| الفهرس | المؤلفات |
|
التربية والمحيط |
|
أمران لهما كمال التأثير المباشر بحياة الكائن الحي، مهما كان من نبات وحيوان وإنسان، هما: التربية والمحيط. إن النبات ينجم في المستنقعات التي لا تشرق عليها الشمس، فيكون أصفراً ضعيفاً بدون بهجة ورواء، ونضارة ورونق، وهذا النبات بعينه، ينبت في التربة الصالحة، لا شرقياً فيعدم أشعة الشمس عند مغيبها، ولا غربياً فلا يرى مطلع الشمس فيخضر بهيجاً، يًلفت النظر، ويستهوي القلب، وهذا الاختلاف نشأ عن تبدل المحيط، كما أن كلاً من القسمين لو هُيئت لهما العناية الكافية والتربية الصحيحة، كان الفرق بين ما ربي، وما لم يربُ، كالفرق بين النابت في هذا المحيط، من النابت في ذاك المحيط. وكذلك الحيوان، فالذي ينشأ في موضع مناسب لقوامه، وكان تحت تأثير مربٍّ عارف، يفرق عن الذي ينشأ في محل لا يناسبه، أو لم يهتم أحد بتربيته، وهذا أمر ملموس لا يختلف فيه اثنان. الإنسان، وهو أحد الموجودات الحية، لا يختلف في هذه الظاهرة عن أخويه: النبات والحيوان، بل ربما كان تأثير التربية والمحيط فيه أكثر وأكثر، إن البياض والسواد، والحمرة والصفرة في أفراد الإنسان ناجمة عن اختلاف المحيطات، فمن كان أقرب إلى المحور كان أكثر سواداً، ومن كان أبعد كان أكثر بياضاً، وما بينهما الحمرة والصفرة. فيؤثر المحيط في اللون والشكل، والأخلاق، والأمزجة، كما يؤثر في الطول والقصر، والحسن والقبح، والصحة والمرض، والذكاء والبلادة، وما إليها.. وكذا للتربية أهمية كبرى من ناحية الأخلاق وما يمتّ إليها بصلة، وإن كان تأثيرها في اللون والشكل أقل من تأثير المحيط، لو ربى الصغير من فاتحة عمره بحب الخير، لأحبه.. ولو علم حب الشر، لأحبه.. فإن الصغير كالشمع يتشكّل بكل شكل، ويتطبّع بكل طبع، ويرجع إلى ذلك غالب التقاليد الدينية التي ما تزال حلقتها متصلة من الأجداد إلى الآباء، ومنهم إلى الأبناء، ومنهم إلى الأحفاد وهكذا.، حتى يقطعها قاطع، ويفرق بين حلقاتها مفرّق، ولذا نرى أبناء الطبيعيين يعتقدون بالطبيعة، والإباحيين يؤمنون بالإباحية، وكل من أبناء اليهود والنصارى والمسلمين، يتبعون آباءهم، بالرغم من صياح العقل بحرمة التقليد في مثل هذه العقائد. ومثل التقاليد الدينية، تقاليد العادات، فلو جرت عادة جماعة بجعل التحية رفع اليد إلى الصدغ، تبعهم أولادهم، وكذلك لو جرت برفع القبعة، أو السلام، أو قول صباح الخير، إلى غير ذلك، فالتربية كالحجر الأساسي لبناء مستقبل العمر، فمن علمه أبواه ومعلمه ومحيطه على الصدق صدق، وعلى الكذب كذب، وعلى الأمانة صار أميناً، وعلى الخيانة صار خائناً، وعلى العدالة عدل، وعلى الظلم ظلم. إلى غير هذه من فضائل الأخلاق ورذائلها، ومحاسن الصفات ومساوئها، وصالح الأعمال وفاسدها وخير الأمور وشرها، وطيّب الأقوال وخبيثها. ومن الأمثلة الرائعة لدعم المطلب، ما يحكى عن عمر بن عبد العزيز الخليفة المرواني، حيث سئل عن السبب الذي منع من أجله سبّ علي أمير المؤمنين (عليه السلام) مع أن الناس في تلك العصور كانوا يتناولونه من جرّاء دعايات الأمويين، حتى أصبح من التقاليد الموروثة لدى الأغلبية الساحقة - إلا من عصمه الله - فأجاب بأن العلة في ذلك أمرين: الأول: أنهم حين كانوا أطفالاً عند المعلم يقرأون القرآن وسائر الدروس، جرت عادتهم على سبه (عليه السلام) في المكتب، ثم أنه اطلع أستاذه على ابن عبد العزيز يوماً وهو ينال من علي (عليه السلام) فلما خلا المكان، قال له المعلم: هل بلغك أن الله تعالى رضي عن أهل بدر؟ قال: نعم، قال: وهل لك ما يدل على أنه غضب بعد ذلك عليهم؟ قال: لا، قال: فلم تسب من علمت رضي الله عنه، ولم تعلم سخطه عليه؟ قال عمر: قلت له: وهل كان علي (عليه السلام) حاضراً في بدر؟ قال المعلم: وهل خمدت نار تلك الحرب إلا بسيفه؟! قال عمر: فرجعت إلى نفسي، وعجبت من أمري وأمر أقربائي والمسلمين! كيف يُسبّ مثل هذا الشخص؟ وكيف لا يمنع عن ذلك أحد؟ إن ذلك أمر عجاب!!! الثاني: أنه كان والدي خطيباً مفوّهاً، يخطب كالليث، ثم أنه التفت إليه يوماً وهو يخطب، فلما أتمّ خطبته وأراد أن يسب علياً (عليه السلام) كما هو مرسوم الخطباء في أيامه، رأيته كأن مانعاً يمنعه عن ذلك، ويتلجلج، وكأنه يقلع الكلام عن لسانه قلعاً، فقلت في نفسي: لعله عرض له عارض ثم أني جرّبته بعد ذلك، فرأيته كذلك يكون في جميع خطبه، فهو يخطب كالسيل الجارف، فلما يصل الدور إلى سب الإمام (عليه السلام) يجمجم ويطمطم، ويتلجلج لسانه، فتعجبت من هذا الأمر غاية العجب، وقلت: لابد وأن يكون لهذا الأمر سر خفي يكتمه عني! وصرت في صدد الاستفسار، فسألته يوماً عن السبب؟ فرأيته يخفي عني، ولا يبوح بما في ضلوعه، فأصررت عليه إصراراً، حتى أخذ مني العهود والمواثيق، بأن لا أُبدي الأمر لأحد، وبعد ما اطمأن من دخيلة أمري، قال: إن سبي لهذا الشخص بدافع الراتب الذي أتقاضاه من الخليفة، وبحافز الإبقاء على مقامي ومنصبي، وإلا فإن الإمام (عليه السلام) من خلفاء رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وهو ممن يلزم أن يمدح ويعظم، لا أن يُسب ويهان. هذان هما الأمران اللذان سببا منعي من سب الإمام (عليه السلام)، وكنت قد نويت من ذلك الحين: أني لو تمكنت من المنع، لأمنع في أول أزمنة الإمكان، ولو اقتضى منعه كل غال وثمين. وقد احتال لمنع السب حيلة ظريفة، ذكرتها كتب التاريخ والسير، وليس مما يهمنا هذه الكلمة، وإنما المقصد ذكر مثال يبيّن شدة صلة التربية بالعمل، فمن أحب أن يرى الخير في أولاده، فليربّهم تربية صحيحة، تقرّ بهم عينه، ويثلج بهم صدره، وكل دولة تحب خير الشعوب، كان عليها أن تكنفهم تحت تربية فضيلة وأخلاق، ودين وعلم وأدب وثقافة. |