| الفهرس | المؤلفات |
|
الصراحة |
|
يلوي كثير من الناس وجه كلامه حتى اليومي منه، فإذا سئل عن شيء؟ أجاب عن آخر، ويريد أن يقول ما في قرارة نفسه، فيقوله غامضاً، ويحب أن يسأل عن أمر، فلا يصرح بمصب النظر، بل يطرفه ويجمجم، ويستشهد لأمر فيؤدي، ويستفهم عن كلام؟ فيطمطم.. ووجه فعله، فيفعل هنا شيئاً وهناك آخر، ويقوم هذا اليوم بعمل، وغداً بعمل آخر، ويظهر عملاً ويبطن عملاً آخر، ويرائي شيئاً لا يطابق الواقع، ويفعل شيئاً ثم يخفيه.. ووجه درسه، فيقرأ كتاباً فلا يبديه، ويبدي ما لا يقرأه، ويضع نفسه في موضع عالم، وليس هناك، ويرفع نفسه عن مقام علمي وهو هناك.. ووجه نظره، فينظر إلى مستملح، ثم يظهر أنه نظر إلى السقف وينظر في كتاب وهو ذاهل، ليخفي بلابل نفسه، وهواجس صدره، ولا ينظر إلى شيء وهو يظهر أنه ينظر فيه.. وهكذا يلوي رضاه وغضبه، وغناه وفقره، ونعيمه وبؤسه، ورفعته وصفته، وأهله وماله وولده، ونومه ويقظته، وصحته ومرضه، إلى غير ذلك.. ولو سأل عنه سائل: ما يقصد من هذا الالتواء؟ وأي شي يعود إليه؟ رآه لا يتحرى جواباً، ولا يهتدي هو بنفسه سبيلاً إلى علة ذلك، ولو قرن عمله الملتوي بعمل غيره ممن يمشي سوياً وهو على صراط مستقيم، لم يوجد فرق بينهما، من حيث النتائج، فهذا يعيش في رفاه أو ضنك، وذاك يعيش كذلك، فإن الضيق والسعة لا يعللان بالالتواء والاستقامة. نعم هناك فرق يلمسه كل لامس، ويحسّه كل شاعر، هو أن الوثوق والاعتماد يقلان بالنسبة إلى الأول دون الثاني، فترى الناس يركنون إلى قول من يستوي سبيله، ويستقيم قوله، فإن حدث اطمأنوا بصدقه، وإن وعد لم يشكوا في وفاه، وإن نقل علموا مطابقة كلامه للحقيقة، وإن أبى يئسوا منه.. ويهتدون بعمل من استقام عمله، فإن كان مهندساً وثقوا بخرائطه، وإن كان طبيباً تيقنوا إخلاصه في الفحص وتشخيص الداء والدواء، وإن كان حاكماً رأوا صوابه في القضاء والحكم، وإن كان تاجراً سكنوا إلى بيعه وشرائه.. ويسكنون إلى أحواله الأخر، فإن رأوا الرضا في وجهه عرفوا دخيلة قلبه، وإن بدت الغضبة على ملامحه تفرسوا ما في فؤاده، وإن أقبل توسموا ودّه، وإن أدبر تفرّسوا عداه. وجملة القول: إن الرجل الصريح يؤمن شره، ويعرف أمره، ويرى دخيلته، ويكشف ما ضمّت عليه جوانحه، وانطوى عليه ضميره، فالناس منه في راحة!! وليس الكذب، والغش، والغدر، والخيانة، والرياء، وما إليها.. إلا أغصان شجرة الالتواء وعدم الصراحة، فإن الصريح يصدق لأنه مطابق لما عنده، وينصح لأنه ما يراه، ويفي لأنه مسلكه، ولا يخون لأنه دأبه، ويخلص لأنه ديدنه، وهكذا كثير من الصفات الذميمة الناجمة عن الالتواء. وليس بين الصراحة والالتواء، إلا الملكة الراسخة في النفس، وتحمل بعض مشاكل الصراحة بادئ ذي بدء، فإن الصريح يصرح حتى تعلق الصراحة بنفسه، فتجري على لسانه وعينه، ويده ورجله، وذهابه ورجوعه، وكل حركة وسكون يصدران منه، فيعرفه الناس بالصدق، والأمانة، والإخلاص، والنصاحة وما إليها، وتكون حالة الصراحة عنده، كحالة الالتواء عند من اعتاده، لا فرق بينهما إلا أن ذاك صريح وهذا غامض ملتو. وليعلم أن هناك شيء آخر لا يسمى صراحة ولا غموضاً، وهو الفرار عن المأزق بما يتجافى عن الصراحة، ولا يلتحق بالغموض، وهذا هو الوسط بينهما الذي ربما كان أفضل من الصراحة، فمن سأل الإنسان عن حبه له؟ وهو لا يحبه، لا تجبره الصراحة بقوله الحقيقة، حتى يجر إليه العداء، فإنه يكفي لذلك الخروج عن الموضوع، أو السكوت عنه مهما وجد سبيلاً، ولا شك أن الصراحة التامة مهما لم يكلف أمرها شيئاً أضر من الالتواء أفضل، وهذا حديث آخر غير حديث الالتواء الذي يعلق بالقلب، فتظهر آثاره من المشاعر عفواً، بلا فكر ولا تلجلج. يقال: إن رجلاً غضب عليه سلطان زمانه، فأراد قتله، فلم يجد الرجل بداً من الاختفاء، كي لا يصيبه مكروه، ولا يقع في مخالب الملك الدامية، وكلما عقب الملك لم يظفر ببغيته، لأنه كان أخفى من أن يناله حاشية الملك وجواسيسه، ومضت على ذلك مدة سنتين، والملك لا يزداد في طلبه إلا إصراراً، والفتى لا يزداد إلا اختفاءً وتستراً، ثم أن في أحد الأيام قال رجل للملك: إن للفتى المطلوب أباً صدوقاً، لم يكذب ولا يكذب قط، فإن رأيت أن تحضره، وتسأله عن أمر فتاه، فإن علم مكانه لم يبال بالدلالة عليه لصدقه في كل صغيرة وكبيرة، وفي الوقت أحضر الملك أبا الفتى وأخذ يسأله عن مكان ولده؟ فلم يتحاش الوالد إلا أن أراهم مكانه وقال: هو في الدار الفلانية، في غرفة مخصوصة، متخفٍ بزي النساء. تعجب الملك من ذلك وشك في صدقه، ولم يلبث أن أرسل هناك جنوداً وضباطاً للقبض عليه، وبعد برهة جاء الجنود مستبشرين وقد قبضوا على الفتى. نظر الملك في وجه الوالد مرة، وفي وجه الفتى أخرى، وجعل يكرر النظر تحيراً وذهولاً، كيف أن الوالد هداه إلى محل فتاه؟ أليس يحبه؟ أم ليس يخاف عقابي المحتوم الذي كان يعلم بحلوله على ولده؟ ثم رفع رأسه قائلاً: عفونا عن الولد، ووهبناه لوالده، كرامة لصدقه، وإكباراً لصراحته، حتى في مثل هذا الموقف الرهيب!!! ثم أن من غريب أمر هذين الرجلين: الصريح، والملتوي، أن الناس يطّلعون على كل صغيرة وكبيرة من أمرهما، فلا يضعون الغامض حيث يضع نفسه، بل حيث وضعه الواقع والحقيقة، ثم ربما تعدوا عن ذلك، فلا يأتمنون الخائن، حتى لو نوى الأمانة، ولا يصدقون الكذوب، حتى في ما صدق، ولا يركنون إلى الغاش، حتى فيما نصح، ولا يقدرون المرائي، حتى فيما أخلص، فيسقط عن أعين الناس، ويهوي في مهوى سحيق، بينما كان يرى نفسه في السماء السابعة، وليس ذلك إلا لأن الحقيقة كالنور الذي يضيء، وإن لف بلفائف من الالتواء وأردية سوداء من الرذائل، وبهذا يخسر الغامض حتى حقيقته، في حين يربح الصريح كل ثقة وركون واطمئنان واعتماد. إنا لم نزل نمدح الصريح، ونذم الملتوي.. فهل نحن من الأول أو الثاني؟ الإجابة على هذا السؤال من أبسط ما يكون.. فمراقبة يوم واحد من أيام حياتنا، بل ساعة من ساعات اجتماعنا كفيلة بكشف ذلك، لكن إذا لاحظناه على ضوء الحقيقة، لا في ظلمة الأنانية وتبرير الذات. |