| الفهرس | المؤلفات |
|
القرآن |
|
ليس عند المسلمين اليوم سفر أعز وأسمى، وأعلا شأناً، وأعظم مرتبة، وأرفع قدراً، وأجل رفعة، وأمنع جانباً، وأعظم سمواً، من القرآن الحكيم. فهم على اختلاف فرقهم، وتباين مذاهبهم، وتضاد مشاربهم، وتخالف ألسنتهم، وتناطح آرائهم، وتشتت لغاتهم، وابتعاد ممالكهم، لا يختلفون فيه أي اختلاف، ولا ينظرون إليه إلا بالإكبار والإجلال، والاحترام والتكريم، فالكل لديه خنوع، والجميع أمامه خضوع، وكافتهم يعترفون بأنه الكتاب السماوي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، وتنزيل من حكيم حميد، وإنه هو ميزان الثواب والعقاب، والجنة والنار، والسعادة والشقاء، والعلم والعمل، والنجاة والهلاك، والاتحاد والاختلاف، فمن أخذ به سعد، ومن رفضه شقي، والكل يعتبر القرآن أصل الدين وأرومته، ومحتده وجرثومته، إليه يرجع، وإياه يتبع، ومنه يأخذ، وعليه يعوّل، وهو العين السيالة التي لا ينضب معينها، والشمس المنيرة، التي لا تضمحل أشعتها، لا يختلف في ذلك الشيعي والسني، والحنبلي والحنفي، والمالكي والشافعي، والأشعري والمعتزلي، والموالي والناصبي، والعالم والجاهل، والرجل والمرأة، والكبير والصغير، والشريف والحقير، والعجم والعرب، والتركي والهندي، والحجازي والعراقي، والشامي والمصري، والأردني واللبناني، واليمني والفلسطيني، والتونسي والجزائري، والإيراني والباكستاني، والشعوب والحكومات. ويقرأه الناس في كل حفلة وندوة، واجتماع وخلوة، وفي المكبرات والمسجلات، والمدارس والإذاعات، وله في كل ذلك المكانة العليا والمرتبة المثلى، وكل هذه مما لا يختلف فيها اثنان، ولا ينازع فيها منازع، وتبذل المطابع القسط السخي من أوقاتها، والأثرياء الحظ الوافر من أموالهم لطبعه ونشره، وإجادته وأناقته، وتصحيح أغلاطه الطباعية، وتحسين ورقه وغلافه، وطروسه وسطوره، وينتفع القارئون والمقرئون، والناشرون والطابعون، والخطباء والحفّاظ، من ذلك أعظم انتفاع، ويجود المفسرون والمترجمون، لتفسيره وترجمته، أعماراً طوالاً، ودهوراً عراضاً. ومن الغريب بعد ذلك كله: ما يراه الرائي، من تظاهر أغلبهم على عدم التمسك بما فيه من أحكام وسنن وقوانين، وشرائع وأخلاق وآداب، وعقوبات واقتصاديات وإجراءات، وحلال وحرام ومندوب، وأمر ونهي وعظة، كأنه تمثال ظريف، ينظر إليه بالإكبار والإعجاب، لا أحكام ودساتير تتّبع.. ولقد صدق النبي ‚ حيث قال: (لا يبقى من القرآن إلا رسمه)(1) فرسمه موجود، وصوته مشهود، لكن معناه ذهب مع أمس الماضي، إلا عند قليل ممن عصمهم الله. والمسلمون مختلفون في عدم الأخذ به، فمنهم من لا يؤمن بالغيب، ومنهم من لا يقيم الصلاة، ومنهم من لا يؤتي الزكاة، ومنهم من لا يحج البيت، ومنهم من لا يرى العدل، ومنهم من لا يطيع الرسول (صلّى الله عليه وآله) وأولي الأمر (عليهم السلام)، ومنهم من لا يؤمن بآية الخمر، ومنهم من لا يبالي بحكم الربا، ومنهم من يجعل حكم الميسر وراءه ظهرياً، ومنهم من لا يرى العمل بآية حرمة التبرّج، ومنهم من يستخف بآية الاعتصام بحبل الله جميعاً، ومنهم من لا يعتني بدستور (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)(2)، ومنهم من لا يرى حد الزاني الجلد والرجم، وحد السارق قطع اليد، وحد الذين يحاربون الله ورسوله أن يقتلوا.. ومنهم من لا يرى مقداراً لقوله تعالى: (وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ)(3) بل لا يرضى بذلك، بل لسان تشريعه: سأنزل أفضل مما أنزل الله، ومنهم من لا يرى مانعاً لموادّة الكفار، ومنهم من لا يرى مانعاً من مشاقة المسلمين ومضادتهم، ومنهم من لا يعتني بآية الميراث، فليقل الله تعالى: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ)(4) - والعياذ بالله - ومنهم من لا يرى (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ..)(5) ومنهم. ومنهم. ومنهم. إلى حيث تتم الآيات القرآنية. أيها المسلمون، أتذكرون مجدكم الذي طال لكم أكثر من اثني عشر قرناً؟ فإن لم تذكروه، فهذا التأريخ يذكّركم. أتدرون: لماذا كان ذلك؟ أتعلمون: إنكم اليوم لا مجد لكم ولا عز؟ أتدركون: لماذا صار هذا؟ أتحبون رجوع عزكم السابق، ومجدكم الباسق، وسيادتكم الرفيعة، وسعادتكم المنيعة؟ أتعلمون طريق ذلك؟ مما لا شك فيه أنّا نطلب السعادة الرفيعة، لكن الناس في الطريق مختلفون، فبعض يرتأي أنه بالالتحاق بالحزب القومي، وفرقة يرون أنه بالانضمام إلى الحزب العلماني، وثلة يظنون أنه بسيادة الاشتراكية، وزمرة يخالون أنه باتباع المنهج الشيوعي، وجماعة يقولون أنه بتطبيق المبادئ الديمقراطية. أنا أقول: أنّا قد جرّبنا منهاج القرآن الحكيم، ثم جرّبنا في هذه الآونة الأخيرة، التي لا تزيد على نصف قرن قوانين الشرق والغرب، فرأينا أن الأول كفيل بالاجتماع والتحابب والتوادّ، والسعادة والرفاهية والسيادة، والعز والمنعة والسمو، وقد طال أمده دليلاً على قوة أصله، وسعة فكره، وجودة سياسته، ورصانة أسلوبه، وحصافة منبثقه، ورأينا الثانية، فرأيناها بغضاً وعناداً، وتشتتاً وتفرقاً، وعداوة وتمزقاً، وثرثرة وفوضوية. وقد يشتبه على القارئ، ويخلط بين الأحكام والاختراعات، أنا لا أريد نقد الاختراع، وأي عاقل يفعل ذلك؟ بل أريد نقد الأحكام الغربية والدساتير الشرقية، وهل هناك تلازم بين الاختراع وبين الأحكام؟ كلا! وألف كلا! كلنا يعلم علم اليقين: أنّا تأخرنا عن ركب الزمن، وبقي المسلمون السادة الكرام قبل نصف قرن، يستعطون هذه الكهرباء، وذاك التلفون، وتلك الطيارة، وهذه السيارة، وهذا نصف القرن، لا يشك شاك في أنه هو الوقت الذي رفض المسلمون فيه أحكام دينهم، وقوانين شريعتهم، فصاروا إلى ما صاروا إليه من فقد الدين والدنيا في آن واحد. ومن المدهش جداً، أن الغرب جاءوا لتثقيفنا - كما يزعمون - ثم رأينا أنهم ردّونا أسفل سافلين، فبينما كانت هذه الستمائة مليون(6)، وحدة متماسكة، أصبحوا فرقاً ومدناً، وأحزاباً ولغات، فتفرقوا أيادي، كلما نجم لأحدهم نجم، أو بزغت له شمس، حتى لو أراد اختراع أقل شيء، أخذوا بأكظامه حتى يقبروه في مجهلة، لا يزار ولا يزور، فأصبحنا فقراء عبيداً، وبلهاءً أعداءً، ولا سيادة، ولا مال، ولا جاه، ولا ثقافة، ولا علم، ولا أدب، ولا أخلاق، ولا اختراع، ولا اكتشاف، ولا قوة، ولا وحدة، ولا عتاد، ولا أرزاق، ولا استقلال، ولا.. ولا.. ولا. حتى تنتهي الفضائل بأجمعها، بل فقر، وذلة، ومتربة، وجهل، وعداء و.. و.. و. إلى أن تنتهي الرذائل قاطبة. ولو أردنا رجوع السيادة إلى ما كانت، وجريان المياه إلى مجاريها، لابد وأن نرجع إلى ما كنا عليه أمس، فنجعل القرآن محور القضاء والحكم والسياسة والأمر والنهي، والاقتصاد والتجارة، والعلم والعمل، والأخذ والإعطاء، والإقدام والإحجام، فنأتمر بأوامره، وننزجر بزواجره ونقف حيث أمر بالوقوف، ونتحرك حيث أمر بالتحرك، وإلا رجعت الحالة من سيئ إلى أسوأ حتى يقضي الله أمراً. اليوم تتجهز حكومات الغرب والشرق، بأقوى الأسلحة والعتاد، وتتمتع بأكبر المؤسسات الثقافية والعلمية، وترفه عن أنفسها بأجمل الوسائل، وأحسن المخترعات، لكنا أصبحنا بعد السيادة مسوداً، وبعد العزة أذلاء، وبعد العلم جهالاً، وبعد الهداية ضلالاً، لا يخفق لنا لواء، ولا يرفرف باسمنا علم، وأمسينا كالكرة في أيدي الحكومات، وكالريفي بين أهالي البلد، يرميها أحدهم إلى الآخر، ويحوله بعضهم إلى بعض. كل ذلك من جراء جهلنا بمقاديرنا، واستيراد كل شيء من الغرب والشرق، من غير ملاحظة النسبة بين ما بأيدينا، وبين البضائع المستوردة، فنستورد الأقمشة، ومواد البناء، والآراء والأفكار، والقوانين والأحكام كأنه لم تسبق لنا حضارة، ولسنا من المدنية في شيء، وقد جهلنا أن لدينا ثراءً وسيعاً، وديناً ضخماً، ووحدة إسلامية، ومبادئ لا يباريها مبدأ، وكتاباً يتكفّل بإسعادنا، كما أسعد آباءنا الأقدمين، بين أهم حضارتين كانتا تعرفان في تلك الآونة، حضارة فارسية، وحضارة رومية. والحكومات لا تساعد على نشر هذه المبادئ الحية، في الإذاعات والصحف والمدارس والأندية، حتى لا يزعم الزاعم من شبيبتنا ما يزعم ولا يمده المستعمرون بما يمدون، ولم يبق من الدين إلا ما تجود به أقلام جملة من الكتاب، وهم أقل قليل اليوم، أو في أذهان حفنة من العلماء والخطباء، ولم يأخذ الناس منهم، إلا على أنها طقوس عادية، وأحكام تقليدية، من غير تفهم للحقائق، وإدراك للمفاهيم، ثم إنهم يرون تمزق البلاد الإسلامية كل ممزق، وخمودها عن الصناعة والاختراع، وموتها في مجاهل ركب الإنسانية، السائرة نحو الأمام، فيحسبون أن كل ذلك من سيئات الدين، أو القرآن - والعياذ بالله - مع أن الدين والقرآن يتبرآن من هذه التمزيقات، وينهيان عن الخمود والخمول، والتأخر والخنوع. وقد جعل القرآن المسلم في أول قافلة البشر (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)(7)، وإذا عرفنا موضع الداء، فاللازم أن نبادر إلى العلاج، إن أحببنا أنفسنا، وأردنا عزنا وسعادتنا، وسؤددنا ورفاهنا، وذلك يتم بالتعاون بين الحكومات الإسلامية، والشعوب، والعلماء، وحملة الأقلام، والخطباء والوعاظ، والشعراء وأصحاب الأخلاق. فإنّا اليوم نحتاج إلى درس الإسلام درساً صميماً، يرضاه الإسلام، لا درساً ترضاه الفلسفة والمدنية، ثم تحليله تحليلاً عميقاً، ثم تطبيقه على ظرفنا الحاضر، ثم حل المشاكل التي تواجهنا عند التطبيق، وبعد هذه الأعمال، نقارن بين الإسلام وبين سائر المبادئ من شيوعية، وديمقراطية واشتراكية، وقومية، وعلمانية، ونرمق الفارق على ضوء من العقل والمنطق السليم، وحين توفرت لنا هذه المواد، يجب علينا أن نبلّغ ذلك للمسلمين أولاً، وسائر أهل العالم ثانياً، حتى يتضح الفرق، ونتمكن بذلك من تركيز العقيدة والإيمان، وبث الإسلام والقرآن، في الأذهان كي ينشأ نشأً صالحاً، لا ينظر إلى الإسلام بمنظار الغرب، ويعرف عن حقيقة الإسلام ما أخفاه المستعمرون. وعلى الحكومات الإسلامية القسط الوافر من العمل، فعليها أن تتقارب، وتتحد، وتعمل بأحكام القرآن، وتفسح المجال للخطابات الدينية، وتجعل الدين في المناهج الدراسية، وتقطع أيدي السارقين الذين يسرقون المال والشرف، والوحدة والدين، في وقت واحد. وإن العيد: هو اليوم الذي تستبدل الحكومة فيه قوانين القرآن بدلاً عن قوانين الغرب، وتعوض عقيدة الإيمان بدلاً عن الآراء الماركسية والديمقراطية وما إليها، وذلك اليوم هو اليوم الذي يطمئن فيه بالاستقلال، ونعرف أنا قد خرجنا من ذل عبودية الدول المستغلة، إلى عز الإسلام. لكن أنى؟ وكيف؟ ومن أين؟ ومتى؟ |
|
1ـ أعلام الدين: ص406 باب ما جاء من عقاب الأعمال، وراجع أيضاً غرر الحكم ودرر الكلم: ص111 ح1981. 2ـ سورة البقرة: 3. 3ـ سورة الأنعام: 93. 4ـ سورة النساء: 11. 5ـ سورة المؤمنون: 5. وسورة المعارج: 29. 6ـ لا يخفى أن عدد المسلمين بلغ المليارين حسب إحصاءات عام 2000م، انظر كتاب (المتخلفون مليارا مسلم- للإمام المؤلف - دام ظله). 7ـ سورة آل عمران: 110. |