الفهرس

فهرس المجموعة السابعة

المؤلفات

 الثقافة الإسلامية

الصفحة الرئيسية

 

القول والعمل

القول منجم العمل ومصدره، ومبدأه ومظهره، فلولا القول لم يقم للعمل قائم، ولا كان له أساس ودعائم، ونسبة القول إلى العمل، كنسبة البخار إلى المطر، فلولا صغار الأمواه الصاعدة، لم يكن للسحب وجود، ولا الوابل بموجود.

وقد يخطئ القائل: إن الأثر في العمل وحده، وإن القول نازح عن النتيجة، لا علاقة بينه وبينها.

ولو شئت قلت: إن الكلام كالبذرة، والعمل كالشجرة الباسقة، فلولا البذرة لم تكن شجرة، ولولا الشجرة لم توجد ثمرة، والذي يقول: فلان رجل القول لا رجل العمل، وإن كان بمكانة من الصواب، إلا أن القول لا يمكن إخراجه عن إطار العمل بالكل، فإن إطار العمل يضم الفكر والقول والعمل، والنتيجة تترتب على جميعها، إلا أن صدورها عن العمل بالمباشرة، بخلاف القول.. فإنه أبعد بمرتبة، والفكر فإنه أبعد بمرتبتين.

ولولا رجال القول، لم يتكون رجال العمل، كما أنه لولا رجال الفكر لم يتكون رجال القول. فكر، فقول، فعمل، فنتيجة.

ويشهد لذلك اهتمام كل من الأندية الدينية، والدعاية الحكومية، بالقول اهتماماً بليغاً، فإن المذياع والصحف والكتب والمجلات وما أشبه، كلها قول وشبه قول، أليست خطب الخطباء، وألسنة الشعراء، وعظة الوعاظ كلها قول، وتترتب على كلها النتائج الناجمة عن الأعمال؟

أليست العقوبات قد وضع شطر كبير منها على الأقوال؟ والمثوبات قد جعل قسط سخي منها على الكلام؟ ولو لم يكن للقول أثر - كما يزعم الزاعم - فما تلك وهذه؟!

أنا أؤمن بالقول إيماني بالعمل، وأؤمن بالفكر إيماني بالقول والعمل، ولو نظرت إلى العالم نظرة معتبر، لرأيت الشرائع، والحكومات الفعلية والسابقة كلها مبنية على أساس من القول.

فبوذا(1) لم يكن بدء أمره إلا رجلاً يدعو إلى مبدأه بالكلام فحسب، ثم قوي حتى صارت من الشرائع، ويسود فعلاً على خمس أهل العالم.

وموسى (عليه السلام)، كان يدعو بلسان ثم قوي حتى حطم كيان ملك عظيم.

وعيسى (عليه السلام)، بنى شريعته على القول، فكان يدعو بدون عدد وعُدد، ثم انتشر دينه، حتى ساد في العالم الحاضر على أكثر من ربع أهل العالم.

ومحمد (صلّى الله عليه وآله) كانت شريعته مبنية على القول، فكان يدعو في مكة المكرمة باللسان فحسب، وبعدما اكتمل له الناصر جاهد مدافعاً، ويعتنق دينه اليوم أكثر من ربع أهل العالم.

و(جمال الدين الأفغاني) لم يكن بأزيد من داعية بالقول، ولم يكن له سلاح إلا اللسان، وقد ذكر (عباس محمود العقاد) الكاتب المصري المعاصر، وغيره: أنه هو مبدأ حركات مصر وإيران والهند، مع العلم أن هذه الأماكن تضم بين جوانحها ما يقرب من خمس أهل العالم. إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة.

لا أقول: إن القول ناجح مائة في المائة، بل أقول: له الحظ الوافر في بناء أمر وهدم آخر، وتأسيس دولة، وإبادة دولة، وتشييد دين سماوي كأديان الأنبياء الثلاثة (عليهم الصلاة والسلام) أو طريقة بدعية كما هي كثيرة في مشارق الأرض ومغاربها.

فيتكلم المتكلمون، ويقول القائلون، إن أرادوا رشداً، ولكن يلزم على المتكلم رعاية شرط إن أراد التأثير القريب، وهو أن يكون بليغاً، بمعنى إلقاء الكلام بمناسبة الظروف، على ما يرتضيه المصغون، فلا يكون الكلام نابياً عن المسامع، بعيداً عن المدارك، واقعاً في غير موقعه، فإنه ربما تنعكس النتيجة، وينقلب المرمى، ويكون عليه لا له.

وأما العمل فهو العلة المباشرة للتأثير، لكن القائم به قليل، بل أقل من القليل، ولذا تكون النسبة بين القائل والعامل، نسبة الواحد إلى الألف أو نحوها.

1- غوتاما بوذا (563-483 ق م) فيلسوف هندي، مؤسس الديانة البوذية، ولد في أسرة نبلية على الحدود الحالية بين الهند والنيبال.