الفهرس

فهرس المجموعة السادسة

المؤلفات

 الثقافة الإسلامية

الصفحة الرئيسية

 

الدارسة

ذهب اليوم الذي كان السيف الآلة الوحيدة في ميادين الجهاد، وانقضى اليوم الذي كانت الخيل والبغال والحمير أسباب النقل إلى مشارق الأرض ومغاربها، وانحسرت الأزمنة التي كان يكتفي العالم فيه أن يعرف بعض قواعد النحو والصرف، والبيان والأصول والمنطق، وزمرة من المسائل الفقهية، مضى كل ذلك كمضي الأمس الدابر، ولكل زمان شيء ولكل شيء زمان.

إن من يريد أن يقاوم العدو في هذه الدورة، لابد وأن يتسلح بالمدافع والطائرات، والقنابل والباخرات، وكذلك من يريد العلم والتبليغ لابد وأن يصلح منهج دراسته، ويُقوّم معوجّ بحوثه، ويلمّ شعث معلومه، فلابد أن يقسّم وقته القصير الذي لا يزيد على أربعين سنة مهما طال إلى قسمين: قسم للعلم الأسبق بأدبه وآدابه، وقسم للعلم الحديث بفصوله وأبوابه، ويقتنع في منهج القسم الأول، بشيء من قواعد النحو والصرف واللغة والبيان، ويصرف الأكثر من وقته في التطبيق على اللسان واليراع حتى يعرف القاعدة، ويتمكن من تطبيقها، وليعتبر أمر معرفة القواعد عرضياً، وأمر التطبيق ذاتياً، فإن القواعد ما وضعت إلا للتطبيق، فلو كان في ذلك كالمعري وأبي الطيب لم يضره عدم معرفة القواعد، كما أنه لو انتفع بعلمه وعرف القواعد، لم يفده ذلك.

وبعد هذا فليصرف شطراً آخر من عمره في معرفة المنطق والسفسطة معرفة تؤدي إلى التمكن والتطبيق، وتمييز فاسد القضايا من صحيحها، لا عرفان المختلطات والمشتبهات والمتخيلات.

ثم ليبتدئ بالكلام ومعرفة الدين الصحيح بالعقل والنقل، ويهتم أثناء ذلك بمعرفة المذاهب والأديان، أكثر من اهتمام القدماء بعرفان الوجود والعدم، والحال والمحل، وبعد ما توفر لديه مقدار كاف من ذلك، فليشرع في أصول الفقه على قدر الحاجة والاهتداء إلى مواقع الصواب والخطأ، لا القدر المستغرق للعمر، بل الأعمار، وبعد ذلك يكبّ على معرفة الكتاب الحكيم وتفسيره، بما يدل على معالم الظواهر، مستعيناً في ذلك بما ورد عن النبي (صلّى الله عليه وآله) والعترة الهادين، لا ما احتمله رجال مما لم يدل عليه دليل، وليس له من الظاهر سبيل، والذي ارتأي:

أن نهج بلاغة الإمام (عليه السلام)، مما يجب أن يدرج في هذا المقام، فإنه معين على فهم أصول الدين والأخلاق، ومعرفة التاريخ الإسلامي والجاهلي، وبعد هذا وذاك، فهو منهل نمير لاستقاء القلم واللسان، وتمرين لقواعد النحو والصرف والبيان.

وليجعل في جنب القرآن الحكيم والكتاب الكريم، دراسة الأخلاق السامية، وتمرين التخلّق بها، ومطالعة الأحاديث المروية مع لحاظ درايتها، حتى يصبح حين ما يدخل في الاستنباط، غزير المادة، جمّ الفقه، قوي الفهم، مطّلعاً على الأساليب الكلامية، فلا يأخذه الطير، أو تهوى به الريح في مكان سحيق.

ولما يتم هذه الأمور، كلاًّ بقدر الوقت والاقتصاد، لا الإسهاب والامتداد، فليشرع في بحر الفقه الموّاج، دخولاً متوسطاً حتى لا يبقى على الجرف، ولا يأخذه الموج إلى محل الغرق، فلا وقتاً أبقى، ولا معرفة حصّل، كما قد يأخذ الأوحدي، بل الأكثري - في هذه الأزمنة - ذلك، فتراه لا يقطع من أربعين كتاباً من كتب الفقه، إلا المكاسب والطهارة، والحج والنكاح، وقد احترقت فحمة عمره، وأذنت قواه بالضعف.

إن أقوال العلماء لا تتم، ودائرة التحقيق والتدقيق لا تزداد إلا اتساعاً، ولذا يرى الرائي أن من كتب في هذا الميدان الفسيح، لم يزد على ربع الفقه على الأكثر - إلا من شذ وندر - هذا منهج علم الدين بمقدماته.

وأما القسم الثاني من العلم، وهو الذي اتسع موجه في هذا العصر، حتى شمل كل قروي وبدوي، وإن كان في السابق له حظ من الوجود أيضاً، فمنهج درسه أن يقرأ شيئاً من الحساب، يعينه على التمكن من الضرب والجمع، والطرح والتقسيم وما إليها، إلى أن يصل إلى الكسور الاعتيادية والعشرية.

وأما مسائل الجبر والمقابلة فهي لمن أراد أن يكون محاسباً فاضلاً، لا من أراد أن يصير عالماً جامعاً..

وشيئاً من الهندسة، بما يتبلّغ به لمعرفة المثلث والمربع، والدائرة والقطاع، ليعرف مساحة الدور والأحواض، ويدرك البوصلة ونحوها، وشيئاً من علم الفلك قديمه المختصر، وحديثه المستطر، ليعرف القبلة بما كتبها القدماء، والمقاييس المتداولة فعلاً على ألسنة الأدباء.. وشيئاً من الجغرافيا والتاريخ، فإن هذين العلمين قد أصبحا اليوم ضروريين لا مناص عنهما للأديب والفقيه، والكبير والصغير.

ولو تطرق إلى الفيزياء والكيمياء وما إليهما بمقدار يعرف شيئاً من ضوئه الذي يستضيء به، ومروحته التي تحرك له الهواء، وسائرته وقطاره وطائرته ومداره، وميزان الحرارة والبرودة والمكواة، والمكبرة والهاتف والمذياع واللاسلكي والفوتوغراف والمضخات، لكان أكثر معرفة وأوسع إطلاعاً، كما أنه لو تطرق إلى علم النبات وتشريح الإنسان، وبعض الطب وعجائب تركيب الحيوان، ازداد علماً بإله السماء، وكثرت قيمته لدى الأقرباء والبعداء، فإن قيمة كل امرئ ما يحسن، وارتفاع الفلز بحسن جوهر المعدن.

والأجود أن يحفظ في كل علم مختصراً، ويكتب في كل فن أسطراً، حتى يكون كالمكتب السيار، ويبقى ما بقي الليل والنهار، وقد كان علماء المسلمين يتبعون هذه الطريقة في كل وقت وزمان، تبعاً لنبيهم (صلّى الله عليه وآله) حيث كان يعلم ما يكون وما كان، بوحي من الله المنان.

إن العالم هو المرجع الديني، الأدبي، الاجتماعي، السياسي، التأريخي، الفلسفي، وقد يريد الناس من العالم علم التعبير، والرمل والجفر والتفسير، فكيف يمكن أن يقتنع بضفيرة من الفقه، وليس هذا الكلام منا بعجب، فإن من لاحظ سيرة النبي والأئمة (صلوات الباري عليهم)، لرأى الرجوع إليهم في كل صغير وكبير، وجليل وحقير.

وقد بقيت علوم لم نذكرها، كالتجويد والعروض والقراءات، لكن بعضها أشبه بالزوائد، وإن كان في الاغتراف منها فوائد.

وليعلم أن ما ذكر من العلوم والمعارف، يحتاج اكتسابها إلى جد واجتهاد، وتشمر عن ساعد الجهود، فلا تغرب شمس نهاره إلا مكبّاً على الدرس باحثاً، ولا يشيب شعر ليله إلا مطالعاً فاحصاً، فإن العلم كما يقال عن لسانه يقول:

(أعطني كُلك، أعطك بعضي).

وليصرف همّته إلى معالي العلوم ولبابها، ومجامع المعارف وعبابها، فإن العلم سبيله سبيل ما سواه من الموجودات، اشتمل على الغث والسمين، والحسن والأحسن، وجوامع الكلم، وأطراف الحكم، فليأخذ السمين الأحسن، الذي يفتح منه أبواب، وليترك الغث الذي ثمنه أقل من العمر المصروف من أجله، والله ولي التوفيق.