| الفهرس | المؤلفات |
|
العُمر |
|
يخطو العمر سراعاً، ويوسع الخطى أميالاً لا أذرعاً، فما هو إلا لحظة أو لمحة، حتى يأذن برحيل، ويدنو إلى الأفول، ليل ونهار، وغدو وأصيل، فما يفتتح وجه النهار بالضحى، إلا يتجهم للأصيل، وما يطير الكون شمسها للنهار، إلا ليسترجعها لليل البهيم، فهو كالمجنون الذي لا يرفع دلاة من دلائه إلا ليخفضها، ولا يظهرها حيناً إلا ليضمرها، فمن استمع إلى الساعة سمع وقع أقدام الزمان، كأنه يختلس الخطى للفرار، ويملس إملاساً ويتسلل لوذاً، خوفاً من أن يمنعه أحد من الهرب، أو يعقبه معقب، فالعمر كالبرد في شمس تموز، يذوب على عجل، لا يلوي على شيء، ولا يقف عن السير، ثانية تتلو ثانية، ودقيقة تتبع دقيقة، وساعة تعقب ساعة، وليل ينسلخ من النهار، ونهار ينسلخ من الليل، ثم يلف الكون الأيام السبع في ملف أسبوع، ويجمع الأسابيع الأربع في شهر، ويجمع الاثني عشر شهراً في سنة، ويلم سني العمر في علبة، ويختم عليها إلى يوم يبعثون. تطلع شمس يوم، والإنسان تراب تدوسه الأقدام، وتمشي عليه الماشية والأنعام، ثم تطلع شمس يوم آخر، وهو نبات يهتز بهيجاً، ويرتج خضرة ونشاطاً، ثم لا يلبث حتى يأكله حيوان سائم، أو يلتقطه طير حائم، فيستبدل اللحم والدم، بالنبات والحب، ثم يأكله الإنسان فيكون نطفة من مني يمنى، ثم يجعل علقة تسوى، ثم يأخذ في أدوار الجنين والطفل والرضيع، ثم يشب ويشيب، ثم يموت وينقلب تراباً كما كان. عجيب أمر العمر! فيه خفض ورفع، وفرح وترح، وعز وذل، وسعة وضيق، وأوج وحضيض، ونقص وكمال، ثم لا تمر أيام، ولا تذهب ليال، إلا والجميع قد مضى وليس منه إلا ذكر واتر: طيب جميل، أو سيئ قبيح. وإنما المرء حديث بعده***فكن حديثاً حسناً لمن روى من نظر إلى التاريخ بعين لفت واعتبار، لا لهو وتذكار، رأى السلاطين العظام، والأمراء الفخام، والقضاة الكبار، والحكام الكثار، ممن قد كانوا أوتاد البلاد، وساسة العباد، يديرون الأمور، ويسكنون القصور، تثنى لهم الرقاب، وتنقاد لهم الصعاب، لم يسمر السامرون إلا بأحاديثهم، ولا يدار في المجالس إلا كؤوس فرحهم وبذخهم وعَددهم وعُددهم، هذا يحارب، وذاك يرافق، ويزجر الطير بنحس أحدهم، ويظهر الكوكب بسعد الآخر، يصعد أحدهم إلى قمة العز دولاب الفلك الدوار، وينزل الآخر عن مركبه إلى حيث في الذل له قرار، فلم تطلع شمس، ولم يغرب قمر، ولم يزهر نجم، ولم تذر فلك، إلا والكل في طي النسيان، وثني الأذهان، كأنهم ما جاءوا ولا ذهبوا، ولا سكنوا ولا ظعنوا، وكأنه لم يرفع لهم علم، ولم يجر على الطروس باسمهم قلم، ولم يأمروا ولم يزجروا، ولم يتنعموا ولم ييأسوا. هذا هو العمر، وهذا مقداره، وهذا أوله وآخره، وظاهره وباطنه، وعلوه وسفله، أصاب من أشبهه بالبرق الخاطف، والريح العاصف، أو الأحلام أو الخيال، أو الأفكار الطارية والصور الجارية، لا بؤسه يدوم، ولا عزه يبقى، كم من ملك أضحى أميراً، وأمسى أسيراً، وكم من فقير بات مدقعاً، وأصبح مرفعاً، ورب غني لم يدم له الغناء، ورب شقي لم يطل به العناء، لا تدون أحوالها، ولا تسلم نزالها، ولا يدري المصبح فيم يمسي، ولا الممسي فيم يضحي، ولو قدر لأحد أن لا يطويه الزمان والمكان، ولا ينشره طوارق الحدثان، ثم نظر إلى هذه الرحى الطاحنة، والفلك الشاحنة، وتلك الأيام، واختلاف الأنام، لرأى من الأمر عجباً، يهلك مشاعره، ويذهل لبّه. الإنسان إذا نظر إلى حاله يرى أنه قد مر به مار الزمان، ولفظه مكان إلى مكان، ولو سألته؟ قال: قرأت وألّفت، ومرضت وأبللت، وغنيت وافتقرت، وسدت وسادوا علي، ورأيت وأوريت، وفعلت ما فعلت، وتركت ما تركت، وقلت ما قلت، وصمت عما صمت، والآن كأنه لم يكن شيء، ولم يمر بي مار لا حلوه ولا مرّه، ولا خيره ولا شره، ولا علوه ولا سفله، وإنما حصلت كتابين: كتاباً إلى ربي، وكتاباً إلى مجتمعي، وإن كان بينها الاختلاف الكثير، فالأول (لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَ أَحْصَاهَا)(1)، كلاًّ على حقيقته واقعة، ومحاسنه ومساويه، والثاني أخذ ضغثاً من الخير فأكبره، وضغثاً من الشر فأصغره، وسجل عظيماً حقيراً، وضئيلاً خطيراً. وليس بين هذه الآونة إلى أنّة النزع، إلا بضع خطوات، إما أن تمحو ما سلف من السيئات، وإما أن تمحق ما غبر من الحسنات.. وكذلك كتاب سائر الأعمار، وألوان سائر الديار، وإن كان هناك فرق في الخطوط والرسوم، والمحمود والمذموم، فملك يطوي كتابه على العدل، وآخر على الظلم، وأمير يسجل له المحاسن، وآخر المساوي، وكاتب يحفظ عنه الخير وآخر الشر، وحاكم يرقم له الاستقامة، وآخر الزيغ، وغني يطبع بطابع الجود، وآخر بالبخل، وعالم ينتفع منه، وآخر يتضرر عنه، وتاجر يوسم بسمة النصح، وآخر بالغش، إلى غير هؤلاء. وإذ نحن كلٌّ على جناح، إذ فات ما فات فلا يمكن رده، وبقي ما بقي فلا يمكن طمّه، فمن الجدير أن نشمر عن ساعد الجد قدر الممكن، فنسد الثغور التي أحدثنا، ونلم الشعث الذي بددنا، ونرقع الخرق الذي أبدينا، ونصلح الخلل التي أظهرنا، (إن دواء الشق أن تحوصه).. ولنغتنم الفرص، فإنها تمر مر السحاب، ولا نقول غداً وبعد غد، فإن (ما فات مضى وما سيأتيك فأين، قم واغتنم الفرصة بين العدمين).. إن سعادة الدنيا، وخير الآخرة، منوطان بالجد والعمل، والناس قسمان: ساع سريع نجى، وطالب بطيء هلك، والعمر لا يرجع فائته، ولا يؤوب ذاهبه، ولا يتدارك ماضيه، ولا يدري بم يأتي مستقبله. ويكفي حادياً لكل نفس، وسائقاً لكل فرد، ما يراه من الأعمار التي تتهدم بين يديه، تهدم البناء، وتتقوض تقوض الخيام، فهذا يرى صديقه وقد انساب عمره، وذاك ينظر إلى قريبه، وقد طار أمده، وذلك يسمع بالبعيد، وقد خفقت على رأسه أجنحة الأجل، والحساب بيد أدق الحساب، لا تفوته حتى الثانية والثالثة، ولا يذهب عنه ساكن الخباء، ونازح الصحراء، ومن يطير في الهواء، ويغوص في الماء. |
|
1ـ سورة الكهف: 49. |