الفهرس

فهرس المجموعة الثالثة

المؤلفات

 الثقافة الإسلامية

الصفحة الرئيسية

 

رضا الناس

رضا الناس لا يُملك، ومن السفاهة أن يطلب الشخص مرضاتهم، إن الناس خلقوا وكلٌّ يباين الآخر في الطريقة، ويضادّه في الفكرة، فهذا يحسّن شيئاً، بينما الآخر يقبّحه، ورجل يفضل أمراً، في حين أن الثاني يفضل عليه غيره، فيكون مرتاد رضاهم كالكرة التي يطرحها هذا لذاك، فإذا لقفها الآخر لا تلبث في يده، حتى يرميها نحو الآخر، وهكذا دواليك.. وبهذا قد خسر رضا الناس ورضا نفسه دفعة واحدة، ومهما عمل الإنسان من خير وشر، وحسنة وسيئة، فإن بعض الناس يناله بلسانه، ويزدري عليه عمله، وقديماً قيل: لا يسلم أحد من ألسنة الناس.

فإن اقتصد في المال، قيل: بخيل، وإن جاد، قيل: مسرف، وإن أقدم على المخاوف، قيل: متهور، وإن أحجم عنها، قيل: جبان، وإن تواضع، قيل: مبتذل، وإن ترفّع، قيل: متكبر، وإن قلل من الكلام قيل: به عي، وإن أكثر، قيل: به ثرثرة، وإن غني، قيل: يشمخ بأنفه، وإن افتقر، قيل: يبحث عن حتفه بظلفه، وإن رام معالي الأمور، قيل: يحب الظهور، وإن لم يرُمها، قيل: دنيء الهمة، وإن ظرف، قيل: مهذار، وإن سكت، قيل: متجهّم، وإن قام بالإصلاح، قيل: فيه جنون العظمة، وإن لم يقم، قيل: لا يقوم بالتكليف، وإن تعلم، قيل: مرائي، وإن جهل قيل: كسول، حتى أنه إذا نزل عليه الذكر الحكيم، قيل: لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم؟!

وقد ضرب لقمان لابنه مثلاً رائعاً - فيما يحكى - وكان حينذاك سائراً مع ولده يسوق حماره إلى مزرعته، فقال لابنه: أي بني، إن الشخص لا يسلم من لسان الناس، فقال له الولد: وكيف ذاك يا أبه؟ قال لقمان: الآن آتيك بتجربة:

ثم ركب هو حماره وأمر ولده بأن يردفه، فما سارا شيئاً، حتى قال الناس: ما أقسى هذا الشيخ، إنه يركب هو وولده حماراً ضعيفاً، لا طاقة له بهما.

فبقي لقمان راكباً، وأنزل ولده من على الحمار، وما أن سارا - هذا راكباً، وذاك راجلاً - حتى مرّا بملأ، ولما نظروا إليهما، قالوا: ما أظلم هذا الشيخ، إنه يركب الحمار، وولده يسير راجلاً مع أن الولد أحق بالركوب، لأنه فلذة كبده، وإنه لا يقوى ما يتحمل الكبير!

فعكس لقمان الأمر: فنزل هو، وأركب ولده، فما سارا شيئاً، حتى مرّا بقوم، فقالوا: ما أحمق هذا الشيخ، لا يؤدب ولده صغيراً، حتى ينتفع به كبيراً، إنه يجرّئه على الركوب، ويبقى هذا الشيخ الضعيف الوالد، راجلاً!

فأنزل لقمان ولده عن الحمار، وسارا كلاهما راجلاً، والحمار قدامهما، فما أن مرّا بجماعة حتى قالوا: ما أسفه هذا الشيخ، إن الحمار خلق للركوب، فيمشي هو، ويتعب ولده، ويجعل الحمار بلا راكب.

حقاً أصاب لقمان في تصوير المطلب، والناس في جميع الأزمنة والأمكنة يشابه بعضهم بعضاً، والغر الغافل يصيخ إلى مقالهم، والنبيه العاقل من يختار الطريقة المثلى، والصراط المستقيم، فيسير عليه، لا يلوي على شيء مما يقال فيه، ولقد جربت هذا الأمر بنفسي، فقد كنت أعمل عملاً أراه صواباً، فيأتيني جمع يباركون صفقتي، ويطرون فكرتي، ويمدحوني مخلصاً، ويشكرون لي صنيعي، وهناك أقوام آخرون يؤتى إلي بكلامهم، أو يأتي إلي بعضهم في لسان ناصح، وهم - فيما أعلم - بين مخلص يعتقد ما يقول، ومغرض حرّكه غرضه، فيذمون عملي، وينصحوني بتركه.

وقد يزعم بعض الناس: أن كل من يخالف رأيهم، ويباين مسلكهم فهو مغرض خبيث، لكن الأمر ليس على ما زعموا، فإنه وإن كان في الناس أعداء حاسدون، إلا أن جميعهم ليسوا كذلك، وإنما الاختلاف، باختلاف المدارك، فكما أن أحدهم يختار المدينة، والآخر الريف، وبعضهم يهش للربيع، وبعض للخريف، كذلك يصطفي أحدهم فعلاً، والآخر ضده، ويجتبي شخص عملاً، والآخر نده، وعلى الإنسان أن يسلك ما يراه صواباً، وإن رآه غيره خطأً وعذاباً، ولو ترك صوابه إلى خطأ يرتضيه غيره، فقد الصواب والرضا في وقت واحد.