الفهرس

فهرس المجموعة الثالثة

المؤلفات

 الثقافة الإسلامية

الصفحة الرئيسية

 

تزكية الذات

جبل الإنسان على حب النفس، وإرادة ترفيعها بأي نحو كان، سواء كانت في الحقيقة رفيعة أم لا؟

وتختلف أقسام الترفيع، فمنهم من يرفع نفسه بالعلوم والصنائع، والجد والعمل، والاكتشاف والاختراع، ومنهم من يرفعها باكتساب الجاه والكبرياء، والمقام المرموق، والمرتبة العالية، ومنهم من يرفعها بالمادة والثروة، فتراه يجهد ليل نهار كي يحصل على كمية وافرة من الدراهم البيض والدنانير الحمر، والقصور والحدائق، والمتاجر والمنازه، وقل من يجتهد في سبيل هذه الأمور لذاتها، أو لنفع مجتمعه خالصاً، دون أن يريد الرفعة والسمو، والاعتلاء والسموق، ونفس هذا القصد والعمل من أجله مكروه لدى النفوس الرفيعة، والأحلام الحصيفة، ولذا نرى أنه لا يلبث الناس يمدحون المخلص، ويذمون من يريد العلو، فيقولون: فلان يعمل لأجل أن يسود، أو ليجلب كرسي النيابة في برلمان، أو يقعد مقعد الوزير، أو يجلس محلّ الأمير، أو يعتلي على الأقران، أو يشار إليه بالبنان.

وهناك أمر آخر أسوأ من ذاك، وهو تزكية الذات، والتشدق بمحامد النفس، والتكلم في الحسنات الشخصية، سواء أكان فيما يقول صادقاً أم كاذباً، فإنه يذهب بالمحمدة، ويضؤل المعروف، ويقلل من العمل إن كان عاملاً، فترى أن من أحسن إليك بإحسان مهما عظم، لو نطق بذلك في منتدى، أو افتخر به في مجلس، ينقص كرمه، حتى تراه النزر الرتح، والطفيف النكد، ومن اخترع آلة ينتفع بها، لو مدح نفسه وذكاءه، وفهمه واختراعه، سقط من العيون، وهوى عن مكانته السامية في القلوب، فلا يرى عمله إلا بكياً، ومكتشفه إلا حقيراً.

وربما انعكس الأمر، فيعوض الناس مدحه بالذم، وخيره بالشر، وعظيمه بالقليل، وكثيره بالزهيد، وبذلك يخسر قيمة نفسه، وقيمة عمله أو جاهه، فإن الناس فطروا على كراهة من يرفع نفسه، ويشمخ بأنفه، ولو سكت هذا عن لغوه، وألجم عن هذره، لكان في الناس من يكفيه المؤنة، ويطربه بالثناء، ويرشفه بأريج الحمد، فمن مدح نفسه سكت عنه غيره، ومن سكت مدحه الآخر.

ثم إن هناك سؤالاً عن المادح نفسه، يشكل الإجابة عليه، وهو أنه لو يمدح نفسه بخير سيق إليه، فلماذا لا يذمها لشر وقع فيه؟ وإن أطرى ذاته بصدق، فلماذا لا يذمه بكذب؟ ولأن قرظه بأمانة، فلماذا لا يعيبه بخيانة؟ ولأن زكّاه بطاعة، فلم لا يثلبه بعصيان؟

وربما كان تزكية النفس توجب إثارة كوامن النفوس، ممن يحسده أو لا يرى له قيمة، فيتجاذب هو ومناوئوه حبل الترفيع والتخفيض، فيذكر هو محاسنه ومناقبه، وفضائله وفواضله، ومكارمه ومفاخره، ومساعيه ومآثره.. ويذكر الأنداد مثالبه ومشانئه، ومناقصه ومساوئه، ومقابحه ومخازيه.

فالأفضل بالرجل: أن يسكت عن خير نفسه كما يسكت عن شرها، ويعمل ويجد، دون ذكر فضيلة أو نطق بمحمدة، فكثيراً ما يكون حمده نفسه وبالاً عليه، ويجلب تقريظه إياها، ذماً مقرعاً، لا قبل له به.

ومما توصم به الجاهلية: هو ما اعتادوه من الاجتماع وذكر المعالي والافتخار بالأحساب والأنساب، وقد أرانا التاريخ أنه ما كان يسلم لهم ما يرومون فقد كانت القبيلة الأخرى، تقدح فيهم، وتطعن عليهم، وتقرعهم وتعيّرهم، وتوبخهم بالقبائح، وربما آل الأمر إلى السباب والمهاترة، والبغضاء والمدابرة.

إن من يطري ذاته، إن قصد من ورائه الاحتقار والازدراء، فقد أحسن وأجاد، وأصاب الهدف، وإن رام العظمة والاعتلاء، فقد ضل سواء السبيل، وتاه من غير دليل، فليسكت متكلم عن تقريظ ذاته وإلا فلا يرجون خيراً، وليهيئ نفسه رمية لرشق الألسن، وغرضاً لإسلات الأقلام، بل ربما كان الأمر بالضد من ذلك: فلو رأى عمله حقيراً، وجاهه ضئيلاً، ارتفع في الأنفس، وزيد في قدر عمله، واعتلاء مقامه، ولا يذهب على مفكر أن بعض الذم مدح، فكثيراً ما ينتقص الشخص من قدره، وهو يريد بذلك في الحقيقة مدحه، وهذا مما لا يخفى على السامعين، وتكون النتيجة هي النتيجة الحاصلة من المدح، من الهوان والسقوط، والنزول والهبوط.