| الفهرس | المؤلفات |
|
الدين والمدنيّة |
|
أمران تاريخيان يتسابقان، فقد يكون لهذا الفوز، وقد يكون لذاك، هما: الدين والمدنية، فقد تتقدم هذه في حقول الحياة فتضيق العضلات في إطار من الأعباء والقيود، وقد يتقدم ذاك فيكسر الغلّ ويخرج إلى رحب الفضاء الوسيع، لكن هذا القول لدى التحليل ناشئ عن عدم دراسة الأمرين دراسة كافية عميقة، وإلا فالدين الصحيح والعلم الغائر لا يتناطحان، بل - بالرغم من مزاعم بعض أنصار الأمرين المتطرفين - يتلازمان ويتعانقان؟ لكن أغلب الظن أن معظم النزاع الواقع بين منتحلي الأمرين إنما كان بين أصحاب القداسة البابوية، وأصحاب الفضيلة العلمية الاختراعية، حيث إن الأولين يرون الدنيا بما فيها من فضاء واسع، ومواد غزيرة وقف لمعلوماتهم الضئيلة، ولذا أقاموا الدنيا وأقعدوها على رجال العلم الأولين الذين أرادوا التخطي من أغلالهم نحو الحقيقة الملموسة، ولذلك شاهد وألف شاهد، والآخرون يرتئون أن الحقيقة لا تتقيد بقيد الكتاب المقدس ولا الباب الأعظم، مهما قدر الثّاني على الأخذ بأطراف السيادة. وهذا بخلاف دين الإسلام ذي الصدر الرحب، والفؤاد الفائض حرارة وتحفّزاً، فإنه يدعو إلى العلم جهده، حتى أنه لا يقبل من معتنقيه أن يأخذوه تقليداً أعمى، بينما نرى أن الباب أصدر ورقة الحرمان لمن أراد ترجمة الكتاب المقدس في بدء الأمر، فكيف بالعلم، وهكذا يردّ العلم الأشعة إلى الإسلام - مكافئة بالمثل - فيؤيد مبادئه. ولذا نرى، بينما خلع نير الدين المسيحي كثير من معتنقيه عن رقابهم، وأخذوا يعتنقون الإسلام، ويطرون مناهجه بقرآنه وسنته، بالرغم من كثرة ما وصمه تجار الأديان من النصارى وغيرهم بنبي الإسلام ودساتيره، ولا يتبادر إلى ذهن قارئ إني أريد الحوم حول كرامة السيد المسيح .. كما لا أريد الانتقاص من قدر الكتاب المقدس المنزل من السماء بتوراته وإنجيله، فإن الذي دعمه البرهان أن هذا الكتاب لا يطابق ذلك الكتاب، فقد عرض عليه عارض التطور لأسباب شتى، بل غاية المرمى أن العلم لا يستوحش من عدم مسايرة الدين النصراني معه، بعد ما أدرك أنه لا يخلو عن أصابع لاعبة. العلم والدين الصحيح كفيلان بإسعاد المجتمع، أحدهما من الناحية الروحية، والآخر من الناحية المادية، والمجتمع لا يطير إلا بهذين الجناحين، فلو قال الدين: أعتقد بإله قوي خلق وقدّر، وبرسول كان على خُلُق عظيم، وبخلفاء دعَوا إلى الفضيلة والصلاح، وبيوم يحاسب الخلائق على أعمالهم، ليس موقف العلم منه إلا موقف المستقبل الجذلان. ولو قال العلم: يلزم النظر والبحث والتعاون والتقدم وما إلى ذلك، رحب به الدين كل ترحيب، ورأى ضالته المنشودة، وهكذا يتخطّى الدين والعلم سواءً بسواء. هناك نقاط وضعت على ألواح الدين أو العلم، أخذها أصحاب كل من المتزمتين الذين لا يحبون إلا الدين المنحوت، أو العلم الموهوم! من أشد الأسلحة لإيقاع المحاربة التي لا هوادة لها بين الدين والعلم، فيؤاخذ أصحاب العلم الموهوم على الدين: قانون الرق، وحكم الحجاب، وشريعة التماثيل، وحلق اللحية، وما إليها مما لا يجاوز الأصابع.. من سيئات الدين، كما يؤخذ المتزمتون من أصحاب الدين على العلم: القول بكروية الأرض، وبخارية المطر، ودوران الأرض حول نفسها، وما انتحى هذا المنحى، لكن هذا سلاح يحتاج إلى ظلام، كي لا يفضح المتسلحون به، إذا طرد موكب النهار الليل البهيم. إن الرقّ بحدوده المجعولة في الشريعة - وأقصد بها الإسلام - لا يكون إلا لقمة سائغة للعلم، فمن لاحظ منبع الرق، وحالاته التي يضطر الدين إلى أخذه - التي هي كحالات أخذ الدول للأسرى من الدول الأخرى - ثم قاس بين أسير الدين وأسير الدول في الأحكام المقررة، ثم نظر إلى مدى احترام الأرقاء ومدة رقهم وأسباب عتقهم، وجد السلاح المزعوم من أفضل أسباب الرفاه للسادة والعبيد، ومن المعلوم أن القصد هنا ما تقوله الشريعة، وعمل به النبي‚ والتابعين له بإحسان، لا ما نجم عن أفعال زمرة من متقمّصي الخلافة والإمارة غير الشرعيين. والحجاب ليس إلا صيانة عن العهر والفحشاء، وحفظاً للأنساب ووقاية عن الأمراض، ثم توزيع النساء على الرجال توزيعاً عادلاً، لا يظلم أحد الطرفين، ومن لاحظ سجلات الشقاق والطلاق، والعزوبة والنكاح، وقارن بين الأمة المتحجبة، وأمة سافرة لرأى مدى صدق ما ذكرناه، ثم أن الحجاب بحدوده الشرعية لا ما يضيف إليه المتزمّت، ولا ما ينقص عنه الخليع عند التعمق ينبغي أن يتسلّح به العلم والدين معاً، لا أن يؤاخذ به العلم على الدين. والتماثيل وحلق اللحية ليسا بهذه المثابة من المدنية، كما لا يؤيدهما العلم تمام التأييد، بل الأمر بالعكس فإنه إنما يتلقى تأييداً من رجال الترف، وإلا فالعلم أدرك مضاره، أضف إلى ذلك كله: أن رجال العلم يختلفون، فمن موافق لنظرية الدين ومخالف لها، ومسائل الخلاف لا تصلح أن تكون سلاحاً على الآخرين، ولو تماشى أحد مع هذا العلم المزيّف وفرضه حقاً لا مرية فيه، فالدين في مندوحة إذ الاختلاف في مسألة أو مسائل مع الصداقة التامة في غالب الموضوعات الساحقة، لا يوجب اختلافاً جوهرياً. وأما ما يأخذه الدين - المزعوم - على العلم فليس إلا وليد التخرّص غالباً، فقد أثبت غير واحد من علماء الإسلام المعاصرين أن الدين يؤيد العلم في مكتشفاته المبنية على التحقيق والدقة. ونحن في هذه الكلمة الموجزة لا نريد إقامة البرهان على التوافق التام، فإن ذلك يحتاج إلى مجلد ضخم أو مجلدات، بل المرمى إثبات أن العلم إنما ينتفع في عالم الماديات فحسب، والدين الشيء الوحيد الذي يحافظ على الفضيلة الروحية، فلا غنى عن العلم من الدين، ولا غنى من الدين عن العلم وإن هذا المهوى الذي حدث بين الموضوعين من منسوجات الجهل، فلا الدين يهزأ بالعلم، ولا العلم ينفر من الدين. إذن على الحكومات التي تحب الفضيلة أن تقرر منهج الدين في مناهج العلم، كي يطير البشر بجناح العلم والفضيلة، والمدنية والدين، في وقت واحد. وأخيراً: الدين يدعو إلى العلم.. والعلم يدعو إلى الدين.. وليس علم يناقض الدين إلا جهلاً، ولا دين يناقض العلم إلا خيالاً. |