الفهرس

فهرس المجموعة السابعة

المؤلفات

 الثقافة الإسلامية

الصفحة الرئيسية

 

التعمّق

أمران متعاكسان في النتيجة، وإن توافقا في المقدمة وهما: التعمّق في الماديات، والتعمق في المعنويات.

كلما تعمق الشخص في شيء من الأمور المادية أورث تعمقه علماً، وفتح بحثه باباً كان موصداً عليه قبل ذلك، وكثيراً ما يظفر في نتيجة ذلك بكنز ثمين لا يقدر جوهره، ولا تدرك قيمته، وأكثر ما نشاهد اليوم من المخترعات التي تفيض على الدنيا فيض السيل العرم، وليدة التعمّق، وذلك لأن في الكون ركائز لا تلمس بالمشاعر، ولا تدرك بالفكر المجرد، وإنما بابها الوحيد البحث والتنقيب، والتجربة والتقليب، وكلما ازدادت التجربة ازداد المعلوم، وبازدياده يزداد الاختراع والإنتاج، ولو نظر الإنسان في تاريخ هذه الهنات المستحدثة، وأنها كيف ولدت فترعرعت، فشبت، فوصلت حد كمالها الحالي، لآمن بمدى تأثير الفكر والتعمّق والتجربة في المدنية والرقي والعمران.

أما المعنويات، فلا يزداد المتفكر فيها إلا حيرة واضطراباً، وذلك لأن نتائجها مما لا تلمس بيد، فإنها غير قابلة لذلك، ويلحق بذلك التعمّق في الألفاظ العرفية، ولذا ترى أن مباحث كثير من العلوم اللفظية إذا دخلت فيها التدقيقات لا تزداد إلا تعقيداً وغموضاً وإعضالاً.

ولو نظر باحث في كثير من مباحث الصرف والنحو واللغة والمنطق والأصول والكلام، مما نمّقها قلم متعمق لوجد لما ذكرناه ألف شاهد وشاهد وكثيراً ما يقع اللف والدوران في المسألة من جراء التعمّقات العقيمة.

إن لفظة (أشياء) استعملتها العرب غير منصرفة، والمتبع في لغة العرب، لا يجد أزيد ولا أقل من هذا، أما أن أصلها كذا، ثم عمل بها كذا ثم صارت كذا، فمما لا يرتبط باللغة، بل هو أشبه بالبحث عن الضياء في الظلام، وعن الحقيقة في الأوهام.

وكذا (الأمر) معناه العرفي هل هو الوجوب أو الاستحباب، شيء يرجع فيه إلى العرف، كالرجوع إليهم في أن الماء ما هو؟ ودار زيد أين هي؟ أما الاستدلال لذلك بأنه طلب، والطلب يفيد الوجوب، أو أنه إلقاء في عهدة المكلف، أو نحو ذلك، فمما هو أشبه باللف والدوران، وتعريف الوردة بأنها جسم يشمه الإنسان.

لقد أصاب الأولون حيث اقتصروا على متن اللغة، وعلى موارد العرف في المبحث الأصولي، والتوت الطريقة بعد ذلك، فربما وجد الباحث نفسه في علم لا يعرفه، فهو يبحث عن الحكم الفقهي، فإذا يرى نفسه في الأصول ثم يظن أنه آخر المطاف، فإذا به يرى نفسه في علم الكلام، ثم يخال أنه آخر الشوط فإذا به يرى نفسه في الحكمة، ثم إما أن يرجع من حيث أتى، أو يبقى صفر اليد.

وربما تذكرت في أثناء مثل هذه البحوث عن اللغز الذي جعله بعضهم عن (القبلة) فقال: هي ضد (شرقي) بعدما أجرى عليه التعريب والتعجيم والقلب والتصحيف، وسلسلة الوصول هكذا:

شرقي.. غربي.. عربي.. ربيع.. بهار.. نهار.. يوم.. موي.. شَعر.. شِعر.. بيت.. دار.. راد.. زاد.. توشه.. بوسه: وهي القبلة.

وأما (الحكمة) فكثيراً ما تنتهي بالإنسان إلى (السفسطة) وإنكار حقائق الأشياء، ولذا فمن الجدير بالباحثين أن يقفوا عند حد كل علم، ولا يجاوزوه إلى ما ليس من فصيله، وبذا يكون قد أدى حق العلم، وحق نفسه في آن واحد.

فمعنى اللغة: ما ذكره أهلها من موارد استعمال العرب، الكلمات إزاء المعاني.

ومعنى الصرف: بيان مشتقات الأفعال والأسماء.

ومعنى النحو: عرفان آخر الكلمات والجمل من حيث الرفع والنصب والجر وما إليها.

ومعنى المنطق: بيان ما يدور في لسان العرف، وأقلام الناس من القضايا الصحيحة والفاسدة، وأن أيها تنتج، وأيها لا تنتج.

ومعنى البيان: عرفان الفصاحة والبلاغة بمراجعة كلام العرب والممارسة في منظومهم ومنثورهم، حتى تعلق بالذهن ملكة يتمكن الشخص بها من كلام فصيح بمقتضى الحال في موارد التكلم.

ومعنى الأصول: اتباع موارد العرف في معنى الأمر والنهي، وكيفية عملهم في المطلق والمقيد، والخاص والعام.

ومعنى الكلام: بيان ما يتعلق بأصول الدين إثباتا ونفياً، من جهة العقل، وهكذا حال سائر العلوم.

والعلم أول ما يضعه واضعه إنما يلاحظ الغرض والغاية ويتكلم حوله، ثم لا يزال حتى يأتي أقوام آخرون، فيزيدون وينقصون، ويحلقون ويسفون، ويستخدمون موضوع علم لموضوع علم آخر، ويستوفدون مسائل عقيلة في علوم نقلية، وبالعكس، وليس الغرض من هذه المعاملات إلا حب الظهور الذاتي في بعض الناس، أو التحقيق والتعمّق الذين يشغفهما المحققون طبعاً، فلا يلبث العلم حتى يخلع عن نفسه ثوبه القشيب البسيط، ويلبس ثوباً آخر لا يناسبه ويضيع وقت الطالب بين هذا وذاك.

التعمق في اللغة بيان الجامع بين المتشابهات، وفي الصرف بذكر القلب والأصل والفرع، وفي النحو بتحشية النزاع بين فلان وفلتان، وفي المنطق بتكثير الاصطلاحات وتطويل ذيل الكلي الطبيعي، وفي البيان بذكر رأي عبد القاهر والخطيب القزويني في الاستعارة والكناية، والإشكال والجواب، وفي الأصول بإطالة الكلام حول حد الأمر ومعنى الحرف، وفي الكلام بذكر آراء الحكماء، وأقوال الفلاسفة، والبحث حول المجرد والمادي، إلى مئات وألوف من نحو هذه المذكورات في كل علم لا يفيد إلا تبلبل البال، واضطراب الفكر، وفي الغالب يخرج الباحث صفر اليد عن الكتاب، فيكون حاله حال من يريد معرفة الخياطة، ليستقطر رزقه من سم الخياط، ثم يذهب ويبحث عن الإبرة ومعدن الحديد الذي تصنع منه، وأول من صنعها، أهو إدريس (عليه السلام) أم غيره؟ روجه الاحتياج الأول الذي أوجب اختراعه، وصانعها فعلاً، أو أمريكي أو ألماني؟ ومدة عمر الإبرة، ومقدار قيمتها، ومظان بيعها وشرائها، وهكذا في الخيط، واللباس وغيرهما.

إن قارئ النحو والصرف والمعاني واللغة والعروض والتجويد، لو استبدل بها مطالعة منظوم كلمات العرب ومنثورها، وقرأ أثناء ذلك القواعد التي لابد منها من رفع الفاعل ونصب المفعول وجر المضاف إليه وما إليها، صار في نصف المدة المتداولة لدراسة هذه الأمور، ذا ملكة عربية تملأ بين جوانحه، وتفيض من لسانه فيض دجلة، وتجري على مداده جريان الفرات، ويشبه ذلك المنطق والأصول والكلام وغيرها.

وهذا الأمر يرجع بادئ ذي بدء إلى الأساتذة، فاللازم توجيه التلاميذ توجيهاً صحيحاً، كي يتمتعوا في مستقبلهم بأقلام قوية، وألسنة فصيحة، وقلوب بليغة، يكونوا من حسنات الدهر، ونوابغ العصر.