| الفهرس | المؤلفات |
|
الحياة منخل |
|
صدر التاريخ أضيق من أن يشتمل على كل حادث وكل تافه، وأوراق الكتاب أضن من أن يرقم فيها كل أمر جلّ أو دقّ، وأعين الناظرين وآذان السامعين وأفئدة الوعاة وألسنة الناطقين أقصر من أن تحتوي كل شيء صغر أو كبر. إن المدارك والمشاعر فطرت محدودة، لا تكفي لكل ما يحتويه الكون. فإن للكون دفتراً رحباً، وفضاءً وسيعاً، طويلاً عريضاً، يمتد في بعده الطولي من أول خلقة العالم إلى انقضائه، وفي بعده العرضي الكرة الأرضية بسطحها وجسمها، بل الفضاء الوسيع المهول، الذي قدرت سعة مجرة من مجراته وهي مجرتنا التي هي واحدة من بين المجرات والسدم، بأن مسيرة قطرها قدر سير الضوء مليوناً من الأعوام، وكيف يسع بصر تحجبه إبرة، وأذن تسدها صمة، وفم تمنعه شكيمة، وفؤاد هذه المشاعر طرائقها، الأرض والسماء، والبر والماء، والتاريخ ليس إلا أثراً من آثار هذه الحواس، فلا يضم على أكثر مما تضم هذه المشاعر. الحياة منخل يبقي السهمين، ويطرح الغش، وهو ذو أطباق، فطبقة لا تبقي إلا الأندر من الأمور المهمة وهي ما تعمّ الكل أو الأغلبية الساحقة، ومن أمثلة ذلك عظام المرسلين، وكبار المصلحين، وأمثالهم، ومع ذلك فربما تضن القلوب عن معرفتهم، مثلاً: بوذا، مع العلم أنه يتمتع في هذا العصر بخمسمائة مليون من التابعين، لا يعرف اسمه - فضلاً عن سائر ما يتعلق به - في الشرق الأوسط، إلا القليل من الباحثين، والنبي محمد (صلّى الله عليه وآله) مع ما ملأ الدنيا صوته، وتابعوه، حتى أحصوا في هذه الأيام بما يقرب ستمائة مليون(1) لم يسمع باسمه كثير من أهالي ألمانيا، كما حدثني بذلك بعض البعثات العلمية. مع أن الغالب في هذه الأيام غزارة الاطلاع والثقافة العمومية.. وطبقة تبقي المتوسطين من ذوي المراتب والكبرياء، فهم يتمتعون بمعرفة صقع خاص، أو مدينة خاصة أو ما إليها.. وطبقة تبقي الصغار من النابهين والنوابغ، وهذه هي الباقية، وأما ما عداها فطعمة الفناء والانزواء. إن الرجل بالعمل يبقى وبالعمل يفنى، وبالعمل يكبر وبالعمل يصغر، والعمل إنما هو بالهمة، فمن علت همته كثر عمله وذاع كبره، ومن سفهت همته استسلم لصغائر الأمور وتوافهها، فلا يقوم له قائم، ولا يحلق طيره في سماء الكرامة والمجد والعظمة، وقد ورد: (يطير المرء بهمته، كما يطير الطائر بجناحيه) و(من رام شيئاً، أدركه أو بعضه). فليكن هم الإنسان بعيداً، وعلمه عظيماً، وسعيه حثيثاً.. إن أراد البقاء، بقاءً للاقتداء لا للكبر والبهاء، يقول القرآن: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً)(2). |
|
1ـ سبق أن آخر إحصائية لنفوس المسلمين بلغ المليارين، عام 2000م. 2ـ سورة الفرقان: 74. |