الفهرس

فهرس الفصل الأول

المؤلفات

 الثقافة الإسلاميةs

الصفحة الرئيسية

 

أفغانستان

أفغان كان جزءاً من الدولة الإسلامية الكبرى منذ دخول الإسلام هذه البلاد، ثم صارت جزءاً من إيران منذ اقتسام البلاد الإسلامية إلى أن قطعها البريطانيون عن إيران وجعلوها بلداً مستقلاً وسموها بأفغان باسم جزء منها، وإلا فلم يكن في التاريخ موسوماً باسم أفغان، وكان لأفغان شرف مقاومة الاستعمار الغربي مقاومة حاسمة اندحرت فيها بريطانيا في ثلاث معارك كبرى امتدت على مدى قرنين.

ولما أراد (أمان الله) فرض الحضارة الغربية في أفغانستان، كما فعله (مصطفى كمال) في تركيا، و(رضا خان) في إيران، أسقطوه.

وكان رجال مشهورون في التاريخ من الشيعة والسنة من أفغان: كصاحب الكفاية، وناصر خسرو العلوي، وقد تعرض الشيعة بتخطيط الاستعمار لمجازر هائلة في هذا البلد فقد أمر أحد الحكّام جلاوزته بقطع رؤوس الشيعة، فكانوا يقتلون الشيعة في كل مكان ويجعلون من رؤوسهم منائر يعرف أماكن تلك الرؤوس إلى الحال واطّلع على هذا الأمر السيد المجدد الشيرازي في سامراء، فكتب كتاباً إلى ملك إيران القاجاري ليهدد عبد الرّحمن بالزحف عليه بجيش إيران إن لم يوقف المجازر، وكتاباً إلى حكومة بريطانيا في لندن بهذا الشأن أيضاً، وخافت بريطانيا من استمرار عميلها من تحرك يشابه تحرك التنباك، كما وصل التهديد إلى عبد الرّحمن من شاه إيران فتوقفت المجازر بسبب هذا التحرك المرجعي.

الباكستان والهند

الهند قارة كبيرة تضم إليها مجموعات بشرية تعود إلى أجناس مختلفة تتكلم بلغات متباينة، وتدين بأديان غير متقاربة، وإن المبدأ الذي تعتنقه أُوروبا الديمقراطية لا يمكن تطبيقه بحال على الهند دون أن يسبق ذلك اعتراف بوجود المجموعات الطائفية، وعلى هذا فمطلب المسلمين له ما يبرره تماماً، وبودي أن أرى البنجاب وإقليم الحدود الشمالية الغربية والسند وبلوخستان قد توحدت وأصبحت دولة، ويبدو أنه ليس أمام المسلمين سوى هدف واحد، وهو تكوين حكومة ذاتية له، إما داخل الإمبراطورية البريطانية وإما خارجها: دولة إسلامية هندية تقع في شمال غربي الهند.

فإذا ما أُتيح لهذه الدولة الإسلامية الحديثة أن تقوم فإنها ستكون المدافع الأكبر عن الهند ضد أي هجوم أجنبي عليها.

وإنا لهذا نطالب بتكوين دولة إسلامية موحدة، وقيامها هذا سيكون في صالح الهند، كما هو في صالح الإسلام، لأنها ستعمل على محو الطابع الاستعماري الغربي الذي أجبر على طبعها به، ولأنها ستسمح للقوانين والتعاليم الإسلامية أن تسود، وللتعليم والثقافة أن يعملا جنباً إلى جنب في تعاون لإظهار الروح الإسلامية الحقة، وإمكان تطبيقها في هذا العصر الحديث.

وفي 14 أغسطس 1947م تأسست الباكستان بقيادة محمد علي جناح وراجا محمود آباد.

وقد حكم المسلمون الهند ما يقرب من ألف عام، وكان تاريخاً حافلاً بدأه الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).

وقد قام الإنجليز بأعمال البطش الرهيبة التي قصروها على المسلمين في نفس الوقت الذي حرموهم فيها من التعليم والمناصب، وأفسحوا المجال والتأييد والولاء للهندوس إلى حد آذن بانفجار ثورة الهند الإسلامية الكبرى عام 1857 فجأة والتي بدأت كحركة تمرد بين بعض وحدات الجنود الهنود في الجيش الإمبراطوري، ثم انقلبت إلى حرب تحريرية قادها الأُمراء والفقهاء المسلمون، واشترك فيها المسلمون والهندوس والشيوخ والنساء والرجال، واكتسحت شمال الهند ومراكز النفوذ البريطاني، حتى أعلن بعض قواد بريطانيا الكبار أن كل شيء قد انتهى، وأن كل ما بنته بريطانيا قد ضاع، ولم تستطع بريطانيا استعادة نفوذها إلاَّ عن طريق الخيانة والرشوة.

وقد حمل الإنجليز المسلمين مسؤولية الثورة، فقد أعلنت الثورة باسم (إمبراطور دلهي) وقاد معظم معاركها قادة مسلمون، ونادى الفقهاء المسلمون بالجهاد، وأعلنوا الهند كلها (دار حرب) حتى يباد الغزاة الغاصبون، وصب الإنجليز كل حقدهم وانتقامهم على المسلمين، وكان انتقاماً مريعاً، أعلنوا أنه لن يقف حتى يباد المسلمون عن آخرهم، وتهدر دماؤهم، وأصبح من حق كل بريطاني أو مدني أن يقتل من يشاء من الهنود، وأعدمت النساء والأطفال، وأبعدت أُسر وعائلات بأكملها في مذابح جماعية لكي (يباد جنين الثورة في أي مكان من الهند) كما قال القائد البريطاني. ولم يسبق أن عرفت الهند أو عرف المسلمون رعباً ولا هولاً كالذي عرفوه يومئذ، وسميت هذه المحنة الكبرى ولم ينسوها أبداً، ثم بعد مدة قام حزب المؤتمر بقيادة غاندي وجناح خان عبد الغفار خان وغيرهم من الزعماء وعملوا طوال نصف قرن حتى أخرجوهم من الهند.

يقول أحد المؤلفين حول استعمار الهند من قبل بريطانيا:

[إن المستعمر لا يريد أن يعلّم أبناء البلاد الخاضعة له، وإذا اضطر أن يعلمهم، علّمهم ما يضرهم، أكثر مما ينفعهم، من أجل ذلك لا نستغرب إذا علمنا أن الإنجليز لمّا غادروا الهند كان عدد الأُميين فيها قد أصبح ثماني وثمانين من المائة من مجموع أربعمائة مليون نسمة.

أما الذين يستطيعون قراءة شيء من لغاتهم المحلية فكانوا نحو اثني عشر بالمائة والذين تعلموا شيئاً من الإنجليز اثنين بالمائة فقط، ويستطرد فيقول: فالجهل هو أحد أوجه التراث الذي يخلفه الاستعمار في كل بلد، هذا إذا اضطر إلى أن يغادر ذلك البلد].

على أن الأُمية كانت أكثر تفشياً بين المسلمين منها بين غير المسلمين، ولما استولى الإنجليز نهائياً على الهند أخذوا يقضون على عناصر القوة، وعلى مظاهر القوة في الهند، ثم حاولوا أن يخضعوهم لمناحي حياتهم تماماً، كما يفعل كل مستعمر، وقضوا ما استطاعوا على الحركة الثقافية، وفرضوا على الموالين لهم من أهل البلاد تعليماً إنجليزياً استعمارياً.

وقد ابتعد المسلمون في الهند عن التعليم بعاملين:

أولهما: إن الإنجليز أخذوا يذودونهم عن العلم حتى يغمرهم الجهل، فيغفلوا عن ماضيهم، ويفقدوا إدراكهم بقيم الحياة الحرة، والمسلمون في الهند كانوا أشد سكانها مقاومة للإنجليز.

ثانيهما: كان كره المسلمين أنفسهم للعلم الذي جاء به الإنجليز لأنه علم غربي أجنبي، ولقد كان لهذه السلبية أسوأ الأثر في المسلمين فقد غرقوا في جهل بعيد القعر، وخسروا الجزء الأوفر من نفوذهم السياسي، ولكن سلبية المسلمين لم يكن مقدراً لها أن تطول، فقد أخذوا بفتح المدارس وتكوين الطلاب وألفوا الكتب وفتحوا المكتبات حتى تمكنوا من التحرير.

قرار المقاطعة

وشرعت الأُمة الهندية عقب ذلك في مقاطعة الحكومة وإظهار العصيان المدني فامتنعت عن دفع الضرائب والرسوم، وتخلى المحامون عن الدفاع أمام المحاكم، وأعاد أصحاب الرتب النياشين والبراءات الحكومية، وأحرق التجار المسلمون جميع ما في مخازنهم من البضائع الإنجليزية، وترك الموظفون المسلمون مناصبهم في الحكومة، فحل الهنادكة محلهم، وهاجر عدد كبير من أكابر المسلمين إلى الأفغان، بعد أن تركوا أملاكهم وأرضهم في الهند واشتدت المقاطعة في البنغال اشتداداً عظيماً ليس له مثيل، فقد امتلأت سجونها بالمقاطعين من المسلمين، حتى إذا أعيى الحكومة أمرهم صارت تقبض كل يوم على ألف شخص في الصباح وتطلقهم في المساء، لأن السجون لم تعد تسع المعتقلين، وخطب اللورد ريدنج (الحاكم العام) في كلكتا فقال: إنني شديد الحيرة من جراء هذه الحركة، ولست أدري ماذا أصنع فيها، ومن هذا السياق تستطيع أن تتصور قوة المسلمين في الحركة الوطنية وضعفها في الهندوكية.

وقد اجتمع الزعماء عام 1921 وأعلنوا استقلال الهند استقلالاً فعلياً، وعينوا ولاة الولايات وحكام المقاطعات وقضاة المحاكم في جميع المدن، فكان الوطنيون يرفعون قضاياهم أمامهم، ويتجاهلون محاكم الحكومة، وبسبب ذلك تعطلت أعمال الحكومة والبوليس، وحدث ارتباك شديد في الدوائر العالية بالهند. غير أنها بدلاً من أن تستعمل القوة القاهرة لكفاح الشعب الأعزل لجأت إلى المناورات السياسية.

وقد كان على المسلمين في الهند أن يواجهوا حركتين: حركة الاستعمار وحركة التبشير، وقد كان لأحدهما صلة بالآخر وثيقة، وقد ذكر بعض الكتاب ضخامة مخطط التبشير في الهند عام 1937 حيث كانت توجد 377 إرسالية تضم (3634) مبشراً بالإضافة إلى 50 كلية و318 مدرسة ثانويــة و421 مدرسة ابتدائية و270 مدرسة منوعة أُخرى بالإضافة إلى 170 جريدة وصحيفة ونشرة تدار كلها لحساب الإرساليات التبشيرية الغربية.

وقد بلغ حجم النفقات السنوية للإرساليات بالهند 331 و227 مليون روبية، وكانت القوة الشرائية للروبية كبيرة جداً، وقد واجه المسلمون هذه الغزوات بإنشاء جمعيات التبليغ بفروعها المختلفة الإسلامية في أنحاء الهند، وذلك لصيانة عقائد الضعفاء من المسلمين والدعوة إلى الإسلام.

أندونيسيا

دخل الإسلام أندونيسيا عن طريق المسلمين الهنود والعرب الذين قدموا إلى البلاد للتجارة وحملوا معهم الإسلام واللغة العربية، فقد وفد المسلمون على سومطرة في القرن السادس الهجري وهبطوا جاوة في القرن التاسع الهجري، وجاءوا من الهند أولاً، ثم تتابع سيلهم من حضرموت والبلاد العربية بعد القرن العاشر الهجري.

فقد نشر الحضارة الإسلام في أندونيسيا التي تمثل سلسلة من الجزر الهندية الشرقية تمتد إلى سيلان واليابان والصين وأهمها: جزيرتان هما: جاوة وسومطرة. وكان الأندونيسيون الأقدمون وثنيين، ثم جاءت بعد ذلك البرهمية والبوذية فانتشرتا بينهم، وبعدهما جاء الإسلام، وقد دخل الأندونيسيون في الإسلام سراعاً واعتنقوه بأعداد هائلة حتى لم يبق على البرهمية والبوذية في الجزر إلاَّ أقلية ضئيلة، معظمهم يوجدون في جزيرة بالي. وقد تم اعتناق الإسلام في أندونيسيا بطريقة سليمة، وبسرعة منقطعة النظير، إذ أقبل الناس عليه، ووجدوا في وضوح عقيدته وآدابه ونظامه وسماحته وتعاليمه ما أنقذهم من الاضطراب النفسي والانحراف العملي الذي كان يسيطر عليهم نتيجة العقائد المتضاربة، فدخلوا في دين الله أفواجاً، وما هي إلاَّ فترة قصيرة حتى اكتسح الإسلام جميع الأديان الأُخرى التي كانت منتشرة هناك وسطع نور الإسلام في أرجاء الأرخبيل من أقصاه إلى أقصاه. بدأ الإسلام في جاوه، ثم امتد إلى سومطرة، ثم إلى سائر الجزيرة، وحمله التجار العرب والهنود المسلمون الذين كانوا يتحركون بهمة فائقة عبر مختلف الموانئ بين الهند والصين، ويرى المؤرخون أن الفضل في ترسيخ أقدام الإسلام وتوطيد أركانه في كل من الملايو وإندونيسيا إنما يرجع إلى دخول (ملقا) في الإسلام وإطراد قوتها في شبه جزيرة الملايو بحسبان أنها مركز تجارة التوابل في الشرق، وما لبث حكامها أن دخلوا في القرن التاسع الهجري 1500م، وشجعوا إقامة علاقات ودية من أهل جاوه، فأدى العمل إلى دخول هؤلاء في الإسلام، ومضى مسلمو ملقا يعملون للدعوة الإسلامية في شبه جزيرة الملايو، وعلى محاذاة ساحل جزيرة سومطرة.

وعندما فتح البرتغاليون ملقا (917هـ ـ 1511م) كان الإسلام قد انتشر واتسع في مختلف أرجاء الملايو وجزر أندونيسيا ولكنه لم يتوقف عن الانتشار ثم تبعهم البريطانيون والهولنديون، وبذلك خضع مسلمو الملايو للسيطرة الأُوروبية قبل غيرهم من أجزاء العالم الإسلامي، والمعروف أن البرتغاليين بعد أن استعادوا الأندلس (أسبانيا الإسلامية) كانوا قد قطعوا على أنفسهم عهداً بشن حملة صليبية ضاربة على الإسلام، ولما لم يتمكنوا من ضربه في مكان القلب، فقد اتجه تفكيرهم إلى إجراء تطويق واسع، وعندما بدأت أعمال التبشير الغربي في أرخبيل الملايو بدأت حركة هجرة كبرى من مسلمي الصين والهند إلى أندونيسيا كرد فعل للإسلام في جنوب شرق آسيا للعودة إلى المجتمع الأُم لإنعاش الإسلام وفي أواخر القرن الخامس عشر جاءت البعثة الهولندية إلى ميناء بنتام بجزيرة جاوه سنة 1596م وأقامت شركتها (الشركة الهولندية لجزر الهند الشرقية سنة 1602) فامتلكت الأراضي واتخذت الجيوش والأساطيل باسم التجارة، ثم لم تلبث عام 1610 أن عينت حاكماً عاماً لها في مدينة جاكرتا.

وقد قاوم الوطنيون هذا النفوذ الجديد مقاومة عنيفة حتى أجبروا الشركة على الانتقال إلى جاكرتا بعد أن عقدت معاهدة مع سلطانها، ثم تنازلت الشركة عن أملاكها في أندونيسيا للحكومة الهولندية عام 1800، ولم يتوقف الأندونيسيون عن المقاومة، فتوالت ثوراتهم وفي مقدمتها ثورة الأمير ديبونجارا في جاوه الذي استمرت الحرب بينه وبين الهولنديين خمس سنوات كاملة (1825ـ1830) خسرت هولندا خلالها عشرات الملايين من الجنيهات، ولم تتكمن من إخماد الثورة إلاَّ بعد أن ألقت القبض على الأمير وهو جالس إلى مائدة المفاوضات، وفي سومطرة استمرت الحرب بين الهولنديين والوطنيين بقيادة علي الدين محمود شاه حتى يناير 1874 وبقيادة تنكو عمر حتى قتل سنة 1899 فتولت زوجته القيادة إلى أن استطاع المستعمرون بعد خسائر فادحة أن يخمدوا الثورة سنة 1904.

ولم تتوقف روح المقاومة ولم تنطفئ حيث بدأت مرحلة جديدة هي: مرحلة جهاد الهيئات الإسلامية وكفاح الأحزاب السياسية وفي مقدمتها (حزب شركة إسلام، والحزب الوطني الأندونيسي) انتشر مبدأ المقاومة السلبية وعدم التعاون مع المستعمرين الذي حقق نجاحاً باهراً عام 1922. ثم اندلعت الثورة عام 1926. واستمرت إلى عام 1927. ولم تستطع هولندا إخمادها إلاَّ بعد أن استعانت بإنجلترا، واستعملت أشد الأساليب الوحشية، وتزعم الحزب الوطني ثورة جديدة ولم تلبث الأحزاب الأندونيسية أن تكتلت في جبهة واحدة عام 1941 مطالبة بالاستقلال. وفي مارس 1942 استسلم الهولنديون في أندونيسيا للجيش الياباني بعد أن احتل الألمان هولندا، واستأنف الأندونيسيون مقاومتهم لليابان، وقاموا بثورات عدة، وانهزم اليابان في الحرب العالمية واستسلموا في أندونيسيا، هناك أعلن الشعب الأندونيسي استقلاله في 17 أغسطس سنة 1945م، وقام الأندونيسيون في كل أنحاء وطنهم يهاجمون القوات اليابانية وينتزعون السلطة، غير أن بريطانيا كانت تدبر لهم مؤامرة لإعادة سيطرة هولندا مرة أُخرى على إندونيسيا، وقاوم الإندونيسيون بريطانيا معاً، وشنوا حرباً غير متكافئة. وفي سوربايا دارت أضخم معركة حيث هاجم البريطانيون المدينة الباسلة من الجو والبحر والبر ليلاً ونهاراً، وجرت عام 1946 مفاوضات للاعتراف بسيادة إندونيسيا، ولكن الهولنديين سرعان ما غدروا بالاتفاق وشنوا هجوماً جديداً عام 1947. واستمرت المقاومة حتى عقدت الهدنة سنة 1948 ولكن الهولنديين ما لبثوا أن غدروا مرة أُخرى بشعب أندونيسيا الذي قاوم العدوان ببسالة حتى اعترف بالسيادة الكاملة لأندونيسيا عام 1949، وإن بقيت (الأجزاء الغربية) محتلة من قبل القوات الهولندية، وهكذا قاومت أندونيسيا المحتلين ثلاثة قرون كاملة، وصــارعت البرتغال والهولنديين والفرنسيين والإنجليز واليابان.

وقد تنبه المسلمون إلى خطرين أساسيين من أخطار الاستعمار الهولندي وهما: الاقتصاد والتعليم. ولذلك فإن الجماعة الأُولى التي تكونت قد عمدت إلى التركيز على هذين الخطرين، ولقد كان الاستعمار الهولندي حريصاً على القضاء على القوة المعنوية لأندونيسيا روحاً وعقيدة ولغة وثقافة، مستهدفاً أن تصبح البلاد جزءاً من هولندا، أو على حد قول المستشرق الهولندي جورنجيه: (أن تصبح إندونيسيا أُمة هولندية تعيش في الشرق بروح هولندية قلباً وقالباً فتبني مجد هولندا في ثقافتها، وتستعمل لغتها، وتتخلق بعاداتها وتقاليدها).

وقد كان لظاهرة البعثات التبشيرية في إندونيسيا أثرها وخطرها فقد نشرت المدارس في مختلف الأنحاء، واستطاعت أن تضم عدداً كبيراً من التلاميذ نظراً لفقر البلاد وعجزها عن إنشاء المدارس، ومن ثم غلبت الثقافة الأجنبية واللغة الهولندية، وظهر جيل يجهل أغلبه لغة قومه ودينه، ولم تلبث أندونيسيا المسلمة التي غلبت البوذية والهندوكية أن واجهت منافسة خطيرة من البعثات المسيحية.

فالاستعمار قد أدخل النصرانية إلى أندونيسيا، واستطاع استغلال الظروف في إخضاع القلوب، واعتمدت هولندا على غير المسلمين في تثبيت أقدامها، واتخذت منهم جيشاً، وكونت منهم أنصاراً وأصبحت منطقة (سولاويس) ملأى بالنصارى وكانوا أنصار هولندة ويتحدثون باللغة الهولندية بطلاقة منذ ليونة أظفارهم، ويمتزجون بالهولنديين في المعاشرة الزوجية حتى أطلقوا أسماء هولندية على أولادهم وبناتهم، وتطبعوا بأخلاقهم وصفاتهم وعاداتهم.

في مواجهة هذا العمل التبشيري الواسع واجه الأندونيسيون مسؤوليتهم الإسلامية بقوة، وتقدموا بأموالهم وتضحياتهم في سبيل الوقوف في هذه الموجة العاصفة، وقد كانت حركة المقاومة للاستعمار، وحركة المقاومة للنفوذ الاستعماري في مجال الاقتصاد والتعليم والثقافة عملاً واحداً.

وقد أخذ الاستعمار في عرقلتها وتوقيفها، حيث أصدرت قانون رقابة المدارس الأهلية الذي أطلقت عليه قانون (المدارس المتوحشة) 1923. ومظهر القانون حماية المدارس القومية، ولكنه في مضمونه يقوم على عرقلة تلك الجهود والقضاء على انطلاقة الحركة الإسلامية الأندونيسية في اختيار التعليم الذي يتفق مع عقائد الأندونيسي ووطنيته.

وقد كان من نتائج تنفيذ القانون أن أقفل الاحتلال أبواب المدارس الإسلامية بالقوة، وشرد تلاميذها، وزج مدرسيها في غياهب السجون.

ثم عمدت الحركة الإسلامية إلى تعديل أساليب التعليم الديني، وإدخال العلوم الحديثة، وكانت قد نجحت الفكرة وقامت مدارس (جمعية نهضة العلماء)، وكان أبرز ما حققته هذه الحركة هي أنها جمعت بين العلوم الحديثة والعلوم الإسلامية، وقد قال أحد المشرفين على هذه المدارس (لا نريد من التعليم الحديث أن يكون على شاكلة تلك العلوم المدنية الحديثة التي تطبع الأجيال المقبلة بالطابع المادي وتجعلها عبيداً للمادة كما هي الحال في أُوروبا اليوم، وإنما نريد فوق ذلك جعل الدين الإسلامي الصحيح أساساً للتعليم القومي لإنقاذ الأجيال من التيار المادي الجارف، وجعله ركناً من أركان قوى الشعب المعنوية التي لا يستغني عنها البشر في يوم من الأيام.

ومن خلال هذه الهيئات الإسلامية انبثقت الأحزاب التي تعددت وتنوعت، حاملة لواء الدعوة إلى إقامة صرح الإسلام.

وقد واجهت حكومة الاحتلال الصحافة الوطنية والإسلامية بقوانين غاية في الصرامة والتضييق فأسقطت 27 صحيفة في ساعة واحدة، وسجنت الكثيرين، وفرضت الرقابة على الصحف، ومنعت الاجتماعات. وقد استطاعت الحركة الإسلامية أن تثبت وجودها عن طريق صحف تتحدث عن عظمة الإسلام وحسن تعاليمه، وتراجم رجالاته، وما بذلوا من جهد في سبيل نشر تعاليمه، وفيما يتعلق باللغة الأندونيسية فقد حصر النفوذ الاستعماري على أن يحول (أولاً) دون قيام لغة موحدة. (ثانياً) أن يحول دون ارتباطها باللغة العربية. لكن جهود الاستعمار باءت بالفشل، نعم بقي على الإندونيسيين أن يثبتوا جدارتهم في منع الاستعمار الثقافي التبشيري.

أفريقيا قارة الإسلام

دخل الإسلام في أفريقيا من طرف شرق أفريقيا وغرب أفريقيا، أما شرق أفريقيا فترجع إلى اتصال الموانئ الأفريقية بالجزيرة العربية، ويمكن القول بأن الإسلام قد دخل أثيوبيا (الحبشة) قبل أي بلد أفريقي آخر، وذلك عن طريق الهجرة الأُولى في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث ذهب جعفر بن أبي طالب (عليهما السلام) وجماعة إلى هناك من مكة المكرمة ولم تلبث الدعوة الإسلامية أن انتشرت على أيدي القبائل التي هاجرت إلى إرتريا والصومال، وأثيوبيا، حتى أصبح الإسلام هو دين الغالبية في هذه المناطق، والمعروف أن هذا الساحل (شاطئ الصومال) كينيا و(تنجانيقا) كان مجال التجارة العربية، فلما جاء الإسلام واعتنقه العرب تحولت تلك إلى مراكز إسلامية على الشاطئ الشرقي الأفريقي تتحكم في طرق التجارة إلى داخل تنجانيقا، وقــلب الكونغو، وتمتد إلى بحيرة فكتوريا، وكان من نتيجة اتصال العرب بالأهالي أن ظهرت اللهجة السواحلية، وهي تمتد من اللهجات المحلية الأفريقية التي يتحدث بها أغلب شعوب القارة وهي خليط من ألفاظ زنجية وعربية وفارسية وهندية.

أما منطقة غرب أفريقيا فقد انتشر الإسلام فيها عن طريق قبائل البربر المغربية التي اعتنقت الإسلام، وعن طريق غرب السودان حيث يوجد خط القوافل التجارية المسافرة إلى غرب أفريقيا. ومن المغرب انتشر الإسلام في السنغال ومملكة غانا القديمة، وامتد إلى داهومي الشمالية، وكذلك نيجيريا وسائر غرب أفريقيا انتشر فيها الإسلام عن طريق المغرب، ولم يلبث النيجيريون أن أصبحوا دعاة للإسلام في ترحالهم على الإقدام للحج سنوياً مخترقين قلب أفريقيا إلى غرب السودان فشرقه، ثم عابرين البحر الأحمر، ومن غرب أفريقيا وسّع الإسلام آفاقه وسط القارة.

وترجع أهمية التوسع الإسلامي في غرب أفريقيا إلى مقام دولة (المرابطين) في القرن الخامس الهجري، حيث توصف هذه الفترة بأنها فترة انتعاش للإسلام، وكان أبرز مظاهر هذه الحركة الاندفاع نحو الجنوب إلى جبال أدرار، ثم إلى البلاد المعروفة باسم موريتانيا، ثم إلى نهر السنغال، حتى إذا كان القرن التاسع الهجري اتسعت حركة انتشار الإسلام واللغة العربية في هذه المناطق، ولم تلبث أن اتسعت في القرن العاشر الهجري حيث استطاع الإسلام أن ينتشر بين القبائل، ويحل محل الديانات الوثنية في السنغال.

أقبلت بعد ذلك مرحلة الغزو الاستعماري الذي بدأته البرتغال وأسبانيا وتبعتهما باقي الدول الأُوربية، وقد استطاع المسلمون في أفريقيا مقاومة الغزو البرتغالي والأسباني المتقدم الذي بدأ في أوائل القرن التاسع الهجري، بعد سقوط الأندلس. غير أن الاستعمار الفرنسي والبريطاني لم يلبث أن حل محل النفوذ البرتغالي والأسباني، وقد استطاع هذا النفوذ أن يستمر طويلاً ويمكن القول بأن العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر، كانا أشد مراحل الغزو الأُوربي لأفريقيا قسوة واندفاعاً. وكان للتجار المسلمين الوافدين من الخليج أثر واضح في نشر الإسلام في كومور وجزر المحيط الهندي (مدغشقر ـ سيشل ـ البرلوتبون ـ موريس).

وقد بدل الإسلام مظاهر الحياة في البقاع التي دخلها، وأسبغ روح النظافة والنظام حيث يتميز المسلم عن بقية الناس بلباس فضفاض فضلاً عن تحريم لحم الخنزير وشرب الخمر. وقد انتشر الإسلام انتشاراً شاملاً بين عبّاد الأوثان والحيوان، لأن شعائره مبسطة للغاية، وترجع أهمية الإسلام في نظر الأفريقيين إلى أنه نظام اجتماعي كما هو دين، يمنح المؤمن اعتقاده بالمساواة بين جميع المؤمنين.

ولقد أشار ولفرهامبتون في بحث له نشرته جريدة التيمس عام 1887 نتائج انتشار الإسلام فقال:

[إنه عندما تدين به أُمة من الأُمم الأفريقية تختفي من بينها في الحال، عبادة الأوثان، وتحرم أكل لحم الإنسان ووأد البنات، وتضرب عن الكهانة وتأخذ أهلها في أسباب الإصلاح وحب الطهارة، ويصبح عندهم قرى الضيف من الواجبات الدينية، وشرب الخمور من الأُمور الممنوعة، ولعب الميسر محرمة، والرقص قبيح، ومخالطة النساء اختلاطاً دون تمييز منعدمة، يرون عفة المرأة من الفضائل، أما الغلو في الحرية والتهتك وراء الشهوات البالية فلا تجيزه الشريعة الإسلامية.

والإسلام هو الذي يعمم النظافات ويقمع النفس عن الهوى، ويحرم إراقة الدماء والقسوة في معاملة الحيوان والأرقّاء، ويحض على الخيرات، ويقول بالاعتدال في عدد الزوجات والعدل في الاسترقاق، وزيادة على ذلك فالإسلام عفيف بالكلية عن الشركات الدينية والتجارية، وفي غنى عنها بالمرة، والتجارة الأُوربية تمهد وسائل المسكرات وتسوم الشعوب خسفاً وإذلالاً، والإسلام نشر لواء المدنية القائلة بالاحتشام في الملبس والنظافة والاستقامة وعزة النفس].

لكن المستعمرين أدخلوا نظمهم السياسية وقواتهم العسكرية الأُوروبية ومنظماتهم التبشيرية إلى أفريقيا، وقضوا على السلطات الإسلامية، أو سلبوها سلطانها، ووضعوها تحت الوصاية، وفرضوا العزلة على هذه البلاد وقطعوا صلاتها بالعالم الخارجي، وطوقوا القارة الأفريقية بالقواعد العسكرية، ونهبوا ثرواتها واستعبدوا أهلها وحاربوا الثقافة الإسلامية حرباً غير متكافئة، ففرضوا اللــغات الأوربية على أفريقية، وأنشأوا المدارس التي تبث ثقافتهم وأفكارهم وخاض الإسلام في أفريقيا معركة حياة أو موت.

وقد استهدف الاستعمار الفرنسي والبريطاني في القضاء على مقومات المسلمين في أفريقيا، وذلك بوسائل مختلفة أهمها القضاء على اللغة العربية والثقافة الإسلامية والتراث الإسلامي، وكل ما يتصل بتاريخ الفترة المزدهرة التي عاشها المسلمون قبل اتساع النفوذ الأجنبي ولذلك فإن التركيز الاستعماري كان على الثقافة أساساً عن طريق: نشر المدارس والمؤسسات التبشيرية والإرساليات والقضاء على المدارس الوطنية، وإعداد المدارس التي تشرف عليها الحكومة، وإعداد الإرساليات، وينصب عملها على نشر لغة المستعمر ودينه وتاريخه وتغذية اللغات الإقليمية القومية وإيقاف اللغة العربية الأُم وتجميدها.

ويعمد البريطانيون إلى عزل مختلف المناطق الأفريقية عن الجو العربي الذي قد يكون موجوداً بين الأفريقيين، ومن ذلك أنهم حولوا أهالي شرق أفريقيا (كينيا وأوغندة وتنجانيقا وزنجبار) من كتابة اللغة السواحلية بالحروف العربية إلى كتابتها بالحروف اللاتينية.

كما يعمد الاحتلال البريطاني إلى السيطرة على الصحف، وذلك بتحريك قضايا وشبهات من شأنها أن تثير الخلافات بين المذاهب المختلفة، وتحول دون وحدة الأُمة، فهو يثير مشكلة الأقليات أحياناً والخلافات المذهبية أو السياسية أحياناً أو ينادي بانفصال مناطق معينة.

وقد كان للبلجيكيين 720 مجموعة تبشيرية تضم حوالي (6) آلاف مبشر معظمهم من الكاثوليك، ولغة التعليم هي الفرنسية، والغزو الاستعماري في أفريقيا له ثلاث عمليات خطيرة:

أولاً: عملية تجارة الرقيق حيث عمد إلى خطف أكثر من عشرين مليوناً من أهالي أفريقيا، وأرسلهم إلى أمريكا. وقد مات منهم في الطريق عدد كبير، وقد فعل هذا، بينما كان يثير حملات عنيفة متّهماً التاجر المسلم المتنقل بين أرجاء أفريقيا بأنه يعمل في تجارة الرقيق.

ثانياً: عمليات التبشير حيث تدفقت البعثات التبشيرية الأُوروبية المختلفة من الكاثوليك والبروتستانت لنشر المسيحية واللغات الأوروبية، ومقاومة الإسلام، والثقافة الإسلامية.

ثالثاً: إدخال جماعات بيضاء بأعداد ضخمة في كثير من المناطق للاستيلاء على الأراضي الخصبة، وطرد أهلها الأفريقيين منها، وخلق كيان أُوروبي يجعل الوطنيين أقلية في بلادهم.

ثم إن المسلمين قبل قرن لما أحسوا بخطورة الاستعمار، أخذوا يدعون إلى الجامعة الإسلامية أو الدولة الواحدة، وقد أحس الأُوروبيون بخطر ذلك فحاربوه بكل قوتهم، بصحفهم ومؤتمراتهم وسائر قواهم، كما تبين قوته وخطره إذا تحقق لذلك فقد اتخذوا لذلك عدة أعمال أساسية كان أهمها:

1 ـ تعميق الدعوات الإقليمية والخاصة بالوطنية والأُمة والعرق.

2 ـ خلق جو فكري عام لمحاربة الوحدة الإسلامية وتصفيتها.

وكان ذلك من الأعمال التي ركزت عليها مؤتمرات المبشرين وفي مقدمتها (مؤتمر سبتمبر 1911) الذي كان من أهم موضوعاته الجامعة الإسلامية وكيفية مقاومتها. فقد أشار زويمر إلى هذا الأمر الخطير في نظرهم وقال:

[إن الإسلام تمخض في السنوات الخمس الأخيرة من حوادث خارقة لم يسبق لها نظير هي:

1 ـ الانقلاب الفارسي (بقيادة المراجع).

2 ـ الانقلاب العثماني (بالدعوة إلى نبذ الدكتاتورية).

3 ـ امتداد خطوط السكة الحديدية.

4 ـ تأسيس المجالس الثورية في الهند.

5 ـ دخول الأُمور الإسلامية في قالب يلائم العصر.

6 ـ انتشار الإسلام في أفريقيا والهند الغربية والجزائر الجنوبية. وكل هذا يحتم على المبشرين أن يعملوا بحزم وجد. وقال: إن يقظة العالم الإسلامي ليست شيئاً اخترعه المبشرون بين ضفتي النيل وشرقي أفريقيا وبلاد النيجر والكونغو].

وكان تركيز الاستعمار والنفوذ الغربي على العصبية الجنسية والتفرقة الجغرافية هو عمله الأكبر في سبيل القضاء على الجامعة الإسلامية.

وعلى كل حال ربما ظفر الإسلام في أفريقيا اليوم أعظم ظفر بما لاقاه المبشرون المسلمون حديثاً، ففي بلاد التتر الروسية، وفي الصين وفي الهند وفي جزائر الهند نهضات إسلامية رائعة ويرى كثير من الباحثين أن هناك عوامل كثيرة تقرب المسلمين الآن من النظر في فكرة الجامعة الإسلامية واعتناقها: أهمها ضياع بيت المقدس، واستيلاء الصهيونية عليه، ومنها ذلك الانتعاش الإسلامي في تركيا، وبروز الدول الإسلامية الجديدة في آسيا (الملايو وإندونيسيا والباكستان) بالإضافة إلى الدولة الأفريقية المسلمة الجديدة. هذا فضلاً عن أن فكرة الوحدة أخذت تتحرر من المفهوم الغربي، وتعود إلى التماس مفهومها الفطري المستمد من مزاجها النفسي وروحها وعقليتها، والقائم على الترابط بين أجزاء الإسلام وذلك لتنسيق روابطها والانفتاح على دول العالم الإسلامي في أخوة وترابط ثقافي واقتصادي واجتماعي.

العراق

للعراق تاريخ طويل ضد الاستعمار، في هذا القرن الأخير، فمنذ ما لا يقل من مئة عام تدخل الاستعمار البريطاني في شؤون العراق خفية، حيث ضعفت السلطة العثمانية، فكان المستعمرون يضربون القبائل بعضها ببعض، يحركونهم ضد السلطة العثمانية من ناحية، وضد من خالفهم في الدين والمذاهب من ناحية ثانية، ويسببون عدم الأمن في الطرق من ناحية ثالثة، وعملاؤهم من العشائر يهاجمون المدن، ولذا كان الأهالي يضطرون إلى جعل الأسوار حول المدن، فلا يتقدم العمران، ولا تزدهر التجارة من ناحية رابعة، ويعيثون في الأرض الفساد بفتح المواخير حتى في البلاد المقدسة ويروّجون الخمور من ناحية خامسة. إلى غير ذلك.

ضعف الدولة العثمانية المسيطرة من ناحية، ومكر هؤلاء الأجانب من ناحية ثانية، سبّبا وقوع العراق في أسوأ حالاته التاريخية، وقد احتل البريطانيون العراق قبل نصف قرن رسمياً، وقرروا له القوانين الأجنبية.

ولذا قام المسلمون بقيادة الإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي في مواجهة المستعمرين، حتى تمكنوا من طردهم من البلاد، لكنهم تمكنوا من تسميم القائد، ودخولهم في البلاد من النافذة، والحكومة التي نصبها البريطانيون في شخص فيصل الأول، أخذت تحارب الذين حاربوا بريطانيا بصورة خاصة.

ولذا سفّر مراجع المسلمين؛ كالسيد الأصبهاني، والميرزا النائيني، والسيد الحجة، والشيخ الخالصي، والسيد الطباطبائي وغيرهم.

ثم إن الملكيين المرتبطين ببريطانيا، لمّا لم يتمكنوا من مواجهة الناصريين المرتبطين بأمريكا، قام البريطانيون بانقلاب عسكري على يد قاسم، وردّ الأمريكيون الانقلاب بانقلاب مضاد قام به عارف، ثم استرجع البريطانيون الكرة بانقلاب أحمد البكر، والأمريكيون قاموا ضدهم بانقلاب صدام.

والعراق بعد في ملعب هاتين الدولتين إلى اليوم، إلى أن يأتي يوم الإنقاذ بسبب المسلمين المخلصين، بإذن الله تعالى.

مصر

كان المسلمون العرب يطالبون بحقهم ـ حق الأُمة ـ من خلال الرابطة الإسلامية والدولة العثمانية، وكانت حركاتهم جميعاً تستهدف قيام نظام لا مركزي، يقيم لهم حكومة مستقلة داخل إطار الدولة العثمانية، وكانوا يؤمنون بالوحدة في مواجهة الغزو الزاحف، فلما ضعفت الدولة العثمانية وغلب طابع الاتحاديين مستهدفاً تصفية الدولة العثمانية، والقضاء على الرابطة الموحدة بين المسلمين عرباً وتركاً وغيرهم خدمة للنفوذ الأجنبي الرامي، إلى تمزيق هذه الأواصر وابتلاع هذه الأجزاء، اتجه المسلمون إلى إقامة حركة المقاومة من خلال وحدتهم كأُمة وهذا هو المفهوم الحقيقي للوحدة كما فهمها المسلمون الذين أحسوا بأن كيانهم الذاتي قد بدأ يصيبه خطر كبير نتيجة الدعوة التي حمل لوائها الاتحاديون وهي (الجامعة الطورانية) وهي جامعة تقوم على الجنس والدم وتحاول أن تجمع العناصر الطورانية في قومية واحدة، كما أحس المسلمون بخطر يواجه كيانهم من حيث غزو اللغة لمجتمعاتهم في مجال الدراسة والتعليم والمحكمة والمجتمع. ومن خلال العمل الدائب على (تتريك العناصر) الداخلة في الدولة العثمانية.

وقد خدع جماعة منهم الأجانب بأنهم إن حاربوا العثمانيــين أعطوهم دولة عربية واحدة، ثم لم يلبث الحلفاء إن نقضوا واحتلوا البلاد العربية الإسلامية وسيطروا عليها، وأقاموا حكم الاحتلال والانتداب والوصاية على هذه الأجزاء، ووجد المسلمون أنفسهم قد وقعوا في براثن وضع استعماري أشد قسوة من الوضع الذي كانوا يشكونه في الدولة العثمانية.

وواجه الاستعمار بلاد المسلمين العرب بالتحدي، فأثار في مختلف أجزائها دعوات إقليمية ضيقة سمّيت الأُمة المصرية، والأُمة السورية، والأُمة العراقية وحملت لواء الارتباط بالماضي التاريخي الغامض البعيد السابق على ماضيها الإسلامي الحي، فبشرت دعوات بالفرعونية في مصر، والفينيقية في لبنان، والبربرية في المغرب، والبابلية في العراق، وهكذا أُثيرت دعوات إقليمية خطيرة، وفرضت قيود كبيرة تحول دون التقاء هذه الأجزاء العربية معاً.

وفي العراق والشام بأجزائه (فلسطين وسوريا ولبنان) كانت الدعوة تحمل طابع الماضي العربي، ثم تذهب إلى مرحلة ما قبل تاريخ الإسلام، فتحاول التفاخر بالفينيقية والآشورية والبابلية، وغيرها لكن فشلت هذه الدعوات جميعاً في العراق ومصر، والشام والمغرب وغيرها، واهتدى العرب إلى أن رابطتهم بالإسلام وتاريخه هي أقوى هذه الروابط. ومنها ينبعث كيانهم الحقيقي ووجودهم الواضح المؤصل. وكانت مسألة الاحتلال الفرنسي لسوريا ولبنان والجزائر ومراكش وتونس، والاحتلال البريطاني لمصر والسودان والعراق والجنوب العربي والاحتلال الإيطالي لليبيا، أوجب قيام المسلمين بالثورات المسلحة الجهادية، لكن الاستعمار بطول خبرته وكيده، وتقدم بلاده صناعياً تمكن من إخماد كل هذه الثورات بوحشية فظيعة، ثم أوجد الاستعمار تحسباً لنهضة الأمة مرة ثانية الأحزاب المرتبطة به من: الحزب القومي والشيوعي، كما ملأ البلاد بالفساد كالمخامر والملاهي والمباغي وما إلى ذلك.