الفهرس

فهرس المجموعة السابعة

المؤلفات

 الثقافة الإسلامية

الصفحة الرئيسية

 

التبليغ

إن كل مبدأ عرفه التاريخ يتجلّى أول ما يتجلى في فكر إنسان، إما بوحي من الله سبحانه، أو بوحي من الظروف ومقتضيات الاجتماع ونحوها، ثم لا يزال ينمو حتى يجري على أسلات لسان ذلك المفكر، أو يجري مع مداده على أنبوب يراعه، ومنه يتعدى إلى آخر، وثالث، ورابع، إلى أن يملأ جواً من الأفكار، ويكون له مركزاً من الأدمغة.

والمبدأ مهما كان فإنه كالبذر قد يصيب أرضاً خصبة في ماء وهواء وشمس وتربية، فينمو ثم ينمو حتى يصير شجراً ذا أغصان وفروع وجذور وثمار حلوة أو مرة حسب طبيعة الشجرة، وقد يصطدم بحجر في جوف الأرض فلا يمتد له عرف، ولا يرتفع له فرع، أو يصيبه إعصار فيه نار، أو يقلعه قالع، أو لا يصيبه الهواء والماء والشمس قدر كفايته.

فالمبدأ إن أصاب أفكاراً موافقة، وأدمغة خصبة، وآذاناً سامعة، وقلوباً واعية، كان (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ)(1)، وإن لم تتوفر فيه الشرائط، أو اصطدم بمانع، كان (كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ)(2)، أو لا يبلغ هذه المرتبة، بل يحترق قبل أوانه.

وعلى كل حال فالتبليغ أساس المبادئ والأديان، ثم يتطور المبدأ، بعدما وجد أنصاراً، فيستخدم القوة، في تنفيذه ومد جذوره في الأرض، وفروعه في السماء.

الإسلام - بما هو أحد المبادئ - يكون حاله كحالها في الحاجة إلى التبليغ مهما طالت شجرته، وامتدت عروقه، بل النبي (صلّى الله عليه وآله) لم يكن يستخدم القوة إلا في الحالات الضرورية التي لابد منها، فكان يدعو إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ويجادل بالتي هي أحسن، فإذا رأى عناداً أكيداً، وشحناءَ وبغضاً، وحسداً وغلاً، صبر حتى يتعدّى الطرف الآخر ثم يجاهد جهاداً نبيلاً، ويدافع دفاع شرف وفضيلة، ولذا كان كثير من الناس تستهويهم دعوته، ويقرّبهم خلقه، ويؤلفهم عطفه وحنانه، وقد حث (صلّى الله عليه وآله) على الدعوة والتبليغ (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(3).

اليوم قد أذن الكون للمسلمين في التبليغ الذي لم يكن يعرفه آباؤهم الأقدمون، هيأ لهم المذياع الذي يتكلم فرد ويسمع ملايين، وأعد لهم المطابع التي يكتب شخص، ويستفيد ألوف، ومهد لهم الطريق السهل في التعليم بسبب انتشار المدارس في كل مدينة وقرية، بل تعدّى الأمر عن ذلك فبنيت المدارس في الصحاري والقفار، وبذاك وتلك وهذه اتسعت رقعة التبليغ، إن استغلوها.

وليس لأحد عذر - عند الله تعالى - في ترك التبليغ مع توفر هذه الوسائل، ربما تساعد الحكومات الإسلامية مع ما فيها، على إلقاء الخطابة في المذياع، أو جعل الدين في المدارس، أو فتح المدارس والكليات، أو إخراج الجرائد، أو إصدار المجلات.

أليس من المؤسف أن يكون لباب النصارى الأعظم مذياع خاص يتكلم فيه مع العالم بأربعين لغة، ويبلغ دين المسيح (عليه السلام) ويوقر تعاليمه وأحكامه، ويتلو آي من العهدين، ويفسر ويشرح ويعلق، وليس للمسلمين مثل ذلك حتى يعلموا الناس الكتاب والحكمة، ويهدوهم من الظلمات إلى النور، ومن الظل إلى الحرور، يبينوا أخلاق نبي الإسلام (صلّى الله عليه وآله) وأحكامه وشرائعه ودساتيره وقوانينه، ويشرحوا قرآنه الحكيم، ويفسروه ويهدوا البشر إلى الصراط المستقيم؟

وليس الأمر بالتبليغ متوجهاً إلى صنف، أو شخص، فإن الملك مسؤول عن رعيته، والفقيه مسؤول عن مريديه، والزوج مسؤول عن زوجته، والأب مسؤول عن ولده، وهكذا كل صنف (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)(4).

فمن الجدير بنا نحن المسلمين أن ننفض عن أفكارنا قتام الخمود، ونهب عن المضاجع، ونشرع في تبليغ الدين والأخلاق، والفضيلة والآداب، فإن أخذ بقولنا، وعمل بمبدئنا، سعد العامل، وسعد القائل، وإن لم يؤخذ ولم يعمل، فنجونا بقولنا، وكان الوبال على من ترك العمل بعد العلم.

سورة الفتح: 29.

سورة إبراهيم: 26.

سورة التوبة: 122.

بحار الأنوار: ج75 ص38 ب35 ح36.