمطرت السماء ذهباً، وأخرجت الأرض دراً وعقياناً، وأصبح أفراد الإنسان أخواناً، وأضحى الأعداء خلاّناً. لكن اليوم يتمثل الدين بقول الشاعر: أما الديار فإنها كديارهم***وأرى نساء الحي غير نساء |
|
1ـ سورة الأحزاب: 33. 2ـ فإذا قيل له: أحيى عيسى (عليه السلام) الموتى، قال: هذا كفر بالله وشرك، أما القرآن عنده فباب التأويل فيه واسع.! وهكذا.. 3ـ سورة النحل: 118. 4ـ راجع مكارم الأخلاق: ص438. 5ـ الاختصاص: ص27. 6ـ الخصال: ص351 ح227 للمؤمن على المؤمن سبعة حقوق. 7ـ راجع الخصال: ص351 ح227 للمؤمن على المؤمن سبعة حقوق. 8ـ نهج البلاغة : الكتاب 53، عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى مالك الأشتر حين ولاه على مصر. |