الفهرس

فهرس المجموعة الرابعة

المؤلفات

 الثقافة الإسلامية

الصفحة الرئيسية

 

الجِدّ

الحياة نفق مظلم، تنيره الأعمال، ومسرب يقطعه الجِدّ، فكما أن الواقف في مكانه، لا يتمتع بالتفرج في البلدان، ولا بكسب الأصدقاء والخلان، وكما أن العاطل لا يتهيأ له العيش الهنيء والمهاد الوثير، كذلك من لا يجدّ لا يتنعم بخير، ولا يتلذذ ببقاء، الجد كالشجرة النابتة، التي لا تلبث حتى يخضر ورقها، ويُشهي ثمرها، مهما كان نوع الورق والثمر وصنف النبت والشجر، والكسول كالحجر الملقى في الصحراء، لا يستظل به ولا ينتفع منه.

من نظر إلى البلدان نظر معتبر رأى آثار الجد بادية عليها، فمن شوارع معبدة بالقار، وأرصفة مبلطة بالرخام، ودور مبنية من الآجر والحديد، ملونة بالألوان، مبوبة بألواح الخشب، وسائرة تسير، وطائرة تطير، وباخرة تمخر الماء مخراً، وقطار يسير سيراً، إلى غيرها مما لا يحصيها المحصون، ولا يعدها العادون، كل هذه آثار الجد، وسمات الجهد، وعلامات العمل، فمن لا يجد ولا يعمل، كان كلاًّ على الحياة، يلفظه القريب، ويشمئزّ منه البعيد.

إن العمل والجد وإن كانا يكدران الحياة بعض التكدير، فإنهما يتعبان الأعصاب، وينهكان الجسم، وينبيان منصلت الفكر، إلا أنه لو بطلا عاد الناس وحوشاً، وآل نظام الاجتماع إلى تبدد، وإن المرء يقاس بفكره وجده وعمله، أكثر مما يقاس بثروته ونسبه وجاهه، ولذا نرى التاريخ يحيط الكاد العامل من الملوك بهالة من الاحترام دون الكسول العاطل منهم، ويشق المفكر المخترع الصف الأول في الصفحات، بينما غيره قد لا يحظى بذكر اسمه في آخر ديوان التاريخ.

إن العلو في الحياة، والعلو في الممات، والشرف في الدنيا، والشرف في الأخرى، يناط بالجد، وهو كالمرقاة كلما اعتلى الشخص درجة منها ازدادت رفعة ورقياً، مثلاً: من كتب كتاباً ينتفع منه المجتمع، فهو أرقى ممن لم يكتب، ومن كتب كتابين كان أرقى ممن كتب كتاباً واحداً، ومن اخترع أمراً، فهو أرقى ممن لم يخترع، ومن كشف سرّين من أسرار الحياة، فهو أرقى ممن اكتشف أمراً، ومن زرع حقلاً، كان أرقى ممن لم يزرع، ومن زرع حقلين كان أرقى ممن زرع حقلاً، وهلم جراً..

والكبار الذين يحفظهم التاريخ في جو من العظمة، ليسوا إلا أفراداً عاديين جدوا واجتهدوا، حتى بزغت شمسهم، وساعدهم التوفيق، فغلبوا على ما قصدوا، وإذا بهم يذكرون في صف العظماء، وكثيراً ما يكون محتدهم غير نابه، وأصلهم غير متألق، ولو نظر الإنسان في أنساب الكبار، لرأى أن أحدهم نشأ في بيت عامل، وثانيهم ترعرع في كوخ زارع، وثالثهم يفع في مصعد جبل، ورابعهم شب في منقطع رمل، وخامسهم كبر في خباء بادية، وهكذا، فإن كثيراً من مخصبي الأراضي مجدبي الفكر والعمل، وكثيراً من مجدبي الأراضي مخصبي الفكر والعمل.

ثم أن للنبوغ والعظمة غير الجد شرطاً آخر، وهو علو الهمة، وارتفاع النظر، وبعد الفكر، وإلا فالكناس وإن اجتهد في كنس الشوارع والأزقة، وصرف على ذلك بياض نهاره، أو سواد ليله، فإنه لا يتقدم نحو المعالي ولو قدر عقدة إصبع، (فإن المرء يطير بهمته، كما يطير الطائر بجناحيه)(1)، فهذان شرطان لا يجتمعان فيمن كان رائده التوفيق، إلا نبغ وازدهر نجمه، وارتفع حظه.

وقد ينظر الناظر إلى نابغة من النوابغ، فيحسده في علوه ذاك، وبقاء نفسه في الحضيض، أو يتعجب من دوران الفلك بسعده، دون نفسه، لكن الأمر ليس كذلك، فلينظر إلى جده في النهار، وسهره في الليل، وحركته في الحر والقر، ودؤبه على العمل، ثم يتوجه نحو نفسه كي يرى بطالته نهاراً، ونومه ليلاً، وتكاسله عن العمل، وخفته في كل حل ومرتحل.

وقد نقل لي أحد رجال الدين، أنه ربما كان في أيام شبابه يقطع ليله مطالعة وبحثاً، إلا قدر ساعتين، بينما كان رفاقه في منتزه يلعبون، أو في سفر يمرحون، أو في جلسة أنسية، أو ملذة عائلية، ثم رأيتهم جميعاً الكاد والعاطل في أبان شيخوختهم، فكان الكاد الذي حكى لي الحكاية، مرجعاً مرموقاً، وملاذاً مكرماً، حيث كان رفاقه أولئك في خمول وخسران، وسقوط وهوان.

وحدثت عن أحد المخترعين الكبار، أنه ربما كان في غرفة اختباره أسبوعاً كاملاً، لا يأكل إلا قدر ما يقوم صلبه، ولا ينام إلا مضمضة، حتى ظفر بمطلوبه، ونال ما أراد.

فالجد والظفر توأمان.. والبطالة والحرمان شقيقان..

فمن جد ظفر، ومن كسل حرم..

وليس للجد غاية وللعمل نهاية، فكلما كان الاجتهاد أكثر كان المطلوب أكبر، وحينما كان العمل أدوم كانت النتيجة أقوم.

والجد والكسالة حالتان وقودهما الفكر، فمن أطلق عنان نفسه ولم يفكر في ماضيه ومستقبله، آل أمره إلى الكسل والبطالة، ومن اضطر نفسه إلى العمل، ورفض الكسل فاز بالمراد..

فإن من جد وجد.. ومن اجتهد رشد.. ومن لج ولج.. ومن شج عرج.

1- راجع بحار الأنوار: ج18 ص380 ب3 ح86. والمناقب: ج1 ص177.