| الفهرس | المؤلفات |
|
الوقيعة |
|
يفر غالب الناس من السبّ والوقيعة فرارهم من الأسد الغضبان، فلو عرفوا أن أحداً سبّهم، دارت بهم الأرض الفضاء، وتضطرب لذلك قلوبهم، وتتهاوى جوارحهم، وتتغير ألوانهم، ويستشيطون غضباً، فكأن القيامة قد قامت عليهم، وأن احترامهم رهن ألسن الناس، فإن ذكروهم بسوء ولو عن كبر وعناء، ذهب ريحهم، وسقطت مكانتهم في القلوب، وربما يُخيّل إلى بعضهم أنه ينظر إليه الناس، حين يمر بمنتدى، أو يجلس في مجلس، وقد يتهيئوا للانتقام، فيكيلون سباباً مقذعة، وافتراءات وسقطاً من القول، لمن مس كرامتهم، ونال منهم ما نال. إن حفظ العرض لمن أهم الأمور، وحراسة الكرامة من كبر النفس والشهامة، والغضب على من صدرت منه الوقيعة، سمة من سمات الغيرة، وخاصة من خواص صاحب الفضيلة والأخلاق، فإن من لم يبال بما قال وما قيل فيه يكون منقوص الهمة، عديم النجدة، قليل الحياء. لكن أمر مهم دعانا إلى بيانه وهو أن كل مصلح ومفسد لابد وأن تناله الألسن بما لا يحب، أما المفسد فليس من مرمى البحث في هذه الكلمة، وإنما البحث في المصلح، فنقول: كل من قام بإصلاح لابد وأن يرميه الناس بسهام الانتقاد، ويرشقوه بنبال السبّ، ويسلقوه بألسنه حداد، وينقسم النائلون منه إلى رجلين: رجل لا يقدر أن يراه يعتلي، وإن كان على بصيرة من أمره، فهو يسبّه حسداً، لعلّه يتمكن من إنزاله من منعته الرفيعة والسمو، إلى حيث مستوى نفسه، فإن من صغرت نفسه، وقلت همته، لا يتمكن أن يعلو إلى حيث علا قرينه، فيحتال حيلة لإنزال قرينه، حتى يجعله في ربقته، فهو كمن يرى صديقه على السطح، وإذ لا يتمكن من الصعود، يحتال لإنزال صديقه إلى مقره. ورجل لا يطلع على دخيلة أمره وأنه يريد الإصلاح، أو يعلم لكنه ينافي مصالحه الشخصية، أو مصالح النوع بنظره، فهو ينال منه لئلا يفسد النظام الاجتماعي، فهو كمن يزعم أن فلاناً يريد أن يقتله، فيسبق إلى قتله ليستريح منه. إن السبّ الموجّه إلى المصلح لا يخلو من أحد هذين الوجهين - في الأغلب - والنظرة الإصلاحية لا تستوحش من السب، فإن الرجل لا يقدم على الإصلاح، إلا إذا وطّن نفسه على أمور أهونها الشتم والوقيعة فيه، لكن سرعان ما ينقشع السحاب، ويجلو العمى، فيطريه الساب، ويفتخر به الشاتم، ويعظمه النائل منه، ولو كان المصلح مجهّزاً بحلم وثبات شديدين، لكان اللازم عليه أن يفرح بالسب أكثر من أن يفرح بالمدح فإن من يمدحه جميع الناس، لا قيمة له، إذ يكشف ذلك عن نفس ضعيفة تنقاد لكل أحد، وعنق ذليل يجعله الناس جسراً، يعبرون عليه إلى مقاصدهم، ومن يكون الناس في حقه فرقتان، مادح وذام، وساب ومطرٍ، هو الذي له المكانة والقدر. ولو قيل: إن الساب يحمل حجر عظمة المسبوب، لكان لهذا القول محل من الصواب، فإن العظمة يحمل أحجارها الصديق والعدو على حد سواء، فالأول يرصفها والثاني ينحتها، حتى تكون قصراً فخماً مطلاً على الأجيال، لا يزحزحه تغير الزمان، واختلاف المكان، وتشعب الأقوام، وتشتت الأفكار. وقد يكون الساب أقرب إلى تدعيم المسبوب، وتركيز جذوره، من الصديق المادح، إذ المادح متهم، بخلاف الساب، فإنه لابد له أن يذكر شيئاً من أعمال المسبوب، كي يتمهد له الطريق لسبه والقدح فيه، وكثيراً ما يكون لذكر عمله ترفيعاً له، وتثبيتاً لدعامته، مثلاً يقول: إنه صاحب قلم، لكن يصرفه في الإفساد، أو صاحب مقال، لكن يطلقه في الإضلال، أو تاجر لكنه غاش، أو عالم لكنه ممن يبيع الدين بالدنيا، أو مخترع لكنه يحب الظهور، أو مدرس لكنه معوج الذوق، أو ما أشبه. وفي هذا يكون قد أثبت له اليراع واللسان، والتجارة والثقافة والاختراع والتدريس، وغالب الناس يقبلون المدح من الذام، ويحملون ذمه على أغراض شخصية، ومنافع مادية، فتسقط وقيعته، وتتركز مدحته. وهناك أمر آخر يرجع إلى العظمة، يخدمه الذام والمادح على حد سواء، بحيث لولا الذام، لذهبت أدراج الرياح، بل ربما كانت خدمة الذام أكثر، ويرجع النصيب الأكبر فيه إليه، وهو: أن الساب الذام، لا يسكن جأشه إلا ببسط المسبة على مائدة مجالسه، وإبداء عورة المسبوب وهجنته في ممساه ومصبحه، وبذلك يستشيط المادح غضباً، فيعارضه بدحض كلامه، وإعلاء محاسن الممدوح، ويأخذ أهل الحجى من بين الأمرين صورة عظمة المنازع فيه، وبذلك يستطيل فرعه، ويكثر أنصاره، ويقوى جذره، وكثيراً ما يعظم وهو في التراب دفين، ويُحتفل له وهو عظام رميم، ويرجع أكثر الفضل في ذلك إلى الساب، فإنه لولاه لخفي مدحه، واندرست محاسنه، وانهارت عظمته. وكثيراً ما يظن الباحثون أن بقاء عظمة العظماء من عوامله أنامل الخصماء، فلولا الظلمة ما عرفت عظمة النور، ولولا الحرور لم يقدّر الظل، ولولا المرض لم تعرف نعمة الصحة، ولولا التعب ما ظهرت قيمة الراحة، ولولا نمرود، وفرعون، وقارون، وهيردوس(1)، وذي بلاطس، وأبو جهل، وأبو لهب، ومعاوية، ويزيد، لم يكن يظهر لنا بعض السجايا الكريمة، والأخلاق الفاضلة والحلم في قبال الطيش، والعلم في قبال الجهل، والعفو في قبال القسوة، والإحسان في قبال الشدة، والعدالة في قبال الظلم، والزهد في قبال التكالب، وما أشبه، التي برزت من إبراهيم وموسى، ومحمد وعيسى، وعلي والحسن والحسين (عليهم أفضل التحية وأزكى السلام)، وليس هذا الظن بكثير بعيد عن الصواب، فإن أبا سفيان كان يؤلب، ولما ملك النبي (صلّى الله عليه وآله) أطلق، والذوق يرى ازدياد الجميل جمالاً، إذا قابله القبيح البشع. وربما يكون الساب الذام، من أقوى الأسباب لهدم كيان نفسه، بنحو لا يقدر عليه المذموم لو أراد، فإنه بالذم يبدي دخيلة نفسه، وقبح ما انطوى عليه قلبه، وخباثة جبلته، وقذارة طينته، مثلاً لو لم يكن زوج آكلة الأكباد، ينتقص النبي (صلّى الله عليه وآله) ويناله بلسانه وبنانه، لانغمر في مجاهل التاريخ، وكان كسائر من لم يسطر له القلم ذكراً من البعداء عن الإنسانية، لكنه بعمله هذا نصب نفسه مسبة الأجيال، وكشف سوءته لدى الأمم والأعقاب، ولو لم يخبر النبي (صلّى الله عليه وآله) عن دخيلة فؤاده، وغل صدره، لآمنا بذلك تعبداً وإذعاناً، لا رؤية وعياناً. |
|
1- هيرودس ملك اليهودية في ظل الرومان، أمر قبيل وفاته بذبح جميع أطفال بيت لحم في محاولة لقتل الطفل يسوع. |