| الفهرس | المؤلفات |
|
الأنانيّة |
|
ليس الرجل الأناني إلا قاصر العقل، ضعيف المدارك، كثير الهواجس، قليل المنة، بعيداً عن الإنسانية، وضيعاً عند الناس، صغيراً في الأعين، ضئيل النفس، فلا يغتر الرجل بعلمه، إلا إذا كان وطيف العلم، خفيف الحجى، إذ العلم بحر واسع، لا يدرك غوره، ولا يسبر قعره، ولا يحاط بجانبيه، ولا يعلم طوله وعرضه، ومهما أوتي الشخص من العلم الغزير، والمعرفة الجمة، فإنه بالقياس إلى جميع العلوم، أقل من نسبة القطرة إلى البحر، فيكون مثل المغرور بعلمه كمثل من اغترف من الأقيانوس غرفة، ثم شمخ بما عنده من الماء، والمغتر بمعلومه، إما لا يعلم بحدود العلم، وإما لا يدرك ضآلة معلومه، وكلا الأمرين جهل.. ولا يغتر بماله، إلا من كان ضعيف المشاعر، زهيد العقل، إذ مقدار الشخص لا يرتفع بالمال، وإنما رفعة المرء بحسبه وأدبه، لا بفضته وذهبه، وإنما يحترم المال الأغبياء الذين لهم في المثرين مأرب، ويدل على ذلك، أن التاريخ يحفظ العظماء من الملوك والعلماء ونحوهم، ويأنف من أن يخصص صفحة من صفحاته بالأغنياء. ولا يعتر بجماله، إلا الني غير المحجوب لتقلب الدهور، واختلاف الأحوال، فإن الجميل مهما أوتي من اعتدال القوام، وأناقة الهندام، لا يلبث حتى يتقوض سلطان جماله، ويذهب رونقه وبهجته، أدراج العمر وربما انقلب الجميل بشع المنظر، قبيح الصورة، كريه الوجه. ولا يبالي ببلاغته، إلا من يؤت حظاً من النهية، ولم يرزق قسطاً من اللب، أما يرى ما أكثر من فصيح بليغ، وخطيب مفوّه، وشاعر مجيد، لا يعرف له قدر في المجتمع، وليس له حظ من الحياة، بينما من لا يعرف أن يتكلم عياً وحصراً، قد استوزر أو أُمّر، أو أشير إليه بالبنان وذكر، وهو لا يجد حتى قوت يومه، ولا يحترمه حتى زوجه وقومه.. ولا يغتر بجاهه ومنصبه، من كان له أقل إلمام بالتاريخ، أو بعض الحجى، فإن الجاه يزول بأسرع من لمح البصر وارتداد الطرف، وقد ترينا العبر أناساً كانوا سادة، فأصبحوا مسوداً، أو أضحوا أمراء، فأمسوا عبيداً، ولقد نظرنا بأم أعيننا إلى ملك، كان يطاع دون الله ويعبد، ويركع له ويسجد، فلما حان حينه، وأتى وقته، أجبر بالنزول عن عرشه واستبدل به ولده، وبعد عن وطنه إلى جزيرة نازحة عن العمران، رهين نصب ومرض وفقر وحرمان.! وإلى ملك كان الناس يظهرون له الطاعة والإخلاص، والود والمحبة، يستقبلونه إذا جاء استقبال العبد لسيده، ويهتفون باسمه هتاف الوالدة بوحيدها، فلما أن جاء دوره، وهاج ثوره، هجموا عليه في عقر داره، وقتلوه شر قتلة!. وإلى ملك أودى به أصحابه، وتبرأ منه أخلاؤه وأحبابه، وهو في غدة بينهم مطاع، يأمر فيطاع. ولا يغتر بالخلاّن والجيران، والأقرباء والأقوام، والأهل والولد، والعطاء، إلا من كان قليل المدارك، فلربما تغير الأخلاء أعداءً، والأقرباء حساداً، والعطاء وبالاً، والعيش مع الأهل محالاً ... أما الصحة فهي (كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً)(1)، ويتلألأ عند باصرته الهواء ماءً، فلا تذهب الأيام حتى تنقلب مرضاً مضنياً، وسقماً مردياً. ولو أراد أحد أن يغتر، فليغتر بالفضيلة والأخلاق، والكمال والآداب، والملكات الحسنة، والخصال المستحسنة، وليباهي بالعلم والعمل، والسخاء والعفو، والإخلاص والصدق، والوفاء والحياء، والأمانة وحسن البشر.. أما عدم احترام الناس لأنه حاكم، أو عدم الاعتناء بهم لأنه عالم، أو الافتخار بالنسب لأنه ذو محتد أصيل، أو المباهاة باللسان لأنه فصيح بليغ، فليس إلا من أعمال النوكى، وأطوار الحمقى، وأفكار المجانين وأحلام المساجين. إن من لا يقدر على الخير، لابد وأن يتعزى بالشر، ومن لا يعرف الفضيلة، لابد وأن يعتز بالرذيلة، ومن لا يكاثر بالحسنات، لابد وأن يباهي بالسيئات، وكذلك حال الأنانيين المغرورين، والبلهاء المحدودين، وقد قدرت المقادير أن تعكس طلبة المغتر، فلا يكون في عين الناس إلا حقيراً، وفي أنفسهم إلا سخيفاً، وفي المجالس إلا مهاناً، وعن الناس إلا مُباناً، يتبرم به الصديق، ويستثقله الرفيق، ويتجانبه القريب، ويتباعد عنه الغريب. ولو افتكر الأناني في نفسه، وما كان بالأمس وما يكون غداً، وما تجلب عليه الأنانية من الويلات والشرور، لأقلع عن غلوائه، وأقصر عن كبريائه، فقد كان نطفة تستقذرها الطباع، وسيكون جيفة تنفر منها حتى السباع. وهو على كبره ونخوته***في جنبيه يحمل العذرة(2) وهو بنخوته وكبريائه، يجلب إلى نفسه الآلام والهموم، والأحزان والغموم لأنه ينتظر من كل أحد تقديره، ويترقب من كل بشر احترامه، والناس يأبون لمثله إلا إذلالاً، ويفرون منه فراسخ وأميالاً، فيكثر أعداؤه، ويقل أودّاؤه، ويصبح بلا صديق حبيب، ولا نجي قريب، وربما آل الأمر بمثل هؤلاء، أن يعتزلوا الناس اعتزال وحش القفار، أو يعيشوا عيش ذل وصغار. وبالعكس من هؤلاء الأريحي الذي يضع نفسه موضعها، ويعرف لشخصيته مقدارها، بل ينزل نزول الطائر عن مقامه، فلا يرى لنفسه فضلاً على سواه، ولا يتكبر على غيره بما وعاه، فيرى ما علم ضئيلاً، وما أعطي قليلاً، وجاهه طفيفاً، وعزه وطيفاً، وبهذا يكرم الأنام، ويقوم لكل أحد بواجب الاحترام، فيكبر بذلك في عين الناس، ويتعاظم قدره، ويعتلي جده، فهو كالدر الذي يغوص في الماء، لثقله وحصافته، بينما الهباءة تعوم في الهواء، لخفتها وعدم متانتها. ولذا نرى أنه كلما كان الشخص أعظم قدراً، وأعلى شأناً، تكون أنانيته أقل، وتواضعه أكثر، وبهذا يكون عند الناس أرفع، وفي الأبصار أشرف، وهو في راحة واطمئنان، وواحة وجنان، بل إن الأنانية تنزل صاحبها - دوماً - في مهالك مردية، وصحارى مقفرة، فتطيح به الطوائح، وتلفحه اللوافح. |
|
1ـ سورة النور: 39. 2ـ راجع مسكن الفؤاد: 92. |