الفهرس

فهرس الفصل الأول

المؤلفات

 الثقافة الإسلامية

الصفحة الرئيسية

 

تاريخ الاحتلال الغربي للعالم الإسلامي

تأريخ الاحتلال الغربي للعالم الإسلامي كما ذكره بعض الكُتّاب الإسلاميين كما يلي:

الأول: الاحتلال الفرنسي سنة 1830 للجزائر، وسنة 1881 لتونس، و1882 للسنغال، و1882 لمدغشقر.

الثاني: الاحتلال الإيطالي عام 1911 لليبيا، و1887 للصومال وارتريا.

الثالث: الاحتلال الإسباني عام 1914 الريف لم يتم احتلاله إلاَّ عام 1926.

الرابع: الاحتلال الروسي 1581 لسيبيريا، 1654 لدولة أسيرخان، و1670 لأراضي مسلمين أورال، و1864 لجزيرة القريم بالبحر الأسود، و1864 لبلاد القوقاز، و1859 لطشقند، و1882 لبخارى، وجنوة عام 1884.

الخامس: الاحتلال الهولندي عام 1621 لجزيرة جاوة، و1874 لجزيرة سوم.

السادس: الاحتلال البريطاني 1757 للبنغال، و1849 للبنجاب، و1815 لنيجريا، و1882 لمصر، 1898 للسودان، و1916 للعراق، و1920 للأردن وفلسطين، و1870 لزنجبار، و1878 لجزيرة قبرص.

أما ما كان احتلالاً بدون اسم فكثير، والتي منها تشاد، وإيران، وبلاد المسلمين في الهند، وتركيا وغيرها.

كيف تحطمت بلاد الإسلام؟ ولماذا؟

تركيا ومقاومة الغزو الغربي

كانت دول أُوروبــا قد أجرت عشرات المحاولات للسيطرة على تركيا وتمزيقها، ضمّنها الوزير دجوفارا في كتاب له باسم (مائة مشروع لتقسيم تركيا): قال فيه:

[إنه في خلال ستة قرون متتابعة كانت الشعوب الأوروبية تهاجم الدولة العثمانية. وكان الوزراء، ورجال السياسة وأصحاب الأقلام يهيئون برامج تقسيم هذه السلطة (وقد أخذ هذا العداء بين الدولة العثمانية، والدولة الأوروبية ـ بحق أو بغير حق ـ طابع عداء بين الإسلام والمسيحية حتى كان الأوروبيون يرددون دائماً المطالبة بعمل مشترك لدحر الإسلام على ـ حد تعبير دُجُوفَارا ـ. وبينما استطاع العالم الإسلامي أن يحتضن الجماعات المختلفة من أصحاب الأديان والنحل، والفرق والملل، قاومت أوروبا المسلمين عن طريق الأندلس (أسبانيا المسلمة) وعن طريق البلقان (تركيا الإسلامية) وقد شهد الأوروبيون شهادة صريحة بالتسامح الديني العظيم، الذي أولاه المسلمون للمسيحيين والحرية الدينية التامة، وكذلك الحرية المدرسية التي أتاحت لهم النمو والرقي.

ولقد ظلت بريطانيا وفرنسا وروسيا سنوات طويلة تعمل للقضاء على دولة الرجل المريض وتحول دون قيام نهضة أو قوة في العالم الإسلامي من شأنها أن تجدد شباب الإمبراطورية أو تبني دولة جديدة وذلك رغبة في تمزيق كيان الدولة العثمانية والقضاء عليه، وتفتيت أجزائها إلى دول صغيرة تقع تحت نفوذها، وقد عمدت منذ وقت باكر إلى استقطاع الجزائر وتونس ومصر، وإقامة حكم خاص في لبنان ـ بعد أن أثارت بريطانيا وفرنسا (الموارنة والدروز) إلى معركة دامية سنة 1860 كحلقة من حلقات هذا التمزيق للدولة الإسلامية الكبرى ـ.

وكانت أكبر أعمال التمزيق هي الوقيعة بين الأتراك والعرب باعتبارهما العنصرين الأساسيين الكبيرين في هذه الوحدة، وكان للأقليات دور كبير في هذه المعركة الخطرة عن طريق الصحافة والمؤامرة وإثارة الخصومات، وكان الهدف الذي ترمي إليه القوى التي كانت تهاجم الدولة العثمانية، وتدعو إلى انفصال العناصر، وقد انحرفت الدولة العثمانية عن الإسلام أيما انحراف، فالضعف في الداخل والقوة في الخارج، اتفقا على سقوط الدولة العثمانية.

وقد قادت جماعة (الدونمة) (اليهودية التي أسلمت كيداً) في سالونيك قيادة هذه المعركة تحت أسماء مختلفة أهمها حركة حزب الاتحاد والترقي، واتخذت من مقرات المحافل الماسونية مراكز لها للعمل، وخلقت في فترة طويلة تزيد عن أربعين عاماً حركة ضخمة. كما حملت هذه الحركة الشعوبية الضخمة ـ التي كانت مصر أكبر مراكزها، حيث كان البريطانيون يفتحون الأبواب لجماعات مختلفة من الدعاة، وأصحاب الصحف من مختلف الأجناس والأديان ممن يجمعهم العداء للإسلام ـ تحت لواء العمل لتحقيق أشياء كثيرة تحققت فعلاً قبل وبعد الحرب العالمية الأولى.

أولا: تمزيق الدولتين العثمانية والإيرانية التي كانتا تمثلان قوة إسلامية كبرى، وتجد لها في مسلمي الهند وإندونيسيا ومختلف أنحاء العالم الإسلامي صدى وتأييداً.

ثانياً: السيطرة على أجزاء الدولتين ووضعهما تحت سلطان الاحتلال البريطاني والفرنسي وغيرها.

ثالثاً: إقامة إسرائيل في فلسطين قلب العالم الإسلامي.

رابعاً: إقامة لبنان المسيحي كذلك.

خامساً: تمزيق إيران وجعلها دولاً.

ومن هنا فقد كانــت خطة القضاء على الدولة العثمانية والإيرانية هدفاً أساسياً للقوى الاستعمارية وللأقليات المختلفة الموالية للنفوذ الاستعماري الغربي والشرقي وهدفاً أساسياً أيضاً للحركة الصهيونية الوليدة.

وقد تحقق فعلاً في عام 1908 (إعلان الدستور العثماني) وظن المسلمون أن الدولة العثمانية تواجه عصراً جديداً يتحقق فيه مزيد من الحرية والعدالة حسب المنهاج الإسلامي. بيد أن النظام الذي قام وتوطد، إنما كان يمثل اتجاهاً مخالفاً للتيار الإسلامي، ومعارضاً له، فقد استهدف حزب الاتحاد والترقي الذي تولى السلطة منذ ذلك التاريخ إلى نهاية الحرب العالمية الأُولى، تنفيذ مخطط الجامعة الطورانية في محاولة لتتريك عناصر الدولة العثمانية، ومن هنا فقد وقع الصدام بين العنصرين الكبيرين في المملكة وهم: الأتراك حكاماً، والعرب محكومين، وتأججت حركة الدعوة إلى العروبة الجامعة في مواجهة محاولة إلغاء الوجود العربي عن طريــق فرض اللغة التركية في المحاكم والمدارس في نفس الوقت الذي انتشرت فيه الدعوة إلى إعلاء تاريخ طوران والانتقاص من تاريخ الإسلام وبذلك تمزقت الوحدة العثمانية وانتهت الحرب بهزيمة تركيا، واستيلاء بريطانيا وحلفاؤها على الأجزاء العربية من الإمبراطورية والتنكر للعهود المعقودة بإقامة دولة عربية مستقلة.

وقد كان من الطبيعي أن يسقط النظام كله بعد هزيمة تركيا في الحرب العالمية، واحتلال الحلفاء واليونان لأجزاء منها، ولما كانت الدولة الأُوروبية قد حققت بذلك القضاء على الدولة العثمانية، وتمزيق أوصالها، فقد بلغت من ذلك نهاية الشوط، وهي تحويلها من دولة الخلافة إلى دولة علمانية لا دينية تتنكر لكل قيم الإسلام ومفاهيمه وأنظمته، وذلك عن طريق الانقلاب العسكري الذي قام به مصطفى كمال، وسيطر به على كل مقدرات تركيا وصفى به جميع النظم.

لقد مرت الدولة العثمانية بفترة جمود وتخلف في مجال الثقافة والمجتمع، كان مصدرها متصلاً بالجبرية التي سادت باسم الدين، ولكن هل كان الإسلام في حقيقته مصدر التخلف والضــعف والهزيمة، أم كان التخلف عن مفهوم الإسلام الأصيل القادر على الحركة والقوة والحياة هو سبب الهزيمة؟.

لقد عزي إلى الإسلام ما أصاب تركيا من هزيمة وتخلف وضعف، ومن الحق أن يُقال إن تركيا تخلفت عن مفاهيم الإسلام في القوة والعدل والحرية، منذ سنوات طويلة، يوم تجمدت في حركة التقليد والجبرية، وعجزت عن مجاراة الغرب في تقدمه العلمي. وهذا التقدم الذي كان مصدره العالم الإسلامي أساساً، وكان قادته المسلمون أنفسهم أولاً.

ولكن الاتهام وجه إلى الإسلام رغبة في تشويهه والقضاء عليه، وخلق جو عام مسمم ضده في العالم الإسلامي، وقد كان العثمانيون يرتكبون أبشع الجرائم باسم الإسلام، من القتل والسجن والاستهتار بالقيم والاستبداد وسياسة التتريك وإذلال المسلمين، وقد أسروا نساء العراق كأسارى الكفار، كما حاربوا مدينة كربلاء والحلة بما لم يفعله حتى المغول، وبعد أن استغربت تركيا لم تلتفت إلى جوانب القوة في الحضارة الغربية، ولكنها عمدت إلى تقبل جوانب الخلل من الحضارة وحدها، وكان أبلغ مظاهرها: تطبيق قوانين الأحوال الشخصية السويسري، وفتح أبواب المراقص، وزواج المسلمة بغير المسلم، وإلغاء المظاهر الإسلامية كلها، وإلغاء الحروف العربية للغة التركية، واستبدالها بالحروف اللاتينية وكتابتها من اليسار، وقد نفذت فعلاً مخططاً كان مرسوماً لها في المعاهدات التي عقدتها مع الدول الغربية، والمعروف أن تركيا قبلت شروط الصلح الذي عقده الحلفاء معها في لوزان عام 1923. شروط كرزون الأربع وهي:

1 ـ قطع كل صلة بالإسلام.

2 ـ إلغاء الخلافة.

3 ـ إخراج أنصار الخلافة والإسلام من البلاد.

4 ـ اتخاذ دستور مدني بدلاً من دستور تركيا القديم، وقد استجاب مصطفى كمال لهذه الشروط، ونفذها وذلك بتنفيذ المخطط الغربي كاملاً وذلك:

1 ـ اعتماد القانون المدني السويسري وقانون العقوبات الإيطالي والقانون التجاري الألماني بديلاً للشريعة الإسلامية وفصل الدين عن الدولة.

2 ـ إلغاء الحروف العربية، وكتابة اللغة التركية بالحروف اللاتينية وتصفية اللغة من الكلمات العربية.

3 ـ الأذان باللغة التركية، وترجمة القرآن إلى التركية.

4 ـ الأحد عطلة أُسبوعية بدلاً من الجمعة.

5 ـ إلغاء الطربوش وحجاب المرأة.

6 ـ إلغاء وزارة الأوقاف والمدارس الدينية.

7 ـ إحلال التقويم الأُوروبي محل التقويم الإسلامي.

8 ـ قبول نظم الحضارة بلا تحفظ.

9 ـ الاتجاه نحو أوروبا والانفصال كلية عن العالم الإسلامي وآسيا.

10 ـ إلغاء الخلافة.

وقد صاحب هذه الخطوات حملات عنيفة في الصحف التركية اتجهت أولاً إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه وجرت عادة توجيه خطابات مفتوحة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تحت عنوان (إلى حضرة محمد). وهذا نموذج مما نشرته جريدة (كنج دوشوبخه لر) أي (الأفكار الفنية) بقلم قومندان أو غلي توفيق أول نوفمبر سنة 1928 و8 و14 و22.

قال في 8 نوفمبر سنة 1928 ما يأتي:

(أرأيت يا رسول الله كيف كنت لا تتحرج عن الاختصاص ببعض النسوة الأسيرات في كل غزوة تغزوها، وإقرارات المشايخ والخلفاء على هذه الرذيلة، بل كنت مصداقاً لعقود أنكحتهم بتواضع عاقد الأنكحة، كيف لا. وقد كنت أمامهم والقدوة التي يتبعونها. فهذا الرجل الذي لا يملك قوت يومه يتزوج لعدة نساء. لأنك قلت له إن هذه سنة وصاحبه مأجور عليه، فكنت بذلك سبب نكبة ملايين العائلات، وانتشار ملايين الأطفال في الشوارع، وأنت أنت وحدك (والخطاب للنبي) سبب تحولهم إلى جناة وأشقياء وأرذال وثرثارين. فهل ترتجف الكعبة كما ترتجف روحك من هول هذا، فلا قيمة للكعبة عندي إلاَّ والشيخ شلتوت، والشيخ محمد المدني. من حيث أنها ركام من أحجار وتراب يتألف منها بناء عتيق ذو سقف أخنى عليه الدهر ولا أعتقد أنها ترتجف إلاَّ بزلزلة أرضية.

وكان ختام الخطاب… (لقد خلصنا منك)!.

وتناولت هذه الصحيفة موضوعات واتخذت عبارات أشد عنفاً وهذا المحامي المدافع عن الانقلاب التركي لم يلبث أن ضبط متلبساً بتسليم خريطة حربية لدار سفارة أجنبية.

وكانت الدعوة من أتاتورك لم تقتصر على سفور المرأة التركية وبروزها، بل شملت اندماجها في المجتمع واختلاطها على أوسع معاني الاندماج والاختلاط، وقد أشار مؤرخ الغازي (محمد محمد توفيق) أنه كان يقيم حفلات الرقص، ويدفع الضباط دفعاً إلى محاصرة الفتيات. فإذا تراجعن قال لهم إنما هي أوامر عسكرية، وقد فتح أتاتورك المواخير والمراقص والحانات، وأخذ هو ووزراؤه يعبثون بفتيات الناس ونسائهم حتى في المدارس.

أما لبس القبعة فإن الجميع مجبرون على اكتساء القبعة، أما اتخاذ القانون المدني، فقد كان له خطورته لاتصاله بحياة المجتمع التركي الاجتماعية والعائلية والشخصية والاقتصادية، فقد هز الحياة هزّاً عنيفاً لقيامه على أُسس مغايرة للأُسس التي تقوم عليها الحياة الاجتماعية. وقد قضى منهاج حزب الشعب الذي ألفه الغازي عام 1927 على أن العلمانية (اللائكية) هي ركن من أركان مبادئ الحزب، ثم نص هذا الركن في صلب الدستور. وفي عام 1938 حذفت المادة التي تنص على أن الإسلام دين الدولة. وقد فسر معنى (العلمانية) على أن تقوم قوانين الدولة وأنظمتها على أساس ما يقرره العلم والفن، ويتسق مع أصول الحضارة الحديثة ومقتضياتها، واعتبر (الدين) أمراً وجدانياً خاصاً بالأفراد، وأن فصل الدين عن أمور الدنيا والسياسة أمر أساسي. كما دعا إلى صيانة اللغة القومية أي التركية عن تأثير اللغة والثقافة الأجنبية (أي اللغة العربية والفكر الإسلامي والثقافة العربية).

ولم يكن مصطفى كمال في حياته الخاصة، مستقيم السلوك، فقد عرفت عنه حياة مضطربة صارخة، وعرف بالسهرات الصاخبة الحافلة بالخمر، والقمار والجنس. ولذلك فقد كان مندفعاً إلى هذا الاتجاه بمزاج نفسي، بالإضافة إلى الظروف السياسية حسب توقيع شروط كرزون في معاهدة لوزان. مضافاً إلى العمالة للغرب، وقد اتخذ إيران البهلوي وأفغان أمان الله خان، نفس الاتجاه مع فارق، إن الأخيرين أسقطا هذا العبء عن كاهلهما، ولكن بقيت تركيا إلى الحال ترزح تحت هذا الثقل.

وقبل مرور عام على إلغاء الخلافة وقعت الثورة الكردية (شباط 1925) مطالبة بإعادة الإسلام، يقول كرافشوفسكي:

أُتهم النقاد مصطفى كمال بأنه كان ثملاً بخمرة الحكم، ونددوا بالأوباش الحقرين الذين أحاط بهم نفسه، واستنكروا حلقات السكر التي كانت تعقد في منزله الكائن في خفايا من أرباض أنقره، كما طالبوا بالحد من سلطته. وقد عمد إلى القضاء على المعارضة، فأعلنت وزارته في صيف 1926 اكتشاف مؤامرة لاغتياله، وبادرت إلى اعتقال عدد لا يستهان به من شبان الأتراك السياسيين ومؤيدي السلطان المخلوع وبعض المارقين من حزب مصطفى كمال نفسه وحكم على جماعة من الذين اعتقلوا بالإعدام وفرضت عقوبة النفي على الجنرال كاظم قرة بكير (وهو الرجل الذي كان له الدور الفعلي في انتصار تركيا في معركة سقاريا مع اليونان)… وسحق مصطفى كمال المعارضة وأصبح وحزبه سادة البلاد بلا منازع.

ثم لم تتوقف المعارضة، وظهرت حركات أُخرى تعلن رفض الشعب التركي لنظام مصطفى كمال وإجراءاته، وكانت هذه المعارضات تقابل بالقمع العنيف، وفي عام 1932 قضى على مجموعة كبرى بلغت أكثر من 150 من أعلام الفكر ورجال الدولة في تركيا بالإعدام بحجة مقاومة الثورة الكمالية، وكان الغازي قد ظن أنه ثبّت دعائم حركته فسمع بإنشاء حزب جديد، فلم يلبث هذا الحزب أن ضم كل خصوم النظام القائم، وبدأت معارضة واضحة لآرائه واتجاهاته حمل لواءها حزب النقشبندية وأدت إلى صدام مسلح دفعه إلى إعادة ضم قبضته مرة أُخرى.

وقد ذهب حكام أنقرة إلى القضاء على مختلف صور الإسلام في البلاد، بل أنهم أسلموا جامع أيــا صوفيا إلى بعض المهندسين الأجانب لإعادته إلى صورته الأُولى، فأزالوا ما فيه من آيات قرآنية وأحاديث، وكشفوا عما ستره المسلمون من القديسين والملائكة والصلبان ونحوها من نقوش المسيحية، ولم يكن ذلك في نظر كثير من الباحثين والمعلقين إلاَّ إنقاذاً للمنهاج الذي وضعوه، وأنهم إنّما فعلوا ذلك تقرباً إلى أُوروبا النصرانية التي التزموا محاكاتها في كل شيء.

نعم فعل أتاتورك كل ذلك، لكن الشعب المسلم التركي رفضه جملة وتفصيلاً، كما يدل على ذلك أُلف الشواهد، يقول محمد حسنين هيكل:

[عام 1949 لم أشهد قوة الإيمان بالدين في بلد شرقي إسلامي كما شهدته في تركيا، وربما كان سبب التعصب هو محاربة الحكومة التركية له، بكل الطرق، وليس هناك بلد شرقي إسلامي لا يذكر أهله القرآن إلاَّ بقولهم (حضرة قرآن كريم) وإذا سمعوا القرآن في أجهزة الراديو أطفأوا السجائر، وخلعوا الأحذية، وتربعوا على مقاعدهم هذا كله برغم الحواجز والعراقيل والحرب التي أعلنت على الدين حتى فرضت الحكومة أن يردد الأذان للصَّلاة باللغة التركية ـ يقول المؤذن (الله أكبر) باللغة العربية بالحروف اللاتينية، والخطيب يلبس القبعة ويدخل بها المسجد، ثم يخلعها ويضع عمامة، والمقاومة السلبية التي قام بها الشعب التركي لهذه السياسة مقاومة بديعة رائعة، لا تدخل بيتاً في تركيا حتى تجد المصحف موضوعاً في أعلى مكان فيه، ولا تركب سيارة تاكسي يملكها مسلم أو يقودها حتى تجد آية قرآنية بخط عربي جميل، ولا تدخل متجراً حتى تقابل نفس الشيء، ولا تدخل مسجداً في استامبول (وفي استامبول ألف مسجد) حتى تجد حلقات غاصة بالمصلّين.

ثم بدأت المقاومة تأخذ شكلاً عملياً، وكان خطباء المساجد يصعدون إلى المنابر ويبدأون الحديث. فإذا كل ما يقولونه ينصب على حكومتهم ووصفها بأنها حكومة كفار، وبدأت روح التذمر. وإذا بمنشورات دينية توزع في الطرق، ثم رأت الحكومة أنه من الخير أن تسمح بإصدار المجلات الدينية، فبدأت ست عشرة مجلة دينية تظهر، وبدأ الاكتتاب لبناء مسجد، وفي أوساط الفلاحين في الأناضول: سلطان الدين هو السلطان.

معظم الناس حتى الآن لا يستعملون الحروف اللاتينية، بل العربية، بها يكتبون، وبها يقرأون حتى الأطفال الذين لا يزيد عمرهم على خمس سنوات.

وفي أنقرة تجد بيوتاً تنتظر موعد إذاعة القرآن من محطة إذاعة القاهرة، وتجد حلقة كبيرة منعقدة حول الجهاز الذي ينبعث منه القرآن خافتاً مرتعشاً بتأثير ضعف محطة القاهرة].

[ونوع آخر من المقاومة: ذهب أحد المسلمين إلى المجلس الوطني يوم انعقاده وفجأة من شرف الزوار نهض أحدهم وصاح مؤذناً باللغة العربية بأعلى صوته وهجم الحرس يلقون القبض عليه، فنهض زميله ليكمل الأذان، وألقى القبض عليه، فاندفعت طائفة أُخرى فأكملت الأذان.

وفي اليوم التالي شهدت شوارع استانبول منظراً فريداً، حيث ذهب عدد كبير من أئمّة المساجد والخطباء والمؤذنين، وكان كل منهم يبحث عن جندي بوليس يعثر عليه فيقف أمامه ويصيح (الله أكبر) وتكرر المنظر في يوم واحد خمسين مرة، وقدمت الحكومة الذين أذنوا إلى المحاكمة والسجن أربعين يوماً. أما هذا العدد الأكبر من الناقمين فأحيلوا إلى مستشفى المجانين، ورأت الحكومة أن الحالة ستطول وتتحول إلى حركة خطيرة، فتقدم بعض النواب بمشروع لإدخال التعليم الديني اختيارياً في المدارس الابتدائية.

وكانت قد طمست بعض الآيات القرآنية باللغة العربية الباقية على بعض المستشفيات من عهد السلاطين فعادت ورفعت الطمس، وأظهرت الآيات، جدّدتها بماء الذهب، وكانت قد أغلقت قبور الأولياء، حتى أن نوافذها سدت بألواح عريضة من الخشب، فعادت أخيراً وفتحت النوافذ، جاء هذا بعد أن ظهر جيلان أو ثلاثة أجيال على درجة مخيفة من الإلحاد.

إن الهوة التي تفصل الأجيال القديمة والأجيال الجديدة الملحدة هوة سحيقة وهي من أعقد مشاكل تركيا، ومسجد أياصوفيا في تركيا تحول إلى كنيسة.. لقد جاءت الثورة التركية وقررت الحكومة أن لا يصبح مسجداً، بل يصبح متحفاً، لا تقام فيه الصلوات، وكانت تغطي جدرانه الآيات القرآنية بالذهب، وقد تبارى السلاطين في إهدائه المنابر، ثم تقدمت جماعة أمريكية وقالت: إن متحف أيا صوفيا يخفي تحت الآيات القرآنية وتحت نقوشه الإسلامية آثاراً بيزنطية نادرة قديمة، وأنها على استعداد للكشف عن هذه الآثار، ووافقت حكومة تركيا فأزالت النقوش الإسلامية والآيات القرآنية، وظهرت صورة تمثل أحد الأباطرة البيزنطيين يحمل في يده الصليب وفوقه مباشرة الآيات القرآنية وبعض أهالي تركيا المتدينين يقبلون على زيارة أيا صوفيا (ليتنسموا) العهد القديم، وبعضهم يحلو له أن يصلي الجمعة خلسة في هذا المتحف الغريب الذي تحول إلى كنيسة، فإن البعثة الأمريكية أزالت نصف المعالم الإسلامية في مسجد أيا صوفيا لتظهر الآثار البيزنطية لدرجة أن مدخل المسجد القديم أُزيل ما كان عليه من آيات قرآنية فظهرت تحتها صورة للعذراء المقدسة فوقها مباشرة الآية الكريمة (إنما يعمر مساجد الله) ولا يحتاج الزائر إلى حدة بصر غير عادية ليرى الدموع في مآقيهم وأسىً وحسرة على المسجد الشهير في تاريخ الإسلام الذي تحول إلى كنيسة في ظل حكومة تحكم شعباً كاملاً من المسلمين].

إيران ومقاومة النفوذ الأجنبي

الإسلام قضى على نفوذ الدولة الساسانية وقوض العرش الكسروي، غير أن فارس ظلت تقاوم انصهارها في العرب ثم استطاعت في ظل الدولة العثمانية أن تصبغ الحضارة والفكر بطابعها وأن تزيد نفوذها وتدعمه، فقد قامت الدعوة العباسية في خُراسان بزعامة أبو مسلم الخراساني، وأقامت عرشها في خُراسان، ثم كان من علو أمر البرامكة في ظل الرشيد، مما انتهى بالقضاء عليهم، وكان انتصار المأمون على الأمين تركيزاً للطابع الفارسي وضعفاً للعنصر العربي، ثم تقلص هذا النفوذ في عهد المعتصم الذي استعان بالأتراك وقد أقام المسلمون عديداً من الدول: الصفوية والسامانية والبويهية.

وقد انضوت إيران تحت لواء التشيع من أول يوم، كما أنها غيرت لغتها إلى العربية، لكن لما رأت ظلم الأمويين والعباسيين رجعت إلى لغتها مع الاحتفاظ باللغة العربية بكاملها.

وفي إبان غزو التتار للعالم الإسلامي سيطر المغول على إيران، ثم تركوها نهباً للولاة إلى أن قامت الدولة الصفوية 1499م. واستمرت إلى 1736م. وكانت إحدى الدول الإسلامية الثلاث: العثمانية في تركيا، والمغولية في الهند، وقد وقع الصراع بين العثمانيين والصفويين عهداً طويلاً.

كان الشاه إسماعيل الصفوي على مذهب الشيعة، وكان السلطان سليم يناصر السنة، ومن هنا فقد أصبح الخلاف بين إيران وتركيا، صراعاً بين المذهبين، إضافة إلى الصراع السياسي.

وقد غزا السلطان سليم إيران 1514. وهزم الإيرانيين ودخل السلطان سليم تبريز حاضرة إيران. ووالى الأتراك غزو إيران وارتدوا عنها، ولكنهم تركوا في النفوس خصومة وصراعاً بعيدي المدى، وقد أفاد النفوذ الاستعماري الغربي الزاحف على العالم الإسلامي من هذا الصراع.

ومن ثم عاود السلطان مراد الرابع 1635 زحفه على أذربيجان وملك تبريز وقصد إلى بغداد ليسترجعها من الإيرانيين فأخذوها عنوة وظل العراق في يد العثمانيين منذ 1638 حتى استولى عليها أخيراً الإنجليز 1920م، كما أن العثمانيين حاربوا إيران في ديار بكر وقتلوا من الشيعة مقتلة عظيمة قدّرها بعضهم بستمائة ألف.

ثم سقطت إيران تحت حكم الأفغان الذي كانوا جزءاً من إيران أيام الصفويين وعادت مرة أُخرى إلى حكم أبنائها. فقامت فيها دول الأفشار حتى 1750 والدولة الزيدية إلى 1794 والدولة القاجارية التي حكمت بين 1794 إلى 1925 حيث أحدث رضا خان انقلابه العسكري، واستولى على حكم إيران.

وقد وقع في هذه المرحلة التدخل المزدوج من الروس والإنجليز في شؤون إيران، وظل الصراع بين النفوذين مستمراً. وقد وقع حكام إيران تحت نفوذ بريطانيا وروسيا.

وكانت الحركة الإسلامية في إيران قد تأججت 1890 حين منح الشاه شركة إنجليزية حق احتكار تجارة التبغ مقابل نصيب من أرباحها، فأفتى العلماء برئاسة المجدد الشيرازي بتحريم التبغ، وأضرب الأهالي عن التدخين، فاضطر ناصر الدين شاه إلى إلغائه، بعد أن دفع نصف مليون من الجنيهات تعويضاً للشركة، ثم تأججت الثورة الإسلامية 1904ـ1905، للمطالبة بحكومة دستورية تقيد سلطة الشاه، وكانت أول ثورة على النظام الاستبدادي في الشرق، وكان بقيادة الآخوند الخراساني، واضطر الشاه إلى إعطاء الشعب الحكم الدستوري ـ 15/8/1906 ـ وأعلن الدستور 30 كانون الأول 1906 غير أن روسيا وإنجلترا لم تلبثا أن اتفقتا فيما بينهما 1907 على تقسيم إيران إلى منطقتي نفوذ تجاري، حيث عقدت بريطانيا مع روسيا الاتفاق الودي الثلاثي باقتسام مناطق النفوذ في إيران، حيث أصبح القسم الشمالي منها خاضعاً لنفوذ القيصر، والقسم الجنوبي لنفوذ بريطانيا ولم يبق إلاَّ جزء صغير ينحسر في طهران وما حولها. ووقعت على أثر هذا (الثورة الإسلامية الإيرانية 1908) الثورة الدستورية في تركيا. وقررت خلع الشاه محمد علي، وتولية الشاه أحمد بوصاية، وأعيد الحكم الدستوري. وقد استمر التنافس بين النفوذين الروسي والإنجليزي حتى فبراير 1918. حين رحلت القوات الروسية عن شمال إيران، واستطاع الإنجليز الوصول إلى بحر قزوين، والسيطرة على إيران كلها. وثم بدأ نفوذهم منذ 1918 يزداد قوة، حتى استطاعت بريطانيا عقد معاهدة 1919 التي أصبحت البلاد بموجبها تحت الحماية البريطانية، غير أن الروس أخذوا في مراجعة بريطانيا من جديد، حين توغلت قواتهم في شمال إيران، وكان ذلك مقدمة لحركة في الجيش الإيراني بزعامة رضا خان الذي كان من عمّال بريطانيا. وقد اتسعت هذه الحركة حتى استطاعت خلع أُسرة قاجار عام 1925، وبهذا بدأت إيران الحديثة حيث حكم رضا خان (1926ـ1941). وقد استطاع النظام الجديد أن يضرب الإسلام ضرباً كاملاً، ويربط البلاد بالاستعمار الأجنبي البريطاني ثم الألماني، فأغلقت المساجد ومنع الأذان، وألزم بهلوي النساء بخلع الحجاب، وغيَّر قوانين الإسلام إلى قوانين الغرب، ومنع عمة العلماء، وسيطر على المدارس الدينية، وفتح المواخير والحانات، وحطم اقتصاد إيران تحطيماً كاملاً، حيث ربط البلاد بعجلة الأجنبي.

وفي ظل هذا النفوذ الأجنبي أدخلت إيران النظم العسكرية الأُوروبية على جيشها وكان قد أنشأ ناصر الدين شاه أكاديمية العلوم والفنون عام 1852 على أساس أُوروبي، وكان أساتذتها من الأُوروبيين الذين يعلِّمون علوم الغرب وثقافته وتاريخه، وقد ترجموا إلى الفارسية كثيراً من الكتب في هذه العلوم، وظلت هذه الأكاديمية مركزاً لثقافة الغرب وعلومه حتى القرن العشرين، وفتح الفرنسيون والأمريكان والبريطانيون، ثم الروس والألمان، فيما بعد مدارس حملت مظاهر النفوذ العسكري لهذه الدول وتوزع عليها ولاء الإيرانيين.

وكان البترول أخطر العوامل التي أحاطت فارس بهذا التزاحم والصراع، وقد بدأ ذلك عندما عقد وليم دارسي (1801) مظفر الدين امتيازاً لاستغلال البترول (60 عاماً) مقابل عشرين ألف جنيه إنجليزي تدفع نقداً، وحصة ضئيلة من محصول الشركة المستقلة تبلغ 16 في المائة من أرباحها كل عام. وقد بدأت مع هذه الامتيازات قصة الصراع الكبرى بين الدول على هذا الامتياز، حيث استطاع الراهب روزنيلوم أن يحصل عليه من دارسي لحساب بريطانيا عن طريق تلك المؤامرة الرهيبة، وقد تبيّن أن هذا الراهب، وهو جاسوس يهودي (سكرني ريللي). كان يعمل في دائرة المخابرات، وكانت الدائرة قد عهدت إليه بالحصول على امتياز دارسي لشركة نفط بورما التي كانت تمدها إمارة البحر البريطانية بالعون، والتي سميت في نفس العام 1908 شركة النفط الإنجليزية الفارسية.

ومنذ ذلك التاريخ والبترول هو العامل الهام والخطير الذي يحرك الأحداث في إيران، فقد تدخلت بريطانيا لتحول دون وقوع صفقة البترول الإيراني في أيد غير بريطانية، حيث استطاعت تموين الأسطول البريطاني العامل في الباسفيك وبحار الصين، والمحيط الهندي والبحر الأبيض. وفي عبادان: بنت أكبر مصفاة لتكرير البترول في العالم بالإضافة إلى مكانتها الاستراتيجية على خطوط المواصلات بين الشرق والغرب، وجاءت الحرب العالمية الأُولى فكان إنتاج مصفاة عبادان 270 ألف طن من البترول، زادت عام 1918 إلى تسعمائة ألف طن، وبعد الحرب العالمية الأولى، أصبحت إيران الدولة الرابعة في إنتاج البترول في العالم والدولة الثانية المصدرة للبترول بين دول العالم، وفي عام 1951 حيث قامت أكبر ثورة من أجل تأميم البترول، كانت الآبار في عبادان تنتج اثنين وثلاثين مليوناً من أطنان البترول، وفي ظل نفوذ البترول إبان الحرب العالمية الأُولى، وقع شاه إيران معاهدة تمثل الحماية البريطانية المقنعة، حيث تعهدت بريطانيا بتنظيم الجيش الإيراني، ومنح إيران ما يلزمها من المال، غير أن الحلفاء لم يلبثوا أن احتلوها، ثم اتفقوا على اقتسام أسهم شركات البترول في إيران والعراق بين فرنسا وأمريكا وبريطانيا بحظوظ متعادلة.

وتجدد الحديث حول البترول عندما تولى رضا خان أمر إيران وبعد أن أنهى حكم أسرة قاجار، عام 1925، حيث جرت المفاوضات لتعديل اتفاقية العمل في خطوة جريئة هي تأميم البترول ضد الشاه وبريطانيا.

ولا شك أن معركة النفط عام 1951 من أحداث العالم الإسلامي الكبرى بما آلت إليه من هزيمة للقوى الإسلامية وانتصار للاستعمار ونفوذه وهي وإن انتهت هذه النهاية، فقد تركت بصماتها في أحداث الشرق كله، وما تزال تفعل الكثير، ثم لم يلبث أن ظهر عامل جديد في الأمر. فبعد أن كان الصراع بين نفوذي بريطانيا وروسيا أصبح النفوذ ثلاثياً بين أمريكا وبريطانيا وروسيا.

وقد كشفت معركة تأميم البترول أن المفاهيم الإسلامية والثقافة الإسلامية ما تزال عاملاً هاماً في الحركة الوطنية والسياسية، فقد قاد زعماء الشيعة حركة تأميم البترول بزعامة السيد الكاشاني. وكان رجال الكتلة الوطنية من أتباعهم، وقد ظل النصر معقوداً لهم، حتى إذا وقع خلاف بين الكاشاني ومصدق، بدأت كفة الاستعمار ترجح.

ولمعت فكرة التأميم في 22 أكتوبر سنة 1947 حيث أصدر مجلس النواب الإيراني قراره برفض منح امتيازات جديدة لأي رأس مال أجنبي للبحث عن البترول في إيران، وأضاف القرار العمل على مفاوضة شركة البترول الإنجليزية ـ الإيرانية ـ لرفع نصيب إيران من بترولها إلى 30 في المائة، غير أن لجنة البترول في مجلس النواب لم تلبث أن أصدرت قراراً مفاده أن خير عمل هو (تأميم البترول) وسقطت الوزارة، وجاءت وزارة رزم آرا الذي اتفق الإنجليز والأمريكان والشاه على أنه أقوى رجل في إيران لمواجهة الموقف، في مقابل المسلمين الذين يريدون الاستقلال.

ولم يلبث رزم آرا في الحكم أكثر من أربعة شهور، ثم دوت أربع رصاصات أردت رئيس الوزراء قتيلاً، وقال قاتله (خليل طهماسبي): نعم: قتلت رزم آرا، ولم يكن لي شركاء في شرف قتل الخائن، وأصدر نواب صفوي رئيس جمعية (فدائيان إسلام) بياناً قال فيه: إن البطل الذي قتل رزم آرا الخائن أدى واجبه، وأصدر السيد الكاشاني الزعيم بياناً قال فيه: إن الرصاصات التي أردت رزم آرا قتيلاً قد أكسبتنا معركة البترول وسيؤمم البترول رغم أنف الخائن المضرج بدمه، ووجدوا في جيب القاتل ورقة مكتوب عليها (الجنة تحت ظلال السيوف) ورفض جميع أئمّة المساجد في طهران أن يشتركوا في تشييع جنازة رئيس الوزراء.

وقد عرف السيد الكاشاني بعدائه الشديد للإنجليز، وكانت له سابقة في الجهاد في العراق خلال ثورة الإمام الشيرازي ضد الإنجليز، وكان له ولاء على الكتلة الوطنية وغيرهم من البرلمان.

وكان الكاشاني يردد دائماً صيحة واضحة: الإنجليز أضاعوا قرآننا، وكان غلادستون يقول: لا طريق للإنجليز بين الأُمم الإسلامية ما دام فيها القرآن، ليخرج الإنجليز من كل بلد إسلامي.

وفي هذين القرنين الأخيرين قاد رجال الدين في إيران وحدها أربع حملات ضد المستعمرين، ابتداءاً من جهاد السيد محمد المجاهد ضد الروس في أيام القاجار، ومروراً بثورة التنباك التي قادها المجدد الشيرازي، وبثورة الدستور التي قادها الآخوند الخراساني، وانتهاءاً بثورة السيد حسين القمي التي قادها ضد البهلوي الأول، هذا بالغض عن الثورات المحلية الصغيرة، ومن الثورة الأخيرة التي قادها الفقهاء المراجع ضد البهلوي الثاني، وقد جرت منذ العهد السابق محاولة جمع الكلمة بين السنة والشيعة سياسياً لتعود الدولة الإسلامية الواحدة مع الغض عن الاختلاف المذهبي.

وقد جرت في العصر الحديث محاولات لذلك وما تزال، وكان للنجف الأشرف ولقُم المقدسة والأزهر دور كبير فيها. فقد حدثت لقاءات متعددة بين علماء السنّة وعلماء الشيعة في مجالات مختلفة أهمها المؤتمرات الإسلامية الكبرى، وفي طليعة من دعا إلى ذلك: الشيخ ميرزا محمد تقي الشيرازي قائد ثورة العشرين في العراق، والسيد عبد الحسين شرف الدين، والسيد حسين البروجردي، والشيخ سليم البشري، والشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء، والسيد محسن الأمين، والسيد محسن الحكيم، ومن أشهر علماء السنّة الذي نبّهوا إلى قيمة الكنوز الدفينة في مذهب الشيعة: الشيخ محمد أبو زهرة والشيخ الباقوري والسنهوري، والشيخ شلتوت، والشيخ محمد المدني.

والشيعة نصف المسلمين تقريباً، كما صرح بذلك الرئيس المصري السابق أنور السادات، وهم موزعون في العراق وإيران والهند والباكستان وروسيا والأفغان ولبنان وإندونيسيا وسوريا والحجاز واليمن ومنهم مجموعات في الصين والتبت والصومال وجاوه وتركيا والبحرين والكويت، وبقية الخليج خصوصاً الحجاز ومجموعات في البلاد الغربية.

وقد كان تدخل الإنجليز في أُمور إيران يتمثل في حجج مختلفة منها سياسة المحافظة والدفاع عن الهند، وقد انتهز الإنجليز ضعف إيران خلال حكم أُسرة قاجار، فوسّعوا نفوذهم في أطراف الخليج بحساب أنه باب الهند، وكانت سياسة إيران تضطرها إلى عدم التعرض لرواد البحار والسفن التابعة للدولة الكبرى وتجارتها وبعثاتها الاستكشافية، فقد أعطت الحرية التامة لتجارة الأجانب، وعلى الأخص الإنجليز الذين اكتسحوا الإسبانيين والبرتغاليين من طريقهم. وقد مكّنت هذه السياسة بريطانيا من التلاعب في أمور إيران الاقتصادية والسياسية، بفرض الامتيازات الهامة كالسكك الحديدية لجميع طرق إيران 1889. وامتياز تأسيس المصارف 1907 وامتياز التبغ والتنباك 1908. وكانت حكومة قاجار مدينة مرهقة يحيطها النفوذ الأجنبي من مختلف أقطارها.

وقد وضع الاستعمار البريطاني الخطط لإثارة القبائل وتجهيز الطوائف المختلفة بالأسلحة وشد أزر الأُمراء والشيوخ، ومحاولة تقسيم إيران إلى ولايات ومناطق عشائرية. وكان اتصالها بأكبر القبائل والعشائر لإثارة الخلاف والارتباط مع الأجانب، وكان ذلك جرياً على القاعدة البريطانية والاستعمارية التي تقول: (إن الوظيفة الكبرى للممثلين البريطانيين في البلاد الشرقية هي إضعاف الحكومات في كل شيء وبث التفرقة وتشجيع تعدد المذاهب وإيجادها وتشجيع الآراء والعقائد ثم تأليب فئة على الأخرى، وإشعال الحكومة والشعب على بعضهما بغية التدخل، وسيطرة بريطانيا العظمى على تلك الدول). غير أن علماء الشيعة المسلمين لم يتوقفوا عن العمل في سبيل مقاومة النفوذ الأجنبي.

ولما منح الشاه امتياز التنباك إلى شركة بريطانية أصدر كبير المجتهدين المجدد الإمام السيد محمد حسن الشيرازي من مقره في (سر من رأى) فتوى تحريم التنباك والدخان. تلك الفتوى التي سرت مسرى الكهرباء في جميع البلدان، فأقفلت مخازن الدخان، وأبى البائعون بيعه والمشترون شراءه. حتى لقد هشم رئيس خدم الشاه كل ما في القصر الملكي من نراجيل، وأتلف ما فيه من دخان بدون أمر أو استئذان، وعندما عنّفه الشاه على فعلته. قائلاً: وهل استأذنتم قبل الإقدام على ذلك، أجاب بشجاعة وسكون: (لقد أمر الشرع فلا حاجة بنا إلى استئذان السلطان).

وبرزت منذ تلك اللحظات حركة مقاومة للشاه، تمثلت في اتحاد شامل، وحاولت الحكومة أن تخفف من ضغط الأزمة فأعلنت أنها اتفقت مع شركة الاحتكار على ألا توظف في إدارتها أجنبياً، ولكن إعلانها لم ينقص من حماسة الأُمة ولم يزد النار إلاَّ ضراماً. (فهاجم الشعب محلات الشركة في كل مكان، ومزق إعلاناتها).

وأخيراً نزل الشاه على إرادة الأُمة، وأعلن أن الامتياز قد أصبح باطلاً.

وقد ثارت إيران مرة أخرى عام 1907 بعد توقيع المعاهدة الإنجليزية الروسية التي اقتسمت إيران وأملت عليها شروطها. ونظمت مخطط النفوذ الروسي والإنجليزي، وتقاسمت مناطق النفوذ (شمال إيران لروسيا وجنوبها لإنجلترا) والمنطقة الوسطى محايدة. وهذه المعاهدة شبيهة بالاتفاق الودي الذي عقد بين فرنسا وإنجلترا عام 1904 باقتسام النفوذ بين بريطانيا في مصر، وفرنسا في تونس.

وقد أيقظ هذا التنافس الروح الوطنية في البلاد للتخلص من النفوذ الأجنبي.

وقاد الآخوند الخراساني من النجف الأشرف ثورة ضد الملوكية حتى أسقط الشاه وقرر الدستور.