| الفهرس | المؤلفات |
|
الصلاة |
|
إن من يقدم إلى أحد (سيكارة) رأى أصحاب الضمير وجوب شكره بقدر تلك السيكارة، حتى أنه لو لم يشكره لكان كافراً لإحسانه، بعيداً عن الإنسانية. ولو قدم إليه داراً، رأوا وجوب شكره أزيد من شكر السيكارة، بقدر النسبة بينها وبين الدار. وكذلك تتدرج مراتب الشكر باختلاف قيم الأعطيات، فالسلطان الذي يغمر بنعمه شخصاً، فيهيئ له الدار، ويزوّجه، ويمنحه عزاً وجاهاً، ويعطيه ما يكفيه لمعاشه، ويقوم بكل شأن من شؤونه، لابد وأن يشكره هذا الشخص ليله ونهاره، وغدواته وروحاته، ولو لم يشكره لكان ممن قابل الإحسان بالكفران، ولامه أهل الوجدان. إن الله تعالى أوجد الإنسان من العدم إلى الوجود، فجعل التربة الغبراء، نبتة خضراء، ثم بدلها بحيوان، ثم صيّر الجميع نطفة، فعلقة، فمضغة، فعظاماً، ثم كسا العظام لحماً، وشق له السمع والبصر، وأنشأ له قلباً يعي، وفكراً يقي، ولساناً وأذنين، ويدين ورجلين، ثم أخرجه من ظلمات الأرحام، وأمال عليه قلب الأبوين والأرحام، حتى ترعرع وكبر، وسمع وبصر، وراقبه في آناء الليل وأطراف النهار من المؤذيات المهلكة، واللاسعات المردية، وهيأ له الأرزاق والراحة، ومهّد له سبل الحياة الوعرة، حتى بلغ واحتلم واستوى أشده، ثم أراد منه شكراً خفيفاً يرجع نفعه إليه، ولا ينتفع به هو، وهو الصلاة! إن الصلاة شكر لله تعالى على نعمائه التي تجاوزت حد الإحصاء والوصف، وانقياد له وخشوع لعز جلاله، فتشتمل على تكبيره وتحميده وتهليله وتوحيده وذكره، وقد وعد بذلك الثواب، وحذّر تاركها من العقاب. أليس من عدم الضمير والوجدان، أن يترك الإنسان شكر هذا الخالق العظيم، الذي يحتاج إلى فواضله في كل غمضة وكلمة وقيام وقعود، وكل شهيق وزفير، وحركة وسكون، وفعل وترك، ونوم ويقظة، وصحة ومرض، ذلك الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم. ولو فرضنا أن الله تعالى لم يحسن إلى البشر في أدوار أرضيته ونباتيته وحيوانيته وجنينيته وطفوليته، وإنما شرع في الإحسان والإنعام من أول حال البلوغ، لكان العقل يرى لزوم شكره والتضرع إليه والاستكانة ببابه، وحمد جنابه، لهذه الأيادي الجميلة الكثيرة التي أسداها إليه، لكن الإنسان العاتي لا يأل جهداً في مخالفة الرب العظيم، فلا يؤدي حقه، وينتهك حرمته، ويتمرد على شكره، حتى أنه لا يقدم إلى سبع عشرة ركعة في اليوم والليلة، مما ينتفع هو بها، ويتنور بقرب بارئه من أجلها. ولو فرضنا أن أحداً من الملوك أسدى إلى بعض مواليه ربع هذه النعم، ثم أراد منه أن يعمل لأجله نصف يومه لكان جديراً بالإطاعة، حقيقاً بأن يُشكر ويُذكر، فكيف بالله العظيم الذي له كل شيء، ومنه كل نعمة؟ ومن لم يفعل فليس يضر الله شيئاً، وسيجزي الشاكرين، ويعاقب المخالفين، في يوم يقول العاصي: (رَبِّ ارْجِعُونِ)(1)، فيقول: كلا، ولا ينفعه الندم، ولات ساعة مناص. ومن أجل هذا وذاك، لم يزل النبي العظيم (صلّى الله عليه وآله) وأوصياءه البررة (عليهم السلام)، يؤكدون في أمر الصلاة فضل تأكيد، والقرآن الحكيم حث عليها في كثير من الآيات، أما اليوم وقد وهت العقيدة بالله واليوم الآخر، وضعفت الصلة بين الخالق والمخلوق، فقد ذهبت الصلاة كالأمس الدابر، وصارت كبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون، فترى الفنادق في البلاد الإسلامية في الصبح مستغرقة في نوم هادئ وعميق، لا يتنفس فيها متنفس، ولا يركع لربه فيها راكع، إلا من شذ ممن يخاف الله بالغيب، وكذلك حال الثكنات العسكرية، والمدارس التي ينام فيها النازحون عن بلادهم لتحصيل الثقافة، والقطار وسائر وسائل النقل من الطائرة والسائرة التي تمشي طيلة وقت الصلاة، فتحيط أول الوقت بآخره، والدور لا تفضل على الفنادق وأخواتها، في هذه الظاهرة، فكأنا أمة مسيلمة وسجاح، لا أمة محمد (صلّى الله عليه وآله) الذي ينزل عليه: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً، وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً)(2). و: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ..)(3). لكن العصر عصر رقي وثقافة! تبدل فيه كل شيء، فصارت الجِمال طائرة وسائرة، والسفينة باخرة، والسيف قنبلة، والشمع كهرباءً، فلتكن تبدل الآية: (لا تقم الصلاة.. ومن الليل فلا تتهجد به...، رحماء على الكفار.. أشداء بينهم.. تراهم لا يركعون.. ولا يسجدون.. ولا يبتغون.. ليس سيماهم في وجوههم من أثر السجود). فليقم علي أمير المؤمنين (عليه السلام) ويطوف في المسجد ليوقظ النائمين للصلاة وينشد، فيما يروى عنه: (خلوا سبيل المؤمن المجاهد - إلى أن قال: - ويوقظ الناس إلى المساجد)(4). إن النبي (صلّى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) ما كانوا يقتصرون على الفرائض السبع عشرة ركعة، بل يزيدون عليها نوافلها المسنونة: للصبح اثنتان، وللظهر ثمان، وللعصر ثمان، وللمغرب أربع، وللعشاء واحدة أو اثنتان، ولليل ثلاث وثمان، ثم لا يقفون عند هذا الحد أيضاً، بل يضيفون إليها صلاة النبي (صلّى الله عليه وآله) وجعفر (رضوان الله عليه)، وعلي وزوجه وابنيه، والأئمة التسعة (عليهم السلام). ثم كان يقف النبي (صلّى الله عليه وآله) في الصلاة حتى تتورم قدماه(5) فنزلت: (طه، ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى)(6) واقتدت به ابنته الصديقة (عليها السلام)(7)، وكان علي (عليه السلام) يصلي كل ليلة ألف ركعة(8)، واقتدى به ولده، حتى أن السجاد (عليه السلام) كان يقرض ثفنات مساجده كل سنة(9). فهل صلى أولئك عنهم وعنا! كما يقول المسيحيون: افتداهم عيسى (عليه السلام). حقاً صحيح ما قاله الحكيم العليم: (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ)(10) إن فريقاً من الإباحيين تركوا الصلاة بزعم أنهم أتاهم اليقين، مستدلين بقوله: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)(11) كأن الرسول (صلّى الله عليه وآله) لم يأته اليقين ولذا كان يصلي حتى آخر نفَس من حياته، وهم قد أتاهم؟! وآخرين تركوها استثقالاً، ولم يبق لها إلا الخاشعون، وهم اليوم قليلون، (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)(12). ولا يسبق إلى ذهن أحد، أني أريد حطاً من كرامة المسلمين - والعياذ بالله - لكني أريد أن أقول: إن الصلاة أهم مما نراها اليوم، فيلزم الاهتمام بشأنها في كل فندق ودار، وطائرة وقطار، ومدرسة ومدينة وثكنة وريف، (إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً)(13). |
|
1ـ إشارة إلى قوله تعالى: (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ..) سورة المؤمنون: 99-100. 2ـ سورة الإسراء: 78-79. 3ـ سورة الفتح: 29. 4ـ المناقب: ج3 ص310 فصل في مقتله (عليه السلام). 5ـ تفسير القمي: ج2 ص57، في تفسير سورة طه. 6ـ سورة طه: 1-2. 7ـ راجع بحار الأنوار: ج43 ص75 ب3 ح62. 8ـ الكافي: ج4 ص154 ح1. 9ـ بحار الأنوار: ج46 ص6 ب1 ح12. 10ـ سورة البقرة: 45. 11ـ سورة الحجر: 99. 12ـ سورة سبأ: 13. 13ـ سورة النساء: 103. |