الفهرس

فهرس المجموعة الثامنة

المؤلفات

 الثقافة الإسلامية

الصفحة الرئيسية

 

الأحمق

إن الإنسان لو أقيمت المناحة حول رحله، أو يفترسه الهزبر الهصور فيهصر عظمه، أو تقع النار في داره فتجعلها هشيماً تذروه الرياح، أو يأتيه العذاب من بين يديه أو بين خلفه، أو يخوي البيت على عروشه عليه، لم يكن يجد في نفسه من الضيق والضنك، ولا يبلغ قلبه الحنجرة، مثل ما لو مني بالأحمق.

يموت الشخص فيستريح من هموم الحياة وآلامها ويهصره الأسد فيرى أنه حيوان لا مفر منه، وتحترق داره بالنار فيعلم أنها لا تدرك فتهون عليه المصيبة، ويأتيه العذاب فيسلي نفسه بأنه قدر وحكم من الله العالم بالمصالح، وكان حكم الله قدراً مقدوراً.

أما مصادقة الأحمق، فهي تمرد الفؤاد، وتكسر العظام، وتأكل اللحم، وتشرب الدم، وتفور من الفم، ليس الأحمق صاعقة تصيب الإنسان، ولا ناراً تحرقه، ولا فقراً ولا مرضاً، وإنما هو الأحمق فحسب، ولست أجد لفظاً أثقل على القلب من هذه اللفظة، تدرك الهرة أنك محسن إليها أو مسيء، وتدرك الفأرة أن المصيدة يُخاف شرها، وتفهم النملة مساقط النثار فتدبّ نحوها، ويعرف الحيوان المفترس المحبوس في قفص الحديد أن فلاناً يخدمه ويقدم له الطعام، فيحرك ذنبه شكراً له.

أما الأحمق، فتنفعه وهو يزعم أنك تضره، وتنصحه فيخال نصحك غشاً، وتعلّمه فيظن أنك تريد من ورائه نفعاً، إذا قال قولاً غلطاً يريد تصديقك، فإن لم تصدقه فأنت من أعدائه أو من أعداء الحقيقة، وإذا عمل عملاً باطلاً يريد تحسينك، فإن لم تمدحه فأنت تحسده، أو لا تتمكن أن تراه، وإذا ترك واجبه أراد منك عذره، فإن لم تعذره فأنت جاهل بمواقع العرف، وإذا فعل ما ليس له أرادك أن توافقه، فإن لم توافقه فأنت ممن لا يقدر الأشياء قدرها.

وجملة القول: يريد أن تكون مرآة لنفسه، لا مرآة للحقيقة، فتكبر الصغير من عمله إذا شاء ذلك وإن كان عمله بنظر الحقيقة من أصغر الأمور، وتصغر الكبير إذا أحب صغره وإن كان العقل يرى أنه كبير جداً، وهكذا تعظّم قوله وإن كان تافهاً، وتجعل عمله حيث يحب أن يجعله وإن لم يكن هناك، تضحك إذا ضحك، ولو في مكان البكاء، وتبكي إذا بكى، ولو في موضع الضحك، إلى كثير من أمثال ذلك التي يعرفها من بلي بأحمق.

والأحمق لا يزق عن غيره في مواده الأولية، وإنما يفرق في طرائق تفكيره، فهو كبيت بني مرحاضه في المكتبة، ومطبخه في غرفة النوم، أو جعلت الرواشن مكان الباب، والباب مكان الرواشن، أو طلى بئره بالأسمنت الأبيض، وغرفته بالأسمنت الأسود. ومن الظريف أنه لا علاج لمثل هذا الشخص، فإن المريض يعالج فيبل، والحريق يعالج فيطيب، والغريق يعالج فيرجع إلى ما كان عليه من الصحة، والجاهل يُعلّم فيتعلم، لكن الأحمق كلما عولج ازداد حمقاً وبلاهة، إلى أن تنطبق عليه آية (أحمق من هبنقة)(1).

ولذا يروى عن المسيح (عليه السلام) أنه قال: (عالجت الأبرص والأكمه، وعجزت عن معالجة الأحمق)(2).

ولا أدري - فيما أدري - علاجاً أنجع من الفرار منه، وتجنب مواقع فرحه وبؤسه، وقومته وقعدته وغدوه ورواحه، وممساه ومصبحه.

إن الحمق شجرة تنبت في القلب، كأنها شجرة الزقوم التي تنبت في أصل الجحيم، ثم تطول وتفرع حتى تثمر الحمق في جميع مشاعره، فيرى الحسن مسيئاً، والمسيء محسناً، والقليل كثيراً، والكثير قليلاً، والأسود أبيضاً، والأحمر أصفراً، ويسمع المطرب محزناً، والمحزن مطرباً، والمدح ذماً، والذم مدحاً، والقرآن توراة، والتوراة قرآناً، والشعر نثراً، والنثر شعراً، ويشم المسك فيتخيل أنها حلتيت، والورد فينظر أنه عذرة، والمرحاض فيخال انه روضة، ويذوق الحامض فيدركه حلواً، والمالح فيزعمه تافهاً، ويلمس الخشن فيتخيل أنه أملس، وهكذا.

وبالجملة تبدل السماوات في نظره أرضين، والشرق غرباً، والجنوب شمالا، والمرأة رجلاً، والشام عراقاً.

إن مثل هذا الشخص لا علاج له حتى يلج الجمل في سم الخياط، يحذّر بعض الشعراء عن مصاحبة الأحمق أشد من تحذيره عن مصاحبة الأفعى، يقول: إن الأفعى تلسع الجسم، والأحمق يلسع القلب.

وإذا أنسى، لا أنسى: ابتلائي بأحمق ممن ينتحل العلم، فكان يستفيد من بعض الآيات ما لا ربط له بالموضوع إطلاقاً، وذكرت حين ذاك الظريفة المشهورة: إن أحداً كتب كتاباً لبيان تحريم حلق اللحية، واستدل لذلك بكل آية في القرآن الحكيم، فاستدل بـ(بسم الله الرحمن الرحيم)(3) بهذه الكيفية: أن الله الذي اسمه بهذه العظمة حتى يبتدأ أو يستعان به في أول أسمى الكتب السماوية، لابد وأن يشكر حق الشكر، ومن أظهر أفراد شكره أن لا يؤذي خلقه، واللحية من خلق الله، فيجب أن لا تؤذى بالحلق.

ثم بعد مدة أخرى بليت بأحمق آخر، كأنه أخو الأول نقلاً وبراعة وعلماً وفهماً، فأنشدت:

بليت بأحمق فعجزت عنه***فكـــــيف إذا بليت بأحمقين

وإذا ساعد الأحمق مال يرفعه، أو جاه يكبره، أو نسب طويل، أو وسط عليل، صدقت الآية الكريمة: (تَكَادُ السَّماوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً)(4) على من مني به، وابتلي بصحبته، وليس له علاج إلا الفرار، ولو إلى وحش الفلوات، أو منقطع رمال الصحارى، أو رؤوس جبال البراكين.

مثل عريي.

راجع بحار الأنوار: ج14 ص323 ب21 ح36، وفيه: (أبرأت الأبرص والأكمه وعالجت الأحمق فلم أقدر على إصلاحه).

سورة الفاتحة: 1.

سورة مريم: 90.