| المؤلفات |
|
إحياء المفاهيم الإسلامية |
|
مسألة: يلزم على العاملين في حقل إحياء الإسلام وإعادته إلى الحياة وإعادة الحياة إليه: إحياء المفاهيم الإسلامية، سواء ذكرها الإسلام أو كانت عادة المسلمين قبل دخول الغرب إلى الإسلام فإن المفهوم ليس صرف ألفاظ، بل حقائق مرتبطة بالأُمة، ففي إحيائها إحياء الأمة، وفي إماتتها إماتة الأمة، هذا بالإضافة إلى ربط الأحكام الشرعية ببعض تلك المفاهيم. |
|
خصوصية المفاهيم |
|
مثلاً يلزم إحياء السنة القمرية والتاريخ الهجري القمري والساعة الغروبية فإنها كانت متداولة في بلاد الإسلام قبل دخول المستعمرين بدل الساعة الزوالية، والدينار والدرهم بدل النقود الأُخر، والرطل والمد والصاع والفرسخ والميل والأشهر القمرية إلى غير ذلك. فإن تبديل هذه المفاهيم إزالة الوحدة الإسلامية واللون الإسلامي، مثلاً هناك بالنسبة إلى النقود ريال وتومان وروبية وما أشبه ذلك، وبالنسبة إلى الأشهر هناك في بعض البلاد كانون وتشرين، وفي بعضها فروردين وارديبهشت، وفي بعضها ديسمبر ونوفمبر، إلى غير ذلك، أليست أمثال هذه الأُمور موجبةً لتشتيت الأُمة وتحطيم وحدتها، بينما اللازم أن تكون كل بلاد الإسلام تتخذ من محرم وصفر والدينار والدرهم تاريخاً ونقداً إلى غير ذلك، فإن أمثال هذه الأُمور تظهر الأُمة بمظهر الوحدة. إن الغرب أتعب نفسه أيما إتعاب حتى صنع هذا التشتيت، وقد كان التاريخ قبل مجيء الغرب إلى بلادنا هو الأشهر القمرية كما يجد الإنسان ذلك في كل الكتب التي كتبت قبل مجيئهم، وهكذا بالنسبة إلى إحيائهم الأسماء الدارسة مثل أفغان وإيران وما أشبه ذلك مما لم يكن في السابق، وإنما كانت هنالك بالنسبة إلى البلاد أسماء أُخر، وهكذا بالنسبة إلى الاصطلاحات التوراتية أو الإنجيلية أو نحو ذلك. ثم كل شعائرنا مرتبطة بالأشهر القمرية فرمضان للصيام، وذو الحجة للحج، والأشهر الحرم لحرمة القتال، ولزيادة الدية، وشوال لعيد الفطر، وما إلى ذلك فإنها كلها مرتبطة بالأشهر القمرية، وكذلك ولادات المعصومين (عليهم السلام) وليالي القدر، وأعياد الفطر، والغدير والمبعث وأوقات الزيارات المستحبة في رجب وشعبان وعرفة والأربعين، وشهادات المعصومين كعاشوراء، وهجرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وغيرها، فإنها كلها مرتبطة بالأشهر القمرية، وكذلك حال كثير من العبادات كالأغسال المستحبة في أزمنة خاصة، والصلوات المستحبة في أوقات مخصوصة، والعمرة الرجبية والاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، والصيام في أيام خاصة من الأشهر القمرية كأول الشهر وآخره، إلى آخر هذه القائمة التي يجدها الإنسان حتى في الرسائل العملية، بل الكتب التفسيرية والفقهية، والروايات الواردة عنهم (عليهم الصَّلاة والسلام) فإنها كلها مربوطة بالأشهر القمرية. وكذلك عادة النساء، والعدة بالنسبة إلى الطلاق، ونحوه واليأس بالنسبة إلى المرأة، أما البلوغ فهما مشتركان فيه، فإن هذه الأُمور مرتبطة بهذه الأشهر إما مباشرة كالعادة، أو غير مباشر مثل السنين القمرية المكونة من الأشهر القمرية، كالخمس والتاريخ والبلوغ واليأس ونحوها فإنها ترتبط بالسنوات القمرية، وفي القرآن الحكيم آيات في أمثال هذه الشؤون مثل: (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج)(1) وفيه أيضاً: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم)(2). وفيه أيضاً: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن)(3). إلى غير ذلك، وأما الروايات فآلاف منها ذكرت فيها هذه المفاهيم. ثم إن تبدلت الأشهر بالشمسية تأخر البلوغ في الولد والبنت بما ليس بمشروع، كما يتأخر اليأس في المرأة، وتكون العدة أكثر من العدة الواقعية بالنسبة إلى الأشهر، إلى غير ذلك مما هو كثير، ولم نقصد بالذكر هنا التفصيل بل الإلمام فقط. ثم لماذا تغيير السنة من الهجرية إلى الميلادية أليس هذا من جهة الاستعمار، كما غيرت بعض البلاد عطلة الجمعة إلى عطلة السبت أو الأحد. نعم الزكاة والخراج وأمثال الحجامة ونحوها مرتبطات بالسنوات الشمسية لأن المحصول والدم وما أشبه تابع لها دون الأشهر القمرية، مثلاً إن تاريخ إيران كان قمرياً هجرياً حتى ذهب بعض الملوك إلى الغرب قبل قرن، فجمع في كتبه بين التاريخين، ثم حذفوا التاريخ الإسلامي وسجلوا مكانه التاريخ الميلادي أو الشمسي، وهكذا بالنسبة إلى الأشهر، كما إن تاريخ بعض البلاد الإسلامية إلى قبل نصف قرن كان تاريخاً هجرياً قمرياً، ثم غير المستعمرون بسبب عملائهم التاريخ إلى المسيحي والأشهر الغربية. وعلى أي حال، فالانسياق وراء الغرب والشرق في هذه الأُمور حتى مثل المد والفرسخ والشبر والصاع والرطل ونحوه عبارة أُخرى عن انقطاع البلاد عن تاريخها وسوابق أمرها، وهذا من أبشع أنواع الاستعمار الذي هو كالحية ليّن مسها قاتل سمّها. |
|
التغيير باستلام زمام الحكم |
|
ثم إنّ سلوك طريق النجاة لا يمكن أن يكون كاملاً إلاَّ إذا كان الحكم بيد المسلمين الذين يطبقون الإسلام، وإلاَّ فالكثير من المسلمين يسلكون سبيل الضلال ولــو في بعض الفروع، كما نشاهده في الحال الحاضر، وهذا بالإضافة إلى أنه خلاف الإسلام لا يجوز للإنسان أن يترك ما يقلع جذور الفكر الباطل والعلم الزائف. ولا انقلاع لجذورهما إلاَّ بإقامة حكم الإسلام. فالأُمة الواحدة والحرية الإسلامية والأُخوة الإيمانية وتطبيق قوانين الإسلام في مختلف أبعاد الحياة ـ مكان القوانين الشرقية والغربية والقوانين الوضعية التي يضعها حكام بلاد الإسلام ـ ومن أهم ما يجب على المسلم، ولا يمكن كل ذلك إلاَّ برجوع الإسلام إلى الحكم، ولا بأس من رجوع الإسلام إطلاقاً بل الزمان مهيّأ له أحسن تهيئة، ففي هذه السنوات الأخيرة حدثت في العالم أحداث كبيرة، وهي آخذة في النمو والاطراد، وكلها تساعد على رجوع الإسلام إلى الحكم: الأول: حدث في الغرب، حيث أخذت بلاد أوروبا تتوحد، ومن المقرر أن تتم الوحدة في الأعوام المقبلة ومن المعلوم أن حكام بلاد الإسلام في هذا القرن كانوا ولا يزالون من أتباع الغرب قلباً وقالباً، فإذا رأوا أن الغرب تحول من التفرق إلى التجمع ومن القومية إلى العقلانية فربما يستعدون هم لمثل ذلك، وهؤلاء وإن لم يكونوا يصلحون لحكم بلاد الإسلام لمكان دكتاتوريتهم إلاَّ أن الذين يريدون تطبيق الإسلام من المسلمين المخلصين يجدون مجالاً واسعاً لتجديد النشاط للسلوك في سبيل إعادة حكم الإسلام. الثاني: حدث في الشرق، فإن الشرق الشيوعي أخذ ينبذ الشيوعية شيئاً فشيئاً، فقد تحولت الصين عن الشيوعية بعد موت (ماو) وروسيا انحلت وسقطت الشيوعية، وهذا حدث مهم أيضاً، فإن المسلمين في ذينك البلدين أخذوا في التحرّر ولو بقدر، هذا من جانب، ومن جانب آخر حكام بلاد الإسلام الذين كانوا ينظرون إلى الشرق، واستوردوا منه الكبت والدكتاتورية والإرهاب أخذوا في الاضمحلال والزوال باضمحلال قدرتهم في هذه الأُمور. الثالث: حدث في نفس بلاد العالم الثالث، والتي منها بلاد الإسلام غالباً، حيث أن المسلمين أخذوا في سلوك طريق الخلاص، وكل هذه الحروب والثورات والنشاطات في العالم الثالث دليل على ذلك حيث التدافع الشديد بين الحكام والمستعمرين من جانب، وبين المسلمين من جانب آخر، والنتيجة تغيير الغرب لحكام المسلمين، بحكّام آخرين مرضيين له، لذرّ الرماد في العيون، فإذا عقل المسلمون حسب ما ذكر في الكتاب والسنّة كان بينهم وبين الحكم الإسلامي مسافة قصيرة بإذن الله تعالى، وقد وعد هو حيث قال: (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)(4) وقال سبحانه: (ولن يخلف الله وعده)(5). |
|
نبذ الخلافات الثانوية |
|
من أهم بنود العقلانية العمل بالمستوى الرفيع، والذي منه توحيد الصف، فإن التنازع لا محالة يسبب الفشل، وهذا ما يجده الإنسان في بعض العاملين الإسلاميين، فترى كتلة تعمل للإسلام بإخلاص لكن في برنامجها التنقيص من الآخرين، أو تعمل من منطلق الاستبداد، وقد ورد في الحديث: (ولا تكونوا علماء جبارين فيذهب باطلكم بحقكم)(6) ، فهل يمكن جمع كلمة المسلمين والوصول إلى الهدف بأمثال هذه الأُمور؟. نعم قد عمل بعضهم أكثر من نصف قرن بهذه الكيفية فلم يصل، وقد يرى الإنسان بعض الكتل الإسلامية يشكون من عدم التفاف الناس حولهم، بينما المشكلة في كيفية السلوك. ثم إنه ربما يتصور البعض أن المشكلة في شيء هامشي لا يرتبط بالأمر، فيتصورون مثلاً لزوم توحيد بلاد الإسلام في أول شهر رمضان وشوال وذي الحجة، وما أشبه، وإن اختلفت آفاقهم، ويضيفون أنه كيف يمكن للمسلمين وحدة وأعيادهم وغيرها مختلفة وفيه: أولاً: كيف كان للمسلمين في الأزمنة الماضية وحدة مع اختلاف أعيادهم وغيرها من جهة اختلاف الآفاق، مضافاً إلى عدم الارتباط بين الأمرين إطلاقاً، فالهند لها وحدة سياسية وجغرافية وفيها مئات الأديان والمذاهب، والصين لها وحدة وفيها كثير من الاختلافات من هذا القبيل. ثانياً: نقول ـ استطراداً ـ إن في المقام سؤالين: السؤال الأول: ما هو الميزان في وحدة الأُفق وتعدده بالنسبة إلى من لا يقول باعتبار الآفاق وحدة واحدة؟. السؤال الثاني: كيف يُقال بالتعدد مع أن بعض الأدلة ظاهرها الوحدة مثل (جعلت رؤيتها لجميع الناس مرأىًً واحداً) وإن ليلة القدر واحدة وكذلك يوم عاشوراء وغير ذلك مما ألمع إلى بعضها صاحب (الجواهر) وغيره؟. الجواب: أما عن السؤال الأول: فنقول: لا إشكال في أن الحدود الجغرافية التي صنعها الغرب حول بلاد الإسلام لا اعتبار بها، فمن الممكن أن يكون قطر واحد له حدود جغرافية واحدة بينما بعض المدن فيه يرون الهلال فيفطرون، وبعض المدن فيه لا يرون الهلال فلا يفطرون، أما بالنسبة إلى البلاد المتقاربة فأفقها واحد، وأما بالنسبة إلى البلاد المتباعدة فإن رأى كل بلد فهو وإلاَّ لكل حكمه من الرؤية وعدمها، أما الأول فلصدق (إنما عليك مشرقك ومغربك)(7) وأما الثاني فلإطلاق (صم للرؤية وافطر للرؤية)(8). وإن قيل: أي ميزان للبلاد المتقاربة والمتباعدة.. قلنا: لا يهم الاسم بعد وجود الملاك في الدليلين الذين ذكرناهما. ثم إنه مقتضى القاعدة (عليك مشرقك ومغربك)، إلاَّ ما علمنا بالخروج بسبب تقارب الأُفق. وأما عن السؤال الثاني: فقول الإمام (عليه الصلاة والسلام): (إنما عليك مشرقك ومغربك)، ظاهر في الملاك، فماذا يُقال في أوقات الصلوات وفي الاعتكاف وفي أيام العادة الشهرية النسوية، وفي البلوغ وفي اليأس وفي سنة الخمس وفي الإقامة عشرة أيام بالنسبة إلى الصَّلاة والصيام وفي أعمال عرفات والمشعر ومنى لمن اختلف أفق بلده طلوعاً وغروباً عن أُفق تلك المشاعر، وفي صلاة الآيات بالنسبة إلى الآفاق المختلفة التي حصلت الآية في بعضها ولم تحصل في بعضها إلى غير ذلك، هذا كله بالإضافة إلى أنه في الزمان السابق حيث عدم الاتصال بين البلاد كان المعيار الأفق، ولو كان غيره لزم التنبيه عليه في الروايات، ولو لم ينبهوا، فهو دليل على العدم فإن بعض الأشياء مما طبيعته داخلة في كبرى (لو كان لبانَ). والأشكال بأنه يلزم أن يكون هناك عيدان وليلتان للقدر غير وارد. حلاً، بأنه لا مانع كما في أوقات الصَّلاة. ونقضاً: بما إذا كان ليل بلاد أمريكا مثلاً نهار العراق وبالعكس كما هو دائماً كذلك فلا بد أن تكون هناك ليلتا قدر، ويوما عيد على كل تقدير، سواء قلنا باتحاد الأفق أو باختلافه، هذا بالإضافة إلى أن ولادة الهلال من جهة محل البحث على أربعة أقسام: الأول: أن يولد أول المعمورة من الشرق وهذا ما يراه الكل ولا كلام فيه. الثاني: أن يولد وسط المعمورة بحيث لا يراه الشرق ويراه الغرب من المعمورة. الثالث: أن يولد آخر المعمورة من الغرب بحيث لا يراه إلاَّ الغرب. الرابع: أن يولد حيث لا معمورة فلا يراه أحد رؤية خارجية، بحيث لو فرض أنه كان هناك إنسان لرآه. فنقول في القسمين الثاني والثالث يقول كل من قال بأن لكل أفق حكمه بذلك، أما القائل بوحدة الآفاق فيقول بلزوم جعل أول الشهر حسب رؤية بعض البلاد وسطاً أو آخراً بالنسبة إلى الكل، وهذا ما عرفت الإشكال فيه نقضاً وحلاً. وفي الرابع لا يقول به حتى القائل بوحدة الآفاق، مع أنه يلزم أن يقول به لاضطراب دليله في ذلك أيضاً، وعليه فيلزم عليه أن يفحص عن المنجمين ومن أشبه ولو بمعيار التعدد، والعدالة التي يقولها الشيخ في أهل الخبرة، وأن يسكن هذا القائل هناك بعضاً ممن يراه عند الولادة ليخبره بالولادة إن كان قادراً على الإسكان، فيحكم بالإهلال وإن لم يره أحد في المعمورة، فهل يقول هؤلاء بمثل ذلك؟ أو يعملون بمثل هذا العمل؟ فتأمّل. |
|
الخلاف الفقهي |
|
ثم أنك قد عرفت أن ما كان ليله نهاراً وبالعكس لكل بلد حكمه على حدة بلا إشكال عند الجميع، أما نزول الملائكة على الحجة (عليه الصلاة والسلام) فهو في الأفق الذي هو موجود فيه، ونحن مكلفين بذلك وقد يُقال بجواب آخر بالنسبة إليه (عليه الصلاة والسلام). ثم إنه إذا كان الفقهاء المراجع يرى بعضهم اتحاد الآفاق وبعضهم اختلافها فملاحظة أكثرية الآراء لما ذكرناه من دليل الشورى الحاكم على أدلة التقليد في كتاب (فقه الدولة) وغيره، ولو كان هناك مرجعان فقط فاللازم أن تكون هناك لجنة من الفقهاء محكمة في أن الحكم مع هذا أو ذاك، ويؤيده إرجاع الإمام (عليه الصلاة والسلام) بعد التنازع في القاضيين إلى الروايات، وما نحن فيه أهم من ذلك فيفهم بالملاك الأولوي، وعليه فاللجنة المحكمة هي التي تكون المرجع الأخير حول اتباع المسلمين لهذا الرأي، أو لذاك الرأي والله العالم المستعان. |
|
دور اللغة في وحدة الفكر الإسلامي |
|
وكذل ك يلزم إحياء لغة العرب التي هي لغة القرآن الحكيم والسنة المطهرة، ولغة المسلمين عموماً في صلاتهم وقرآنهم، وأدعيتهم، وحجهم، وسائر شؤونهم لفظاً وكتابةً، في قبال إماتتها في بعض بلاد الإسلام مثل تركيا على يد أتاتورك، وفي الهند أحيوا اللغات السنسكريتية ونحوها، وذلك ملازم لإماتة اللغة العربية، وكذلك في البلاد الشيوعية كالاتحاد السوفيتي والصين وغيرهما، ومعنى ذلك انفصام المسلمين في تلك البلاد عن سوابقهم من ناحية وعن الالتحام في الأُمة الواحدة، مع سائر المسلمين من ناحية ثانية، ولذا نجد أن البريطانيين والفرنسيين والروس ومن إليهم من سائر المستعمرين يصرّون على تعميم لغاتهم في كل البلاد المستعمرة لهم، بل وفي غير المستعمرة، وقد كان من أسباب سقوط العثمانيين أنهم أداروا ظهورهم للّغة العربية واهتموا بكل قواهم السياسية بالتتريك، حتى أن في البلاد الخاضعة لهم كانوا يصرّون على تعليم اللغة التركية للجيش وغير الجيش، فكان الموظف التركي الرفيع المقام المسيطر على جماعة من الموظفين أو الأهليين يأخذ الأشياء ويسميها باللغة التركية، ثم يطلب من المستمعين أن يكرروا تلك اللغة على ذلك الشيء ليتعلموا، ومَن أبى منهم أو لم يتمكن التلفظ بلغة الترك كان يعرّض للعقاب من رئيسه بالضرب والسجن والإبعاد والغرامة وما أشبه. مثلاً كان يأخذ بيده حجارة أو إناء ماء أو قطعة خبز أو قلماً أو محبرة أو كتاباً أو ما أشبه ثم يسمي ما أخذه بيده باللغة التركية، ويطلب من السامعين ترديد ذلك اللفظ التركي، فإذا أبوا أو لم يتمكنوا نالوا عقابهم، وكان هذا بالإضافة إلى علل أُخرى عاملاً في كراهة الأُمة الإسلامية لهم حتى إذا هجم عليهم الغرب لم يجدوا مَن يساعدهم في البقاء، وقد رأينا كيف سقط البهلوي والملكيون الأول والثاني في العــراق، وملوك مصر وغيرهم، فكان مثل هؤلاء من جهة عدم مساعدة المسلمين لهم ساعة الأزمة كما قال الشاعر في خليفة من الخلفاء العباسيين، مات وخليفة آخر قام مكانه. الله أكبـــر لا صبــر ولا جلد ولا عـــزاء إذا أهـــل البلا فقدوا خليفة مات لم يحزن له أحد وآخــــر قــام لم يفـــرح به أحـد وقد نشر الاستعمار الغربي في البلاد غير العربية أن اللغة العربية لغة الاستعمار العربي، وكان ذلك في قمته في الهند وأندنوسيا وبلاد أفريقيا وإيران وتركيا وما إلى ذلك من البلاد غيــر العربية، بينما هنالك فرق بين الاستعمار وغير الاستعمار، فالأول يجمع الخيرات لنفسه ويذل الأهلين أيما إذلال، بينما الثاني يعز الناس ويريد الخير للجميع، ويرى المسلمين أُخوة ولعل الأدل على ذلك أن الحكومات والعلماء والأثرياء الذين توالوا على بلاد الإسلام قبل دخول المستعمر ورواج القوميات كانوا من كل لغة وجنس حسب الأُخوة الإسلامية. فمثلاً من الحكومات كانت حكومة العربي والفارسي والتركي والهندي وغيرهم، ومن العلماء نرى العلامة والمحقق العربيين، وشيخ الطائفة والكليني الإيرانيين، والسيد مير حامد حسين ووالده الهنديين، والإيرواني والمامغاني التركيين، وإلى آخر القائمة الطويلة، وقد رأينا ذلك في العراق حين كانت بقايا الإسلام ولو كصبابة إناء أو كحشاشة نفس قبل نصف قرن تقريباً وهكذا كان حال التجار، فإنهم كانوا من كل اللغات والجنسيات. ثم إن الاستعمار جعل اللغة العربية في بلاد العرب أيضاً متفرقة مكسرة حتى تنقطع صلة العرب بلغة الإسلام ولغة قرآنهم وسنّتهم وتنقطع صلة بعضهم ببعض، ومن لاحظ اللغة العربية العامية في العراق وفي سوريا وفي الحجاز رآها لغات ثلاثاً لا لغة واحدة والتفاهم بينهم ليس كتفاهم أهل لغة واحدة، وكلها وإن كانت مشتقة من اللغة العربية لكنها ليست عربية، وفي البلاد غير العربية أخذ الاستعمار بسبب عملائه يخرج الألفاظ العربية القليلة أيضاً في تلك البلاد، مما بقيت من الحالة الإسلامية، وبدّل مكانها الألفاظ المحلية، وانظروا إلى إيران مثلاً في أيام الإسلام كيف مثل (مهيار) الديلمي و(صاحب بن عباد) و(الفيروز آبادي) صاحب القاموس و(بديع الزمان) الهمداني وغيرهم وغيرهم، أما اليوم فلا أثر لأحدهم، كما أنه في أيام الإسلام كيف أنتجت (ابن سينا) و(الآخوند) الخراساني و(الشيخ الأنصاري) و(المجلسيين) ومن إليهم، وحتى في الشعر الفارسي أنتجت أمثال السعدي والحافظ ومن إليهما، وكل ذلك كان من آثار الكتاب والسنة، فإن التيار الكهربائي لو انقطع وقف كل الإنتاج من الإضاءة والتبريد والتسخين والحركة وغيرها. نعم لما جاء الإسلام غمر النور البلاد كلها، وعنــد غروبه إن بقي شيء فالباقي مثل أنوار الحباحب المنتشرة في أبعاد متفرقة. يقول كتاب (التبشير والاستعمار) بما ننقله من دون ذكر أسماء الأشخاص الذين ذكرهم لعدم الخصوصية في تلك الأسماء وإنما نجعل مكانها كلمة فلان والنقل أيضاً باقتضاب يقول المؤلفان: [يرى أكثر الهاجمين على استعمار الشرق أن تقطيع أوصال العرب بل المسلمين لا يمكن أن يتم مادام هناك لغة واحدة يتكلمها العرب ويعبرون بها العرب والمسلمون عن آرائهم، وما دام هناك حرف عربي يربط حاضر المسلمين إلى تراثهم الماضي، فإذا حمل المبشرون والمستعمرون العرب على الكتابة باللغة أصبح لكل قطر عربي لغة خاصة به، أو لغات متعددة، ثم إذا هم استطاعوا أن يحملوا المسلمين على التخلي عن الحرف العربي وإحلال الحرف اللاتيني مكانه انقطعت صلة العرب تماماً بأدبهم القديم وبالمؤلفات الدينية واللغوية والأدبية والتاريخية والفكرية، وحينئذ يصبح العرب وحدات لغوية فكرية غير متعارفة، ثم تتناثر هذه الوحدات مع الزمن فيسهل إخضاعها بجهد أيسر من الجهد الذي تحتاج إليه هذه الغاية الآن، وكان زعيم الحركة الرامية إلى الكتابة بالعامية وبالحرف اللاتيني الاستعماريون الفرنسيون، وعلى رأسهم المستشرق الفرنسي والموظف في قسم الشؤون الشرقية في وزارة الخارجية الفرنسية فلان، ولقد حاول هذا الرجل أن يبث دعوته هذه في المغرب، وفي مصر، وفي سوريا، ولبنان خاصة، وكذلك سعى لهذه الغاية مبشرون واستعماريون من أُمم أُخرى، أما ما يتعلق بلبنان خاصة وهناك محاولات عملية كثيرة لم تنجح ولن تنجح إن شاء الله. ومن هذه قواعد اللهجة اللبنانية السورية تأليف الأب فلان، ويحاول هذا الأب في مؤلفه هذا وضع قواعد ثابتة لهذه اللهجة، والكتاب موضوع بالفرنسية، والنصوص العربية منسوخة بالحرف اللاتيني، والكتاب طبع في المطبعة اليسوعية التحفة العامية في قصة فلان، نشرها الأب فلان اليسوعي مؤلفه بلغة لبنان العامية، وتمثل ناحية هامة من حياة اللبنانيين، وهنالك محاولات كثيرة مثل هذه، ومع أن جميع المحاولات الأُولى قد خرجت من المدارس الفرنسية ويجب أن نستثني من جملة هذه الحركة نفراً من الأساتذة ليس هذا رأيهم، وبعد أن نامت فكرة الكتابة العامية بالحرف اللاتيني رجعت من جديد وتحت ستار تسهيل اللغة إلى الاستيقاظ وآخر ما ظهر في هذا الباب تبسيط قواعد العربية وتبويبها على أساس منطقي جديد تأليف الدكتور فلان، أحد أساتذة التاريخ واللغات السامية في الجامعة الأمريكية في بيروت، أما الأساس الجديد الذي يقترحه هذا المؤلف فهو موضع جدال كبير. ويبدو أن الدكتور المذكور يريد أن يجعل من اللغة العربية الفصحى والحرف العربي مشكلتين يستحيل حلهما، ولذلك هو يرى أن ينتقل العرب إلى الكتابة العامية وبالحرف اللاتيني أنه يبسط رأيه هذا على منحني كبير وبشيء من التهكم كان يجب أن يترفع عنه من يدعو إلى أساس منطقي جديد، انه يقول: يطالب مثلاً بعض الناس بتبني الحرف اللاتيني تفسيراً للقراءة وتخفيضاً لنفقات الطباعة ونحن من المؤمنين بهذه النظرية، ولن نرى حلاً للكتابة إلاَّ بتبني الحرف اللاتيني وضبط الكلمات فيه مرة واحدة، وأما الذين لا يرون مشكلة في الأمر وهم من لم يمارس التعليم، فيقولون هؤلاء جماعة خارجون عن العروبة والإسلام، ويطالب بعض الناس بتيسير قواعد العربية لتقرب من العامّية أو لرفع العامية لتقرب من الفصحى، ويتساءل البعض الآخر وهل العربية معقدة لنبسطها أو عسيرة لنيسرها، إنما أنتم جماعة خارجون على العروبة والإسلام، لماذا يثور الناس كلما طالبنا بالتيسير، لماذا يتّهمونا بالخروج، الأمر بسيط الجهل الجهل، عدو العرب الأكبر. ويقول الدكتور: ولكن لا يصح اعتماد اللغة كما تحدرت إلينا مدونة مصدراً لدراسة اللغة في عهودها السابقة، وذلك لأن الذين استنبطوا قواعدها وضبطوا أحكامها اعتمدوا الشعر الجاهلي أولاً، ثم القرآن الكريم مادة لغوية، ومتى كانت لغة الشعر ولغة الأدب والدين مرآة تعكس لغة الناس في معاشهم ومكاسبهم، ويقول: ولكن تجدر بنا الإشارة أولاً، إلى أن الجمع ـ أي جمع الكلمات في القواميس ـ تناول لغات عربية كثيرة، وكان الحماس للجميع بالغاً مبلغه، فأقحموا هذه الكثرة دون روية في التحقيق، وليس في قولنا هذا ما يقلل من احترامنا لأُولئك العلماء الأفذاذ، ولكن عمل المعاجم لا يتم بالطريقة الفردية، غير أن من يعرف لسان العرب أو التاج أو القاموس لا يستطيع إلاَّ أن يرفع قبعته إجلالاً لجامعيها ويقول فإن علينا في مواقفنا الرسمية أن لا نتكلم بلغة الأجيال الغابرة وأن نعبّر عن أحاسيسنا ودواخلنا بلغة وقفت في مجراها عند نقطة معينة في الزمان والمكان]. ومن المعلوم أنه يقصد الدكتور بالنقطة المعينة ظهور الإسلام عندما أُحيطت بهالة من التقديس، وعندما سيج حولها بسياج من الأحكام، فوقفت في تطورها عند هذه النقطة من الزمان والمكان، ويقول: [نحن نعلم أن الفصحى بعد أن أصبحت لغة الدين واللغة الرسمية أخضعت للقيود التي يفرضها الصرفيون والنحويون، غير أن منزلة العربية قضيت أن يسيج حولها بسياج من الأحكام والقواعد الشديدة، ولكن نشاط العرب توقف عند زمن معين، إذاً لا يمكن للشعب السامي أن يكون قد أسهم في خلق العلم والفلسفة، والفن، لأن أساس العلم والفلسفة والفن اللذة العقلية والشرف الروحي والرغبة الملحة في استجلاء غوامض الكون، واللغة ظاهرة إنسانية لا علاقة لها بالآلة، ولم تهبط من شاهق، بل نشأت من أسفل، وتحاول هذه المدرسة فرض هذه الفصحى بالشكل الذي وصلت به إلى الناطقين بها من نقطة معينة بالزمان والمكان على مجتمع ابتعد عن هذه النقطة أو قل على مجتمع يسير مع الحياة، فهو لا يعرف الجمود، أقول لنفسي: يجب أن تخضع العربية لي وأن تلين لفكري لا أن يخضع فكري وعلمي لقوالب معينة تروق لأذواق جيل من الناس ماتوا منذ مئات السنين، إننا ناقمون على القواعد. إن وضع الأحكام يقيد اللغة إنه يقف في مجراها الطبيعي ويسد عليها الطريق كما حدث للغة العربية الفصحى، فإن وضع الأحكام لها أوقف عمل القواميس اللغوية عند نقطة معينة في الزمان والمكان، ولكن للناس أن يسألوا ماذا سيحل بالقرآن الكريم؟ وماذا سيحل بالأدب القديم؟ وجوابنا هو: إن القرآن الكريم سيخلد، سيبقى على ما هو عليه كما بقيت كتب دينية عديدة مع انحراف لغة الناس، عن لغة هذه الكتب، ويصر الدكتور فلان بأن طبع الكتب والمجلات بالحرف العربي ليس مشروعاً اقتصادياً وأن الطبع بالحرف اللاتيني أكثر توفيراً للوقت والمال، انتهى باقتضاب]. ومن المعروف أن أتاتورك فعل نفس الأمرين، فغير اللغة العربية إلى لغة غير عربية، كما غير الخط العربي إلى الخط اللاتيني. وأنا أذكر في العراق أبان المد الأحمر الشيوعي كيف كانت الجرائد والمجلات تكتب باللغة العامية، والمشاهد الآن في إذاعاتنا العربية أنها تتكلم الفصحى وتتكلم اللغة العامية، بحجج واهية، والكلام في هذا المبحث طويل نكتفي منه بهذا القدر.
|
|
1 ـ سورة البقرة: الآية 189. 2 ـ سورة التوبة: الآية 36. 3 ـ سورة البقرة: الآية 185. 4 ـ سورة محمد: الآية 7. 5 ـ سورة الروم : الآية 6. 6 ـ الكافي: ج1، ص36، دار الكتب الإسلامية ـ طهران. 7 ـ الوسائل ج3 ص 145 باب 20 ح2. 8 ـ الوسائل ج7 ص183 باب3 ح5. |